مقالات وآراء

من السلطة إلى الدولة – تحديات بناء السودان ما بعد الاستقلال.. كيف يمكن الانتقال من سلطةٍ إلى دولةٍ؟ (٧)

 

د. أحمد موسى قريعي

لطالما عانى السودان من هيمنة “السلطة” على حساب “الدولة”، حيث ظلت الحكومات المتعاقبة تسعى إلى السيطرة على مفاصل الحكم دون بناء مؤسساتٍ وطنيةٍ مستقرةٍ. الانتقال من وضعٍ تتحكم فيه النخب الحاكمة بالمؤسسات لمصلحتها، إلى دولةٍ حديثةٍ تقوم على القانون والمواطنة والمؤسسات المستقلة، هو التحدي الأكبر الذي يواجه السودان.

*فما هي الشروط الأساسية لتحقيق هذا الانتقال؟ وهل يمكن تطبيقها في ظل الواقع السوداني الحالي؟*

 

1. *دستور دائم يُبنى على المواطنة لا المحاصصة السياسية*

*لماذا السودان بحاجة إلى دستورٍ دائمٍ؟*

ظل السودان يعاني من دساتير مؤقتة أو متغيرة، غالبًا ما يتم إعدادها وفقًا لمصالح النخب الحاكمة، مما جعلها أداةً لترسيخ السلطة وليس لبناء الدولة.

أدت المحاصصة السياسية إلى تقسيم البلاد إلى تكتلاتٍ متصارعةٍ بدلاً من توحيدها تحت مظلة دستورٍ يعبر عن الجميع.

*كيف يجب أن يكون الدستور الجديد؟*

1. قائمًا على المواطنة كمعيارٍ وحيدٍ للحقوق والواجبات، بحيث لا يتم التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو الجهة.

2. يعترف بتعدد الهويات الثقافية واللغوية، ويضمن تمثيل الجميع.

3. يرسخ مبادئ الفصل بين السلطات، بحيث لا تهيمن السلطة التنفيذية على القضاء أو البرلمان.

4. يمنع احتكار السلطة من قبل أي مجموعةٍ أو حزبٍ، عبر وضع آلياتٍ واضحةٍ للتداول السلمي للسلطة.

 

النتيجة: بدون دستورٍ دائمٍ يعكس مصالح جميع السودانيين، سيظل السودان يدور في حلقةٍ مفرغةٍ من الأزمات السياسية.

 

2. *مؤسسات قومية مستقلة – خاصةً الجيش والقضاء والإدارة العامة*

*كيف تحولت المؤسسات الوطنية إلى أدواتٍ للسلطة؟*

أصبح الجيش في السودان أداةً سياسيةً بدلاً من أن يكون مؤسسةً قوميةً تحمي الوطن، حيث تدخل في السياسة عبر الانقلابات المتكررة.

القضاء تعرض للتسييس والتدخلات التنفيذية، مما أفقده استقلاليته وجعله أداةً بيد الحكام.

الخدمة المدنية خضعت لمبدأ الولاءات السياسية، مما أدى إلى تراجع الأداء الإداري والاقتصادي.

*كيف يمكن إصلاح هذه المؤسسات؟*

1. إبعاد الجيش عن السياسة، وتحويله إلى مؤسسةٍ مهنيةٍ تحمي الدستور وليس الحكومات.

2. إصلاح النظام القضائي، عبر ضمان استقلال القضاة وعدم خضوعهم لضغوط السلطة التنفيذية.

3. إعادة بناء الإدارة العامة على أساس الكفاءة، بحيث يكون التعيين في المناصب وفقًا للقدرات وليس الولاءات.

 

النتيجة: لا يمكن بناء دولةٍ حديثةٍ دون مؤسساتٍ مستقلةٍ تحمي حقوق المواطنين بعيدًا عن نفوذ السلطة.

 

3. *إصلاح اقتصادي يعيد توزيع الثروة ويحقق التنمية المتوازنة*

*لماذا يعاني السودان اقتصاديًا؟*

الاقتصاد السوداني ظل معتمدًا على المركز، بينما تعاني الأقاليم من تهميشٍ اقتصاديٍّ شديدٍ.

الاعتماد على اقتصاد الريع (النفط، الذهب، الزراعة التقليدية)، بدلًا من اقتصادٍ متنوعٍ ومستدامٍ.

انتشار الفساد المالي والإداري، مما أدى إلى هدر الموارد وإضعاف الاقتصاد الوطني.

*كيف يمكن تحقيق إصلاحٍ اقتصاديٍّ حقيقي؟*

1. تحقيق العدالة في توزيع الثروة، بحيث تستفيد كل الأقاليم من الموارد الوطنية.

2. تنويع الاقتصاد من خلال دعم القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة الحديثة.

3. مكافحة الفساد عبر تعزيز الشفافية وتطبيق سياسات الحوكمة الرشيدة.

 

النتيجة: بدون إصلاحٍ اقتصاديٍّ جذريٍّ، ستظل الصراعات السياسية مستمرةً بسبب عدم عدالة توزيع الموارد.

 

4. *إدارة العدالة الانتقالية لمعالجة انتهاكات الماضي دون انتقام*

*ما أهمية العدالة الانتقالية في السودان؟*

تعرض السودان على مدى العقود الماضية لانتهاكاتٍ جسيمةٍ لحقوق الإنسان، شملت الحروب الأهلية، والقتل الجماعي، والقمع السياسي.

ظل الإفلات من العقاب قاعدةً، مما شجع على تكرار الانتهاكات بدلًا من معالجتها.

كل مرحلةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تأتي بمحاكماتٍ انتقاميةٍ بدلًا من بناء مصالحةٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ.

*كيف يمكن تحقيق عدالةٍ انتقاليةٍ فعالة؟*

1. محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات دون استهدافٍ سياسيٍّ أو تصفية حسابات.

2. تعويض الضحايا وجبر الضرر عبر آلياتٍ وطنيةٍ مستقلةٍ.

3. إنشاء لجنةٍ قوميةٍ للحقيقة والمصالحة على غرار تجارب دولٍ مثل جنوب إفريقيا ورواندا.

 

النتيجة: بدون عدالةٍ انتقاليةٍ شفافةٍ، لن يكون هناك سلامٌ مستدامٌ أو استقرارٌ سياسيٌّ في السودان.

 

*هل يمكن تحقيق هذا الانتقال في ظل الصراعات الحالية؟*

رغم صعوبة الوضع السياسي والأمني في السودان، إلا أن تحقيق الانتقال من السلطة إلى الدولة ليس مستحيلًا. لكن ذلك يتطلب:

1. إرادة سياسية حقيقية من القوى الفاعلة للقبول بالإصلاحات.

2. ضغطًا شعبيًا مستمرًا لإجبار النخب السياسية على التغيير.

3. تعاونًا دوليًا وإقليميًا لدعم عملية التحول الديمقراطي دون تدخلاتٍ سلبية.

 

*خاتمة*

الانتقال من “السلطة” إلى “الدولة” ليس مجرد شعارٍ سياسيٍّ، بل هو عمليةٌ معقدةٌ تتطلب إصلاحاتٍ جوهريةً في الدستور، والمؤسسات، والاقتصاد، والعدالة. فإذا لم يبدأ السودان هذه الخطوات الآن، فإنه سيظل عالقًا في دوامة الصراعات والانقلابات.

فهل يستطيع السودانيون كسر هذه الحلقة وبناء دولتهم الحديثة؟ هذا ما سنناقشه في المقال القادم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..