النسوية الإسلامية الرافضة خارج السرب? فمن داخله؟

جوخة الحارثي

كتاب فهمي جدعان الموسوم بـ«خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية»، وقد صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في بيروت، عام 2010، يحيلنا العنوان إلى وجود سرب بالضرورة، وهذا السرب متجانس بشكل ما، ولكن هناك «خروجا» عليه، والخروج تأتَّى- كما بيَّن القسم الثاني من العنوان- من النسوية الإسلامية الرافضة التي خضعت لإغراءات الحرية، فرَفَضتْ وخرجَتْ عن السرب، وجاز إذن تصنيفها بالخروج، ونعتها بأنها في الخارج: «خارج» السرب، فهل كان يُفترَض بهذه النسوية الرافضة أن تكون داخل السرب؟ وهل الخروج عن السرب هو استجابة ? غير مشروطة- لإغراءات حرية غير مشروطة؟ أريد أن أقول إن العنوان يحمل حكما معياريا، وكأنه يوجه القارئ منذ اللحظة الأولى لاتخاذ موقف محدد من هذه النسوية الرافضة، باعتبارها خارج السرب المتناغم بالضرورة، ونلاحظ أن من معاني السرب في المعجم: القطيع، كما أنها كلمة مربوطة بالأمن في بعض السياقات، فهل الخروج عن السرب «الآمن» إلى إغراء الحرية «الخطر» فرضية مسبقة لبحث فهمي جدعان، أم نتيجة من نتائج هذا البحث؟ وإلى أيهما (الفرضية أم النتيجة) يرمي هذا العنوان؟ وإذا تمعنا أكثر في ماهية الخروج عن السرب فإن تساؤلات عدة تعترضنا، هل هو خروج عن المجتمع؟ هل هو خروج عن تقاليد وثقافة هذا المجتمع؟ أم خروج عن الإسلام والقراءات القارة له؟ أم هو خروج ـ في مستوى آخر- عن العربية كون كل هؤلاء النسويات لا ينتمين إلى العالم العربي ولا يكتبن باللغة العربية؟ وهذا يقودنا لإشكالية أخرى مهمة تتعلق بالمنهج، فالمؤلف لم يوضح لنا مقاييس ومعايير اختياره لنماذجه، ففي اختيار المؤلف الاقتصار في بحث النسوية على تفكير أربع نساء «مغتربات» غير ناطقات بالعربية، إيهام بأن التفكير النسوي تفكير «متسلل» وإلا فما القول في التفكير النسوي لدى نساء يعشن في مجتمعاتهن ويُتقِنَّ العربية وينشرن بها؟
يقسم الكاتب «النسوية الإسلامية» إلى قسمين رئيسين:
النسوية التأويلية، والنسوية الرافضة، يميز الكاتب تمييزا مهما بين «الإصلاحية الإسلامية» التي ارتفعت أصواتها في القرن العشرين مطالبة بفهم مسوغ للنصوص الإسلامية «المشكِلة» على ضمير الإنسان الحديث بشأن المرأة، و»النسوية» التي تحاول تجاوز النصوص أو تعليقها أو تعديل الفهم. وتبعا لهذا التمييز الأولي يخلص الكاتب إلى التمييز الثاني الأكثر أهمية بين «النسوية التأويلية»، و»النسوية الرافضة»، ذاهبا إلى أن الثانية ترفض الدين جملة وتفصيلا، في حين تدعو الأولى إلى الرجوع إلى القرآن نفسه وإعادة قراءته قراءة غير حرفية وغير ظاهرية، ليتبين خطأ القراءة التقليدية «الذكورية» للقرآن، وعدم مشروعية استبعاد النساء من المجالات الدينية والعامة، وقد عززت النسوية التأويلية مناهجها في الاجتهاد باستخدام الآليات اللسانية والتاريخ والتحليل الأدبي وعلم الاجتماع، وخلصت إلى أن أشكال عدم المساواة بين الرجل والمرأة الشاخصة في الشريعة الإسلامية ليست مظاهر للإرادة الإلهية، وإنما هي تركيبات إنسانية، وعناصر تمييز استخلصها الفقهاء «الذكور» لمنفعتهم. وقد ضرب الكاتب أمثلة لهذا الفكر التأويلي بطروحات أمينة ودود، وأسماء برلاس، ورفعت حسن. وقد خصص فهمي جدعان لهذه «النسوية التأويلية» الفصل الأول من كتابه، وعرضها بأسلوب متعاطف معها، متفهم لمنطلقاتها وطروحاتها، واصفا إياها غير مرة بالمرموقة والأصيلة، ولكنه ?مع ذلك- تركنا في فضول وحيرة بشأن آلية التلقي في العالم الإسلامي لهذه الطروحات العلمية «الأصيلة»، فهل فكر علماء المسلمين في دراسة هؤلاء العالمات ونقدهن؟
وإذا كان المؤلف قد خصص الفصل الأول «الطويل» من كتابه للنسوية الإسلامية التأويلية، فقد خصص الفصول المتبقية لما سماه بـ»النسوية الإسلامية الرافضة»، مبينا بوضوح أن الهدف من النظر فيها هو الفهم والتقييم النقدي وليس الترويج لدعاواها.
لقد نجم تيار «النسوية الإسلامية الرافضة» من اصطدام «النسويات الرافضات» بالحرية في الغرب، بعد الخضوع لجملة من الممارسات القمعية في الدول المسلمة. وأولى هؤلاء تسليمة نسرين، البنغالية الأصل، ونسويتها متجذرة في تجليات الدين في الحياة الاجتماعية اليومية، وفي استخدام الأصوليين للدين في حراكهم الاجتماعي والسياسي ونظرتهم للنساء. والثانية هي أيان حرسي علي، الصومالية الأصل، وقد استندت إلى حياتها الشخصية المليئة بالآلام وتسلط الأب وهجر الأم لتتجه إلى العنف اللغوي في الهجوم على الإسلام، أما النسوية الثالثة فهي إرشاد منجي، الأوغندية الأصل، التي أصدرت عام 2003 كتابها (المشكل مع الإسلام اليوم)، وقد ترجم إلى لغات عدة مثيرا جدلا واسعا. آخر نسوية رافضة هي نجلاء كيليك، التركية الأصل، الألمانية الهوية، وتنطوي أبحاثها، خاصة في كتابيها «العروس الغريبة»، و»الأبناء الضالون» على طرح مركزي يحكم العملين، هو أن الصعوبة في الاندماج ـ في الغرب- آت من الثقافة ومن الدين، لأنهما مضادان لقيم الأنوار والحداثة.
ويختتم جدعان كتابه بتخصيص الفصل الأخير الذي عنونه بـ»معركة التنوير» لمناقشة ومحاجة منطلقات ونتائج النسويات الأربع الرافضات. إن نقده لهذه الطروحات يرتكز على ثلاثة محاور: المكان الذي انطلقت منه، وغياب البعد التأويلي لقراءة النص، والجذور النفسية الشخصية. فالمكان هو فضاءات الغرب «الحرة» التي أتاحت لهؤلاء الرافضات مساءلة المقدس والدخول في سجال معه، والمؤلف يعلق بأن الإسلام لم يعد محصورا في الجزيرة العربية، وإنما أصبح «معولما». وفي رأيي أن صياغة كلمة «معولم» توحي بنوع من «الإكراه» لهذا الإسلام حتى يخرج إلى العالمية، ويُكرَه على اشتراطاتها، وأحسب أن المؤلف يرمي إلى أن الإسلام منتشر عالميا، ولكن لا يمكننا إغفال الحمولة الدلالية السلبية لكلمة «معولم»، وعلى كل حال فهذا الفضاء الغربي فتح الباب للنسويات الرافضات في رأي المؤلف، ولكن ماذا عن النسويات داخل العالم الإسلامي؟ لم يبرر لنا المؤلف منهجه في استبعادهن من دراسته.
كما يسلط المؤلف الضوء على الجذور النفسية للنسويات الرافضات، خاصة على «صدمات» السنين المبكرة من حيوات هؤلاء ودورها في تشكيل الخروج والرفض لديهن، ولكنه يسرف في هذا الجانب، من دون أن يجيب على سؤال جوهري وهو أن كثيرا من النساء المسلمات غيرهن قد خضعن لظروف شبيهة ثم هاجرن إلى الغرب، من دون أن يتحولن إلى رافضات بهذا العنف، فإلى أي مدى تصلح «الظروف الشخصية وخبرات الصـــــبا الســـــيئة» لتفســــير الخـــروج عن «السرب»؟ وماذا عن الرافضات اللائي بقين ـ من الناحية المكانية على الأقل- داخل السرب؟
على الرغم من أن المؤلف يشير إلى مسؤولية الفقهاء الخاضعين لأحكام ظروفهم التاريخية ومجتمعاتهم الأبوية أو البدوية، فإنه لا يتوسع في هذه النقطة المهمة، وهي التي ينبغي ـ في رأيي- التركيز عليها، فتفسيراتهم القارة عبر القرون للنص هي التي أدت غالبا إلى إعطاء «الثقافة والممارسات» سلطة المقدس، ومن ثم ألحقت بالنساء ظلما، وأدت لاحقا بنسويات الرفض إلى هذا الخروج الصاخب، فلا بد من وضع الفقهاء في سياقاتهم التاريخية والاجتماعية، والتركيز على منهج حديث يحرر العالم الإسلامي من القراءات القديمة لهؤلاء الفقهاء، فلا يكفي أن نطالب الناس بالتمييز بين الدين والثقافة، فالقراءة الحرفية للنصوص ساهمت في صنع ثقافة الواقع.
يمكننا النظر إلى كتاب «خارج السرب» لفهمي جدعان من حيث هو كتاب في تشخيص حاضر الإسلام والمسلمين، وفي تفحص مستقبلهم ومصيرهم، ولا شك أن اعتماده على مبدأ: «الحرية الفكرية ليس لها من راد سوى الحرية الفكرية النقدية»، جعلت الكتاب ثريا في المعلومات والتحليلات وسادا لثغرة كبيرة في هذا النوع من الدراسات، وقد يرى بعض الناس أن الإصلاح الاجتماعي والتعليمي أكثر تقبلاً وفاعلية في الواقع العربي الراهن من الخطابات النسوية الثورية، التي لا تستطيع التأثير في المجتمعات العربية والإسلامية، وتبقى في أفضل الحالات رهينة الفضاء الغربي، ولكن هذا لا ينبغي أن يقود إلى التقليل من أهمية دراسة تلكم الخطابات الثورية وتحليلها، خاصة مع نفوذها في وسائل الإعلام الغربية، وتكريسها صورة الإسلام «العنيف وغير المنصف للمرأة» النمطية التي يجري تعزيزها في الغرب.

٭ كاتبة عمانية

جوخة الحارثي
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..