هل ما نأكله هو (الحرت مرت)؟

مررت صباح الأمس بالمعمل الذي أجريت فيه اليوم السابق فحصاً شاملاً.. بعد أن استلمت النتيجة وشرح لي الفني المختص محتواها، وجدت أنني أعاني من بين ما أعاني من أدواء ضعفاً في الدم يكاد يقترب من حالة فقر الدم، وسبحان الله فعند وصولي المكتب وبدئي في تصفح الصحف وقفت عند عدد من الحالات المرضية لسودانيين كتب عنها العزيز عبدالعظيم صالح رئيس تحرير الغراء (آخر لحظة) تحت عنوان (ناس عيانة)، وكان أكثر ما استوقفني في كلمته تلك، الفقرة التي ذكر فيها أنه كان قد طلب قبل أعوام من قريب له يعمل طبيباً في لندن العودة إلى السودان والعمل فيه، يقول عبد العظيم إن قريبه الطبيب لم يستنكر طلبه فحسب، بل رد عليه بغضب قائلاً (أمشي أعالج ناس جيعانين).. صحيح أن وصف هذا الطبيب لأهله وبني جلدته بـ(الجيعانين) قد تبدو صادمة ومستهجنة، لكنها بكل أسف ليست إهانة متعمدة وإنما هي الحقيقة المرة التي يكابدها غالب أهل هذا البلد، وإليكم الدليل الموثق من أعلى سلطة صحية بالبلاد…
قبل نحو عامين كانت وزارة الصحة قد كشفت في تصريح لها منشور عن ضعف المناعة الطبيعية عند السودانيين، وإذ تقول الوزارة ذلك فإنها لم تذهب بعيداً عن المعنى الذي قصده طبيب لندن، ويبقى ما قاله هو عن الجوع وما ذكرته الوزارة في توصيفها للحالة الصحية العامة بأنها تعاني من ضعف المناعة الطبيعية، ليس له سوى معنى واحد، وهو أن أجسامنا لم تعد تقوى على مقاومة الأمراض ودحر الجراثيم والميكروبات بالكفاءة والقدرة المطلوبتين لوسائل دفاعنا الطبيعية، وقد صدقت الوزارة ولم يخطئ الطبيب، فمن يرى حال الناس العامة في الشارع العام أو في مواقف المواصلات أو داخل البصات والحافلات، أو هم يتحلقون داخل وحول مستشفيات الميري أو في أي ملتقى أو تجمع شعبي، يلحظ بوضوح الرهق والتعب والضعف البائن على محياهم وخطواتهم المتكاسلة، بل إنك قد لا تحتاج أكثر من أن تنظر لنفسك وتقيّم حالك الصحية لتكتشف أن مناعتك قد ضعفت وصرت أكثر قابلية لاستقبال الأمراض، وكيف لا تضعف المناعة وقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية وبلغت سقفاً لم يستطع بلوغه السواد الأعظم، وهذا وحده من أكبر أسباب إضعاف المناعة التي يحتاج بناؤها إلى التغذية الكاملة المتوازنة وبكمية معلومة صحياً، وإلى عدد معلوم كذلك من السعرات الحرارية التي تمد الجسم بالطاقة والحيوية، هذا غير حاجتها إلى الراحة والهدوء والنوم الهانئ لساعات كافية. إذن كان من الطبيعي مع البوش والكرشة والحشو أن تضعف المناعة.. فهل ترانا على قول جداتنا إن الذي نأكله هو (الحرت مرت.. بكسر الحاء والراء والميم والراء)، الذي كن يشتمن به أحفادهن حين يغضبن منهم؟…