المسلمون في بورما ومـأساة الأقليات

بسم الله الرحمن الرحيم
المسلمون في بورما ومـأساة الأقليات
تجدد القتال مرة أخري في دولة بورما ذكرني بتقرير أليم شاهدته قبل فترة علي شاشة قناة الBBC العربية، يتحدث عن أحوال الأقلية المسلمة في بورما وما تعرضت له من أهوال، تمثلت في التقتيل الهمجي والعنف المفرط وإستباحة كاملة لقراهم وممتلكاتهم، بما يذكر القصص المروعة التي تحكي عن فظائع الحروب الدينية في العصور الوسطي وكمية القسوة والوحشية واللاإنسانية التي وسمت تلك الفترة البربرية من التاريخ الإنساني، لتوصف بحق بفترة الظلام نسبة لتميزها بعمي البصر والبصيرة وضمور وإنعدام الحس الإنساني وروح الاخوة والتعايش حتي ولو في حدها الأدني أي كونهم بشر ينتمون لنفس الجنس او السلالة، وهي مأساة إنسانية قل أن نجد لها مثيل او يستوعبها الوجدان السليم، وخلال التقرير تم الإشارة لفتاة في مقتبل العمر يقتلها الحزن والألم، ذكر التقرير أنها شاهدت أحد المخلتين عقلياً من المسلمين وهو يتعرض للتقطيع بالسواطير، وإمرأة أخري يقتلها الأسي والكمد والخوف ذكر التقرير أنها فقدت جزء من أبنائها في هذه المجزرة، وأيضا إمرأة مسنة مصابة بالذهول والخوف وعدم التصديق ذكر التقرير أنها فقدت كل عائلتها، ومن خلال الصور، تم عرض للمكان الذي كانت تقيم فيه هذه العائلات المسلمة وقد تعرض للحرق وتقطيع الأشجار، وهنالك مبني يبدو عليه أنه مسجد وقد تعرض للحرق والتخريب، وأشار التقرير أن هذه الأقلية المسلمة يعمل معظم أهاليها بالصيد وهم فقراء، وقام معد التقرير بعمل لقاء قصير مع زعيم بوذي (البوذية ديانة الغالبية) وقام بتبرير هذه الأعمل العدوانية علي الأقلية المسلمة، وهو يعتبرهم خطر علي دينه ومجتمعه، وفي النهاية تحول هؤلاء البؤساء بكل بساطة الي لاجئين في بلدهم ترفع عنهم كل حماية.
في البداية لأ أعرف بالتحديد سبب المشكلة او دوافعها الأساسية، وهذا في الحقيقة لا يغير في الأمر شئ، والنتيجة أو ما حدث لا يجد أي مبرر او مسوغ في دولة القانون التي تحتكر العنف وتكفل حق التقاضي بين المتخاصمين وترد الحقوق الي أصحابها وتحرص عن طريق فرض العقوبات الي عدم تكرار الأخطاء والتجاوزات والتحوط من تأثيراتها السلبية علي المجتمع والدولة.ولكن عموما الأقليات في الدول التي لا تعترف بحق المواطنة كحاضنة مساواة و إلتقاء وإندماج بين كل المكونات والأعراق، ظلوا علي الدوام يدفعون الثمن غالياً وهم مستهدفين وعرضة للتهم والتضييق والإزدراء والعزلة، باعتبارهم دخلاء علي البلاد وغرباء حتي لو عاشوا مئات السنين، ولذلك لا يستحقون الإستمتاع بكل ما يتاح للآخرين (الغالبية) الأكثر حيازة للسلطة والمال والجدارة الإجتماعية(أولاد بلد) وهي جدارة مفروضة او متورارثة كما المتاع والأطيان، وهي صيغت بحيث تحافظ علي مصالح الغالبية وبصورة أدق أصحاب النفوذ والمقدرة، ولكن عند القياس علي قيم مجردة مثل الكفاءة والجدية والمثابرة والصبر وحسن الخلق وبكلمة شاملة إفادة المجتمع، نجد العكس هو الصحيح وأن الأقليات هي الأكثر تمسك بتلك القيم من خلال سعيها الجاد للتمسك بها علي الأقل من أجل إثبات الذات في مواجهة الآخر الأكثر تميز وحيازة لكل الفضاء الإجتماعي، وهو تميز مبني علي تصورات ماضوية يعاد تجميلها وتقديسها لخدمة أغراض ومطامح آنية، ولذلك يحرم نقد ذاك الماضي اومساءلته او التشكيك في رموزه، أي تتم تبرئته ليصبح هو المرجعية لزمن مغاير وظروف أكثر تعقيد، والخلاصة من أجل التمسك بالسلطة والإمتيازات يتم أسر الجميع في سجون الماضي وتحرم المجتمعات من نعمة الخلق والتجديد وبناء المستقبل الذي يلبي مقدراتها وطموحاتها، المهم تجد دائما أفراد الأقليات هم الاكثر تضحية وشجاعة وإلتزام بقناعاتهم وإلا لذابو في تلك المجتمعات المسيطرة، وإستمتعوا بخيرت بلادهم بعيداً عن همّ التصغير الذي يواجهونه كل لحظة، وذلك بالطبع إذا لم يعاملوا ككائنات أقل مرتبة لا يسمح لها بالاختلاط وتلويث دماء السادة النقية من الجريمة والخطيئة والغباء!
بما أنني أجهل سبب هذه المأساة كما ذكرت سابقا، ولكن عندما سمعت عن الإصلاحات التي تتم داخل بورما وشهادات الدول الكبري و المؤسسات المالية الدولية بحسن السير والسلوك الذي تنتهجه، توقعت أن هذه الإصلاحات وإعادة الهيكلة والدمج في الإقتصاد العالمي وغيرها من مصطلحات او شراك المؤسسات المالية العالمية الإحتكارية الجشعة، المعادية للمجتمعات الفقيرة والمفقرة لها في نفس الوقت، وهي تؤمن بدينها أوعقيدتها الواحدة مراكمة المال لديها والسيطرة عبره علي الدول والأفراد لتحقيق مزيد من الربحية، إلا وتوقعت أن الأمر مرتبط بإخراج أعداد كبيرة من المجتمع البورمي من الحياة العامة والدورة الإقتصادية المحلية علي الرغم من ضعف مردوها وصعوباتها، ورميه في دائرة المجهول وتعريض أسره للتفكك والضياع، والنتيجة الإرتداد للمكونات الأولية عشائرية/قبلية أو طائفية/دينية مع بروز التناقضات المجتمعية وإخراج لكل شياطين الفتن النائمة، وينعكس ذلك بصورة جلية في حدة الصراع بين الفقراء والمحرومين علي فتات حراس مصالح الدول الكبري سواء كانوا حكام أو راسمالية او منظرين إقتصاديين، وفي ظل هذه الأوضاع يلجأ عموم الفقراء الخائفين من السلطة الحاكمة المستبدة القهرية الي إختيار الحلول السهلة أي بدلاً عن مواجهة الفيل وطعنه في قلبه، أي السلطة الحاكمة سبب المصائب ودعاماتها العسكرية والإعلامية وتمويهاتها المتمثلة في تحقيق قليلاً من الإستقرار الهش ومستوي من الحياة المعقولة لشريحة من المتعلمين الذين يسيرون ماكينة الدولة، فانهم يوجهوا سيف غضبهم وأنياب إحتياجاتهم المادية من أجل البقاء علي قيد الحياة فقط ! الي الحلقة الأضعف في المجتمع(الحيطة القصيرة) وهم الأقليات لينتزعوا منهم حتي الخبز الجاف والحاف من بين أياديهم المرتجفة، ولتبرير هذا الفعل الشنيع يلجأ المعتدون لتصوير تلك الأقليات كأنهم شياطين او نجس او لعنة يجب إجتثاثهم من فوق سطح ارض لتخلوا لهم خيراتها ويرتعوا في نعيمها، وهكذا تدفع الأقليات الثمن في كل الأحوال، ففي عهد الرخاء النسبي او الإستقرار تترك لها المهن الهامشية والمهام الوضيعة، وفي عهود الشدة او عندما تضيق أحوال البلاد(غالبا بسبب أخطاء ممثلي الغالبية الذين يديرون الدولة بصورة مطلقة) يشكك في ولاء أبناء الاقليات إيذاناً وتمهيداً لإبادتهم وتصفيتهم، بإعتبارهم شماعة تعلق عليها كل الأخطاء! وكلها مغالطات غبية والدليل ان الأقليات لم تجد مساحة كافية في السلطة والحكم والمجتمع لتقوم بمساهمتها من موقع حر يسمح لها بإبراز كل قدراتها، ومن ثم تتم عملية التقييم بالسلب او الإيجاب، أي هل أسهمت بقدرٍ كافٍ في ترقية الدولة والمجتمع ام تسببت في ضياع الدولة وإعاقة تماسك وتطور المجتمع، كما يدعي الفاشلون المسيطرون علي الدولة والمجتمع بصورة شاملة والذين وجدوا الفرصة و كل الإمكانيات بين اياديهم، ولكن كانت النهايات فاجعة، فساد في الحكم دمار للدولة وإنهيار للمجتمع، وبدلاً عن الإعتراف بهذا الواقع، يلجأوا لتحميل أخطائهم للآخرين وخاصة الإقليات وبالطبع المبررت جاهزة ومعدة سلفاً، تحكي عن إرتباطاتها الخارجية وعمالتها وتعمدها التسبب في كل الإخفاقات وتفشيل الخطط والبرامج مضمونة النجاح! ولتأكيد هذه الخطرفات او الهروب الي الأمام يستندوا الي إحصائيات الجرائم الحادثة والسجون الممتلئة والجرائم المتعلقة بالمخدرات وغيرها من الإحصائيات التي ترتفع فيها أعداد هؤلاء الاقليات كما تقول السلطات وأظنها بقولها هذا تؤكد مقولة مارك توين(هنالك كذب وكذب لعين وإحصائيات . والإحصائيات أحسن ما يكذب . ولا تعبر عن الواقع.)، وحتي إذا ما إعتبرنا هذه الإحصائيات صحيحة ولكنها تظل ناقصة ولا تعبر عن الرؤية الشاملة او الحقائق الكامنة خلف الارقام الجامدة، طالما لم تتح الفرصة العادلة للجميع لينالوا حظهم من الحياة الدنيا، ولم تتم دراسة أسباب الجرائم ودوافع المجرمين التي تدفعهم لإرتكاب مثل هذه الجرائم، حتي لا تتم إعادة دورة السجون في كل مرة يطلق فيها سراحهم، ويجدون ألا ملجأ من السجن إلا السجن نفسه لانعدام الفرصة الحقيقية لإعادة إدماجهم مرة أخري في المجتمع.
تظل مأساة الاقليات غصة في حلق المشاريع الوطنية الإقصائية وعقبة كأداء أمام آفاق تقدمها بل حتي لفظ الأقلية يشير لنوع من الدونية، وهو إنعكاس حقيقي لحالة العجز التي تعيشها كثير من النظم الدكتاورية والعسكرية التي اخفقت طوال تاريخها ووجودها في الحكم، في إنجاز دولة المواطنة التي تعلي من قيمة الفرد وتحفظ له حقوقه الطبيعية بغض النظر عن جنسه او لونه او دينه او جهته وذلك لسبب بسيط لأنه لأ يملك تجاهها خيار، وذلك ليس لعدم رغبة هذه النظم في تطوير ورعاية هذه الحقوق فقط بل يرجع السبب في الأساس الي عجزها الذاتي وتركيبتها وطبيعة عملها والأهم الطريقة التي وصلت بها الي السلطة وبقول واحد فاقد الشئ لا يعطيه كما يقول المثل، فهي نظم فاقدة للشرعية لاغية للمواطن ولا تري خارج أفق مصالحها الضيقة، لذلك فهي تظل تعمل داخل حلقتها المفرغة وتعيد أنتاج نفسها باساليب مختلفة ولأ تسمع إلا صدي صوتها حتي تقع الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة، وعندها فقط تعلم علم اليقين ان المأساة الحقيقية هي وجودها القسري في السلطة الذي أفرز بدوره كل هذه المآسي من وجود أقليات ومنع دمجها في المجتمع وإنتشار الفقر وتفشي الامراض..الخ، وأنها المسؤول الأول عن كل تلك الفظائع لأن وجودها حرم الجميع من المشاركة الفاعلة في بناء الدولة وأنظمة الحكم و التعاون والتعاضد بين مكونات المجتمع لوضع البلاد في طريق التقدم والرخاء، بل حتي الإنتماء الطبيعي للوطن أصبح المواطن يتجرعه كدواء الملاريا، أي اصابت العباد بتشتت او تشظي الوطنيه لوجاز التعبير، والتعارض في تفسير معني الوطنية أو اولويات حق الوطن في عنق مواطنيه، وكلها تصيب المناعة الوطنية في مقتل.
لكل ذلك يجب ألا تمر هذه المأساة مرور الكرام وتحجبها أحداث وإهتمات لأحقة، لتقبع في ركن النسيان المظلم من ذاكرة أنسان الحاضر المشغول واللأهث خلف راهنه اللصيق به ورهين له والمستنفذ لكل طاقته وزمانه، ولكن يجب ان تظل نيرانها متقدة تلهب ضمير الإنسانية الحي حتي يجد لها العلاج الشافي، بل واجب العالم بعد ان راي بأم عينيه وحفظ في قلب ارشيف سجلاته هذه الفظائع، أن تسارع مؤسساته العدلية لإجراء تحقيق مستقل تتم فيه معرفة كل الحقائق، بما فيها تأثيرات السلطة الحاكمة وإحتكارها للمنافع وتهييج الجماهير ودفعها للإقتتال الأهلي وتحديد الجناة، وألا تتم مكافأة مرتكبيها وغض الطرف عن جرئمهم ومسامحتهم او إعطائهم فرصة أخري لتشكيل المستقبل بعد أن نالوا نصيبهم ونصيب غيرهم من السلطة، وان يتم إرجاع الحقوق الي أصحابها ورد الإعتبار لأولئك الضحايا وان يوفر لذويهم الرعاية والحماية والتعويض العادل والتمييز الإيجابي كضريبة يجب دفعها كي تساعدهم علي النسيان والتصافي، لعودة اللحمة الوطنية والمجتمعية للتماسك والتعافي بين جميع مكونات الوطن، وهي فرصة لفتح الباب وأسعا للنظر بتمعن في قضية الأقليات وما تعانيه في كل دول العالم ويمكن تحديد يوم من أيام السنة يكون خاص للإحتفال بالأقليات لتسليط الضوء علي هذه القضية الحساسة، والعمل من أجل سد الأبواب التي تاتي من خلالها رياح هذه الأفعال البغيضة، حتي يأتي اليوم الذي تختفي فيه هذه الكلمة(أقلية!) وترجمتها الفعلية او وظيفتها الحقيقية وهي السيطرة علي السلطة والثروة والمجد لنخب فصيل محدد، وبقول آخر إذا لم يحطم الثالوث السابق ونسق تراتبيته، وتتم إعادة بنائه علي اسس جديدة تقطع نهائيا مع طريقة عمله، وتشجع علي التميز الفردي وبزل الجهد والعرق لنيل المجد، الذي يصب ريعه ونتاجه في صالح الجماعة، وحث الجماعة الوطنية علي المساكنة وشيوع الحقوق والخدمات بصورة بسيطة وتلقائية لتأخذ نصيبها في بنية الوعي الجمعي وإنعكاساتها المثمرة علي أرض الواقع ودفعه لمزيد من الإزدهار، سنظل نسمع بحدوث هذه الفظائع بإستمرار وعندها يتحمل الجميع ذنب دماء هؤلاء الأبرياء الذين أوجدتهم الظروف صدفة في هذه المكانة. وأخيراً دعونا نتكئ علي أونستأنس بميراث البصيرة والحكمة في معية شاعرنا العظيم والمغفور له بإذن الله حميد ونزداد وعي وإحساس بهذه القضية عبر قصيدة (حمتو)1 التي تلامس بشكل او بآخر هذه القضية وهذا مقطع منها.
وحمتو مرَّة سأل أبوهو
لمّا شفَّع كاتلوهو
وجعوهو وحندكوهو
يابا وين طينَّا وأرضنا ؟؟
قام أبوهو إنضارى غادي
ورشَّ بي دمعو الحدادي
وحمتو صاقع وين أرضنا ؟
وين دواليبنا وأوضنا
وين أهلنا ووين بلدنا
وليش بعضنا يدوس بعضنا ؟؟؟؟
تاني أبوهو إنضارى غادي
ورشَّ بي دمُّو الحدادي
إنت مالك يابا ساكـِ ..
يي مالك الدقّاك مِنو
قام أبوهو إستغفر الله
وشالُّو ملِّين قالُّو يلاَّ
إشتريبه حلاوة يلاَّ
حمتو راح باع الحلاوة
وفي الدرب حاشوهو شفَّع
ومن قَبُل يصل الحدادي
نوحو كان سبّاق وأسرع
ورا أبوهو سبب بكاهو
من عقاب صوتاً مقطَّع
قام رجالة عشان يحصِّل
لاحظ الخطوات بترجع
لي طويقات غلبو قفَّل
وكفلت القلب الموجع
_______________________________________________________
1/ حمتو (ولد حلب او غجر) في قرية الشاعر كمل قيل لي وهم أقوام لا تشملهم اي حقوق ولا يعترف لهم باي جهد.