قصة قصيرة – الكوز

*( المساواة تعني ألا يبلغ أي مواطن من الثراء حداً
يجعله قادراً على شراء مواطن آخر، وألا يبلغ مواطن من الفقر
حداً يضطره إلي بيع نفسه ..)
– جان جاك روسو ?
.. في احدي الصباحات الصيفية ، انتشر الخبر بسرعة البرق .( نجيب) طرد من عمله الوظيفي وعاد من الخرطوم إلي القرية برفقة عائلته وحوائج بيته البسيطة .
منهم مَنْ قال: إنه سرح بسبب جنونه ، ومنهم مَنْ قال: طرد لعدم انضباطه الوظيفي ، وكثرت الروايات ..
إلاّ أن الجميع متفقون على أنه شاب فقير وشبه أمي .
التقيته مرة في ميدان أبوجنزير، وفي عينيه كلامٌ حزين ، وحكاياتُ تعبٍ لا تنتهي … صافحته بحرارة وراح يحكي لي كيف فصل من عمله ، وانه سوف يعمل بالتجارة ، ثم ودعته على أمل اللقاء .
كانت إجازاتي السنوية أشبه براتبي الشهري؟ مضت السنون وشوقي يزداد إلي ( اللعوتيبة ) القرية ووديانها وبساتينها وجداولها الكثيرة ولسكانها البسطاء الطيبين ، وإلي كلمات خالتي ( حليمة ) وهي تدعو الدجاجات لتأوي إلي بيتها الخشبي … وصلت عصراً ، ورشة عمل كاملة تشيد بناءً ضخماً بطرف القرية وعرفت بنفس الليلة إن صاحب البناء هو (نجيب حلاب النملة).
لم تكتمل فرحتي في قضاء إجازتي القصيرة ، بسبب وفاة أحد وجهاء القرية ، فوجئت بصاحبنا نجيب يتقدم الصف الأول .
همست في أذن صديقي: أرى نجيباً في الصف الأول وهو في حال حسنة ، وهندام جيد لم أره عليه من قبل .. ما الأمر؟؟!!
– ابتسم قائلاً: (.. .. .. كل شيء تغير ).
قلت: ماذا تقصد؟
رد بشيء من القلق: الأحوال تتغير … وتابع حديثه بحذر- يا أستاذ أصبحنا في زمن العولمة.
ضحكتْ وخفت أن يسمعني أحد : يا رجل هل وصلت العولمة إلي ( اللعوتيبة ) قريتنا؟؟ مستحيل مستحيل … شدّ على يدي وقال:
بُعدك عن القرية أبعد عنك كثيراً من الحقائق الجديدة.
تابع صديقي حديثه: هذا المعتوه ( نجيب حلاب النملة) أصبح كوز يقرف مِن كل مكان ،هذا الذي جعله من وجهاء القرية ألم تر بيته (الفيلا)؟؟؟ غير المزارع .. هل تعلم أنه ظهر على شاشة التلفاز أكثر من مرة عن طريق صاحبنا أبو .. .. ..
قلت باندهاش: وما العلاقة بينهما؟
هز رأسه قائلاً : أليس لكل أبي (دقن) ، وأخونا نجيب أصبح (كوز) له دقن كما ترى ، ويملك الآن ثروة لا بأس بها .
وأضاف قائلاً: تصور أنا مهندس وأرسب بالانتخابات المحلية وينجح أمثال صاحبنا ( التيس)!!!.
… ودعت صديقي على أمل اللقاء به مساءً لنقضي السهرة في حوش بيت عمي الجميل ، ونتبادل أحاديث الطفولة .. حل الظلام وآن وقت اللقاء وإذا برجل يرتدي ثوباً غير ثوبه حالقاً ذقنه على غير عادته ، يجلس بجانبي وحياني بشيء من المودة والثرثرة الحميمة . وعرفت بعد المعاينة والتمحيص والقراءة في ملامحه ، عرفت أنه (نجيب) صديق أيام الطفولة .. قلت له:
– أهلاً بك !!
رد عليَّ بعد أن وضع رجلاً فوق رجل قال بسرعة كأنه يريد أن يختصر حياته في كلمات :
– يا أستاذ أنت لم تزل بسيطاً كأنك لم تخرج من هذه القرية ، ولكن أنا أدركت كيف تحسن الأحوال ، وتجمع الأموال ، وتتبدل الأفعال والأقوال .
عرفت بعد ابتعاده عني كيف أمكنه إن يبني واقع حال مختلفاً عن واقع حاله السابق وأدركتني الحسرة وكلمت نفسي بأسف بالغ : ( لماذا نسمح لتيار الخراب أن يقتل جمالنا ويجرف إنسانيتنا ، ويتركنا متعبين من غير قيمنا وحقيقة حياتنا وعيشنا ؟؟).
من مجموعة (اللعوتيبة) وهي متوالية قصصية.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. دا يا مان وحياتك دكتوراه تخصص كيزان..أرجع على غوغل شوف كاتب كم كتاب فيكم يا كيزان/نايل لا تلتفت لهكذا ناس وانخر فيهم كالسوس وافضح وعري عمائلهم كويس بلغة بسيطة

  2. هذا الواقع المر يقتلنا لانك لو بحثت ستجد في كل قرية و مدينة امثال نجيب, و هذا ما يجعل هؤلاء اللصوص يحكموننا ابد الدهر لان من بينهم نجيب و اخ نجيب و احت نجيب و عمة و ابن عمة نجيب الخ الخ الخ, اصلاح الحال و الواقع يسبقه اصلاح النفوس كما تمام الصلاة يسبقها الوضوء … (السودانية هي الحل)

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..