المقالات والآراءيحي فضل الله

كادقلي بين الضحكة والبارود (3)

منمنمات

استاذي الزاكي جمعة يوسف
لك التحايا و عميق الود
اقول ، رسالتك الحميمة جعلتني أتحسس ذاكرتي و أحاول ان أتحمل عبء تقريظك لي و أحس باني أتحالف مع فرح خاص و كثيف لانك تتابع ما أكتب و أعتقد أن ان لي الحق ? كل الحق ? في ان اتباهي بذلك و أعجز تماما عن ان تمتص كلماتي معاني التقدير و الشكر و الإمتنان
استاذي
تحاصرنا الغربة في زمن تشيخ فيه المدن و لانملك إلا ان نلوذ بطفولة و صبا تلك المدن في ذاكرتنا ، تري اين تهرب ايدلوجيا القبح من كل تلك التفاصيل ؟
هل لا زالت (الابيض) ? اب قيه فحل الديوم- هي تلك (الابيض) ؟ ، هل لا زال شبابها يلتقون في (جروبي) او (مونتانا) ؟ ، هل لا زالت خطواتهم تواقع ليل الشوارع الدافئة ؟ ، هل لا زالت سينما (عروس الرمال) او (كردفان) تقدمان عروض الدور الثاني ؟ ، هل لا زال ليل (الابيض) هو ذلك الصاخب الممراح ؟ ، ها هي مدينة في ذاكرتك تموت الاف المرات في بؤس التفاصيل و كيمياء الخراب ، صديقي الشاعر الراحل المقيم (عمر الطيب الدوش) حاول ان يجذر صرخته الجمالية ضد اخطبوط الخراب الذي حاصر المدن فقال :-
( و لسه بترقد الخرطوم
تمد اوراكا للماشين
تطل من فوق عماراتا
تلز اطفالا في النيلين
و ترجع للرقاد تاني ؟)
تأمل معي هذا التساؤل عن عاصمة السودان تلك التي كان لها ليل إستعارته الموضة ( الخرطوم بالليل) ، الخرطوم تلك التي ثأر في وجهها الشاعر (فضيلي جماع) ناعتا اياها بغابة الاسمنت في موجة حنين خصوصية لكردفان التي يشح فيها الماء بينما الخرطوم تتباهي بالنوافير ، علي كل ها هي المدن تتماهي مع الخراب و تقذف بنا الي متاهات المقارنة بين ما كان و ما هو كائن الان ، لإن ذاكرة السوداني ترتبك تماما امام هذه المقارنات و دونك مدرسة (خورطقت ) الثانوية التي حولت الي معسكر للدفاع الشعبي.
شكرا لك استاذي و انت تعيد الي ذاكرتي اسم الاستاذ الفاضل (حسن البلاع) فقد إنزلق قلمي خالطا بينه و بين شقيقه (عبدالرحمن البلاع).
الاستاذ ( حياتي الطيب) ، مشاكسات حميمة قربت بيننا و جعلتنا اصدقاء ، كان يصر ان تكون العربة (الداف) هي عربة للمدرسين فقط و كنت اعلن إحتجاجي علي هذه الفكرة خاصة بعد إنهاء اليوم الدراسي ، حاول مرة ان ينزلني من العربة و لكني إنحزت الي نوع من العناد وحدث مرة ان تأخرت عن حصة الكيمياء ? كانت (دبل كيمياء) ، عادة ما تكون الصباح – وحين نقرت علي الباب مستأذنا للدخول ، سألني عن سبب تأخري و معي بعض الزملاء فأجبته قائلا و بطريقة تؤكد رفضي لفكرته تلك :- ( و الله عربة المدرسين إتأخرت) فأذن لنا بالدخول ولكنه إستدرك معني ردي ذاك وانا في طريقي لاجلس علي الدرج ، إنفعل متسائلا :- ( منو القال عربة المدرسين ؟ )
( انا )
( إنت بيتكم فيهو بلاط ؟ )
كان هذا السؤال مفاجئا لي لانه قرر و بطريقته في السخرية ان يصيبني بوابل منها
( لا ، ما عندنا بلاط في البيت )
( لا كده معليش ، لكن برضو حاول تتعلم تمشي في البلاط )
فقد كنت أجرجر رجلي بطريقة مزعجة و أضاف بحدة :- ( أطلع بره و بعدين قابلني في المكتب )
و قد كان ، كان الاستاذ (علي عبدالواحد) جالسا علي مكتبه و بطرف خفي كان يتابع ما يدور بيني وبين الاستاذ (حياتي) الذي كان منفعلا جدا
( شوف لو إنت صعلوك ، انا من صعاليك امدرمان )
( و الله يا استاذ انا ما صعلوك ، لكن انت براك قلت انك صعلوك ومن صعاليك امدرمان )
وهنا إرتبك الاستاذ (حياتي) امام ردي هذا و استعان بالاستاذ (علي عبدالواحد) الذي وقف بجانبي بتلقائيته المعهودة واستطاع ان يصلح بيننا ، الاستاذ (حياتي الطيب) من المعلمين الممتازين حقا وله علاقات حميمة مع الطلاب برغم الحدة في طبعه و قد قاد فريق المدرسة الرياضي الي (الابيض) في الدورة المدرسية كصديق حميم ، قبل مجئ الي ( القاهرة) في العام 1995م كنت أزوره كثيرا في سوق (امدرمان) حيث أمتلك دكانا للإسبيرات تاركا مهنة التدريس بعد ان عاد من إغترابه ، الاستاذ (احمد حسين) استاذ الفرنساوي أخر عهدي به في مدينة (الابيض) عام1980م و في نادي (المصارف) حيث جاء و معه زوجته ليشاهد مسرحية (مطر الليل) لجماعة السديم المسرحية و لقد سعدت جدا بوجوده في ذلك اليوم وعلي ذكر المسرح ، أذكر ان الاستاذ (فضل الله التوم) قد قاد نشاطا مسرحيا في المدرسة ولكني لاسباب لا أعلمها لم اكن منحازا لاي نشاط يخص هذا الاستاذ فقد كنت أحس بان هنالك خللا ما في علاقتي به ومن حسن حظنا في القسم الادبي إبان تلك المشكلة بين القسم وهذا الاستاذ الذي كان يدرسنا الادب الانجليزي وحين رفضنا ان يدرسنا جاء الاستاذ (عزرا ولد دبوس ) هل تذكره ? كان من ابناء جنوب السودان ? فقد كان متمكنا برغم تلك الفوضي التي تسيطر علي الكثير من تصرفاته ، كان ممتعا في تدريسه لتلك المادة ? الادب الانجليزي ? وقد أحرزت فيها درجو كبيرة(93) ولكن للاسف كان قد تقرر حذفها من (البوكسنق) و بسبب هذا الامر حدثت مشاحنة بيني و بين الاستاذ( عبدالرحمن العبيد) علي ما أظن ، في مكتب القبول بجامعة الخرطوم .
أستاذي الزاكي علي ذكر (جلال تاور) ÷ اذكر انه درسنا في الابتدائية مادة التاريخ و اذكر انه كان متحمسا جدا و به صفات من تلك الثورية الزائفة اعتقد انها إستأمنت روحه وهو يؤدي تلك المهام .
اعود معك الي كادقلي التي قلت عنها :- ( مدينة كانت تنام علي اصوات الموسيقي و يستنشق أهلها عبير الياسمين و الريحان و الان يستنشق اهلها رائحة البارود و رائحة الجيف ) أعود الي كادقلي منتميا الي الشعر كي اهديك هذه القصيدة
كادقلي أهزوجة للتداعي و الانسجام
———————————–
إستشرت العذوبة
وأعرف أني
إنتخبت الألق
و أعرف شوقي
يعربد في جنبات الشوارع
يدك حواجز حظر التجول و يغري الاماني بحلم الوصول إليك و أنت التي سكنتني
وأعرف
ان الطريق إليك طويلة
و ان إنتظاري إنتصاري
علي قبح كل الحروب
و حاسة نهب الشوارع
لدرب إليك يؤدي
وأعرف شوقي
سيغري الطيور
بحمل الرسائل
يراود كل النسائم
عل النسائم
تعرف معني العذوبة
و تجهل عمدا
سلاح اللذين
إستباحوا الشوارع
و سدوا منافذ
خطوي إليك
و أعرف
أني إنتظرت طويلا
وان البلاد الحميمة
باعت في سوق الحروب الصغيرة معني الأمان
ولم يبق إلا احتمالي بروح تشف تجادل طعم إفتقادي لسحرك لدفء الاصابع حين الاصابع تعلن أنا اتحدنا ذهبنا عميقا في صمت الغرام عميقا عميقا و جرح إبتعادي ينز و يصبغ لون المساء بحرقة شوقي إليك
أعيد انسجامي
وكيف انسجامي ؟
و أنت غياب غياب غياب
و هذي المدينة ضاع التماسك فيها
و عربد فيها السلاح
تمر عليها الطيور حزينة
و تبقي قليلا
تفتش عن ذكريات الأمان
تغرد لحنا حزينا
و تترك دون إرتياح
لريش الجناح
يعمق معني الفرار
وتشرخ هذي المدينة
لحن التواصل
تهمد حينا
و حينا تضج
ويغدو عليها
إنتظاري محال
و أعرف
ان الحصار
حوار الخلايا
التي سكنتها الحبيبة
وأي حصار
بكل معاني الحصار
دمار
فيا شوق … يا ….
هذا الذي لا ينطفئ
هل يبقي شئ لم يقال ؟
يا سر هذا الذي ينتهي
إلا لكي يبدأ إحتمال
في إحتمال
يا حال
كيف الحال ؟
يا عتمة الدرب
الذي يمتصني
كيف يبقي الحال
نعم الحال ؟
وذاكرتي أحرضها
كي تمد اللحظة النشوي
و تمتد في صمت الشوارع
دلت دموع النساء اللواتي
إعترفن بسر المكان الأليف
ولون الفراق
إستعان بلون الشفق
دلت دمع النساء علي صمت كل الضواحي حين الرحيل اضاع البقاء و تفقد كل الأماكن عمق إرتعاش الحياة
و أعرف
اني أحرض شوقي
وكل الخواطر
أعيد إنسجامي
أطمئن خطوي
ألون كل الشوارع
بلون إشتياقي
وأعرف
ان الطيور الأليفة
تمر
و تنشد
دون إدعاء
نشيد الحياة
———————————-
استاذي الزاكي جمعة يوسف
شكرا لكل هذا التحريض الجميل .

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الأستاذ/ يحي فضل الله
    لك التحية و لك الشكر فقد أعدت لنا ذكريات عروس التلال وتلو والداف وذكريات الخريف وخور حجر المك والأستاذ عيذرا ودبوس رحمه الله ، والأستاذ البلاع العبقري الشهم و الأستاذ حياتي… على فكرة الأستاذ أحمد حسين أستاذ اللغة الفرنسية هو حاليا بالمعاش بمدينة الأبيض ولو لك اتصال بالدكتور عجب الدور ؟ أتذكره ؟ البروفسر أحمد عبدالله عجب الدور الطبيب الماهر ومدير جامعة كردفان حاليا وصديق أبو القاسم قور بتلو سابقا ( الدكتور قور حاليا) طبعا كنا في الداخليات وقتها وكنتم أنتم أولاد الديم و أولاد الحلة… يا لها من ذكريات.

  2. الأخ ود شيكان
    كنت بداخلية عجبنا ، طبعا كانت في طرف الداخليات من الناحية الشمالية الشرقية وكنا نغادر الداخلية في عطلة نهاية الأسبوع للتجول في الجبال والتلال المجاورة خاصة جبل الطير ، و أحيانا على الدراجات صوب (أم سردبة )، فكادقلي وما جاورها غاية في الجمال والتألق وانسانها من أطيب أهل السودان وأعزبهم تبسما في وجه الغريب ويكفيك أن تقرأ عنهم عبر ما كتب ابن المنطقة الأديب يحي فضل الله وأستاذنا الزاكي جمعة يوسف وسبق أن قابلت أستاذنا (أم بدة) صدفة في مدينة النهود وكنت عابرا وقتها في سفر وأول ذكرياته عن كادقلي طيبة أهلها وتواضعهم الجم ، ورغم أنني أعيش خارج السودان منذ أكثر من عشرين سنة الا أنني أتذكر جبال كادقلي كلما اخضرت جبال الروكي في أمريكا الشمالية في بواكيرالربيع من كل عام وقد زرت كادقلي مرارا رغم بعدها عن مسقط رأسي وقد زهلت للمعاناة التي كابدتها في السنوات الأخيرة فعوضا عن خرير الجداول عند شلال (كلبي) بات أزيز المدافع ولعلعة الأسلحة الصغيرة والمتوسطة. و قد زرت منزل العم آدم ومنزل السائق (سيلفر) وأغلب منازل أعمامنا من العمال والطباخين من أهل كادقلي الطيبين الذين ساعدونا على النجاح في الحياة. أعاد الله الطمأنينة للسودان وأهل كادقلي وشكرا للشاعر والمسرحي والقاص يحي على التواصل عبر يراعه المبدع.
    سليمان محمد أحمد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..