لقاء مع القراء ـ 1 ـ: «العمود السياسي» فن أيضاً!

غادة السمان

أحب الحوار بين قراء «القدس العربي» فهو يخلو من التجريح الشخصي ومعظم بقية العيوب الأخرى العربية التي تفسد كل محاولة للنقاش في مناخ هادئ..
فالحوار في عالمنا العربي شبه مفقود ولعل جوهر مآسينا يكمن في ذلك. الاتهام لدينا مجاني دونما دليل، وتتم محاكمة (الآخر) بل وإدانته قبل منحه فرصة الدفاع عن نفسه.. الحوار بين قراء «القدس العربي» (قرائي وسواي) على درجة كبيرة من الرقي، وأكرر: ليت بعض السياسيين العرب يتعلم منهم!

أنا فاشلة في العمود السياسي!

قارئ يسألني لماذا لا أكتب عن الاحداث السياسية؟ أسبوعياً؟ والإجابة ببساطة: لأنني لست موهوبة في حقل كتابة «العمود السياسي»، ومن المهم دائماً أن يعترف المرء بالنقص ولا يحاول التطاول على حقل لا يتقنه!..
كتابة «العمود السياسي» ليست تسطير انطباعات عن الأحداث وهو ما أفعله أحياناً وفلسطين هاجسي بل نجد رؤيا لها عمود فقري يربط الماضي بالحاضر ويكاد يشي بالمستقبل.. وهو ما لا افلح فيه في عمود مباشر..
في المقابل: وقد أنجح في الايحاء بالمستقبل ولكن في إطار روائي.. روايتي «بيروت 75» مثلاً التي تنبأت بالحرب الأهلية اللبنانية قبل انفجارها بأشهر حين قالت العرافة فيها للسياسي الكبير: «أرى دماً.. كثيراً من الدم».. وكانت بيروت صيف 1974 ـ يوم صدور الرواية ـ النبوءة ـ (روايتي الأولى) ترفل في العز والرفاهية ويغمرها بالمال آلاف السياح العرب ولا توحي (عقلانياً) بانفجار حرب ما، لكن أحد أبطال الرواية «فرح» يهرب من مستشفى المجانين وينتزع لافتة «بيروت ترحب بكم» ويغرس في مكانها لافتة «مستشفى المجانين».. وللأسف تحولت بيروت خلال حربها الأهلية إلى ما يشبه ذلك حيث اقتتل الاخوة/الأعداء بجنون كما في الحروب الأهلية كلها!!.

قراءة الجريدة «فعل حرية»!

لو طلب مني أحد يومئذ كتابة (عمود) سياسي لاعتذرت.. ثم ان القارئ يجد في «القدس العربي» كوكبة من المبدعين في حقل الكتابة السياسية والتعليق على الاحداث وبينهم بعض كبار الروائيين.. ولست للأسف منهم.. وبوسعه القراءة لهم وليس لي فقراءة الصحيفة «فعل حرية» وحرية الاختيار أجمل ما في ذلك. وإلى جانب الروائي المبدع في (عموده) السياسي يجد القارئ بعض الكتّاب الاستثنائيين في الحقل السياسي مثل الزميل د. محمد جميح وهو من الذين يبدعون أيضاً في حقل التواصل الحواري المباشر.. وحين كنت في بيروت شاهدته على شاشة «الجزيرة» وهو الكاتب السياسي الناجح في «القدس العربي» واكتشفت أيضاً انه محدث بارع.
الدكتور فايز رشيد أيضاً من الذين يتقنون فن كتابة «العمود السياسي» وجرح فلسطين بالذات، ويثير شجوني وأحزاني، ذلك المتشائل! وأنا أحاول باستمرار كتابة ما أظن انني اتقنه من دون أن أزعم انني «الملكة» في الحقول كلها.

جمالية تعليم العربية مجاناً!

الإعلامي الكبير الذي يوقع لي باسم (سوري) جاء تعليقه على ما كتبته «الانتحار خوفاً من الموت» حول موسوعة جمانة حداد يسيل شعراً إذ كتب يقول حول الموت الذي يكتشف الشاعر انه يأتيه ولو كان في بروج مشيدة، مضيفاً: «وهذا الكم الكبير من الشعراء المنتحرين ينم عن روح رهيفة كالكريستال الذي يتشظى من صرخة سوبرانو» وفي حياة كل منا صرخة «سوبرانو» حين نلقى كما يقول «الموت المتحدي لملك الموت، الموت بإرادة ذاتية هاربة من قفص الجسد». ولكنني لن أنسى يوماً إرادة الحياة للغة العربية الغالية حين قام (سوري) نفسه بتعليمها مجاناً للدكتورة في مستشفى شهير في ضاحية «نويي» الباريسية واكتشفنا ذلك مصادفة ـ زوجي وأنا ـ وهو عمل نبيل وجميل، وأجد شخصياً في تعليم العربية أحد الأساليب لمقاومة الموت والانتحار العربي اليومي الجماعي، بالتهام بعضنا بعضاً وانشغالنا عن العدو الكبير الإسرائيلي..

آه العراق ? آه فلسطين ـ وآهات أخرى

نجم الدراجي ينجح دائماً في «كسر مزراب الذكريات» بعودته إلى روايتي «الفسيفساء الدمشقية» وإلى كتبي الأخرى قائلاً انه في إحدى زياراته لبيروت طلب من السائق ان يأخذه إلى مقهى «ماي فير» حيث أحد الأماكن التي كنت فيها ألتقي بغسان كنفاني وقال له السائق باللهجة البيروتية ت كما يذكر ـ «تكرم» ودار به حتى وجد نفسه أمام جدار. وهذا صحيح.. وتأثرت برغبته تلك. وفي رحلاتي لبيروت تفقدت المكان وسواه وهي أماكن ولم تعد موجودة إلا في سطور رسائل غسان كنفاني وفي ذاكرتي.. الأخ الآخر الذي يكتب لي من العراق الحبيب د. أثير الشيخلي يقول ان تجربة كتابتي من فوق السحاب في الطائرة ذكرته بأغاثا كريستي ورواياتها البوليسية حيث القاتل هو دائماً آخر المشتبه به..
يا عزيزي، أنا القاتلة الفاشلة للذكريات!! وكلما ذهبت إلى بيروت أمر بتلك الأماكن اللامنسية وما من لقاح ضد الذاكرة، في المقابل، لن أنسى يوماً صباحي الأول حين زرت بغداد، وأسمع الآن صوت عامل الهاتف في «فندق بغداد» ـ لعله لم يعد موجوداً ـ وأنا أطلب منه فنجان قهوة ويقول لي عبارة جميلة سمعتها للمرة الأولى هي «تتدَلّلي».. ويومها «تبغددت» كما كانت جدتي تتهمني وسعدت بأنني «تبغددت» وهو تعبير دمشقي يعني الأنفة وكبرياء ثراء الحياة..
الأعزاء القراء الذين يعرجون في رحلاتهم لبيروت ودمشق إلى أماكن ذكرتها في كتبي قد يرون أشباح رفاق الأمس وها هو الشهيد الرائع غسان كنفاني في انتظاري أمام مقهى (الماي فير) الذي لم يعد موجوداً بل ويسألني: لماذا تأخرت هكذا عن موعدنا؟ في بيروت يلامس الماضي الحاضر وتتنزه أشباح الراحلين مع الأحياء..
وإلى اللقاء في الأسبوع المقبل أيضاً مع رسائل القراء..

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..