المقالات والآراءيحي فضل الله

معايشة

السيد / عميد المعهد العالي للموسيقي والمسرح ))
الدكتور خالد المبارك المحترم ،،،
(( أفيدونا بصحة الابن يحي فضل الله العوض .

كان هذا نص البرقية التي أرسلها والدي من كادوقلي إلي الدكتور خالد المبارك للاطمئنان علي صحتي ، كان ذلك في منتصف العام 1980 وكان المعهد في أول إجازته وكان إتحاد الطلاب ينظم ورشة عمل بداره في العمارات شارع ” 59 ” ومن ضمن هذه الورشة كانت جمعية المسرح داخل الاتحاد تشرف علي ورشة مسرحية بهدف الخروج منها بعروض مسرحية وكان من ضمن نشاطات التدريبات معايشة وهي طريقة للانتقال بالشخوص المسرحية من مكان العرض المعروف إلي أماكن حية مثل الأسواق ، الشوارع ، المقاهي و تجمعات أخري كبيرة وصغيرة ، والمعايشة تعني أن يعيش الممثل الشخصية المسرحية وسط الناس ، يتحرك بها بينهم ويتفاعل بها معهم وقد اختارت الورشة المسرحية أن تكون هذه المعايشة في السوق الشعبي الخرطوم
في عصر يوم أربعاء علي ما أذكر تحركنا إلي السوق الشعبي بالخرطوم ، مجموعة مختلفة من طلاب المسرح وقد بدأت المعايشة من باب الخروج من دار الاتحاد راجلين حتى السوق الشعبي ، متناثرين علي الطريق حيث لا يلاحظ أحد أن الأمر لا يعدو كونه تمثيلا ، هذه الشخصيات المسرحية التي ستعيش بعد قليل حياتها وسط حركة السوق الشعبي، هناك طلاب آخرون مهمتهم بمتابعة الأداء وردود فعل الجمهور . تجاه هذه الشخصيات ورصد التعليقات .
كنت أتحرك داخل شخصية ذلك المجنون الذي اخترته كشخصية أتعايش بها وسط الجمهور ، كنت أتحرك بين الأكشاك والحوانيت الصغيرة ، صارخا تارة ، وهادئا تارة أخرى . أركض أحيانا وأهمد وأصرخ في العربات الواقفة ، أضربها بكفي وأتحدث معها وكأنها تفهم كلامي ، أتحدث بحرقة عن المغتربين الذين خطفوا مني حبيبتي ، أغني بصوت قبيح أغنيات مشحونة بالعاطفة ، أركض نحو موقف البصات ويركض خلفي أطفال وصبية جذبهم هذا المجنون وقد اصطادوا من بين حديثي الصارخ والهادي مرات أخرى ، اصطادوا كلمة ” ليبيا ” فصاروا يركضون خلفي مرددين ” ليبيا ، ليبيا ” وأنا أركض وهم يركضون خلفي وبعين الممثل الخفية كنت أتابع ذلك فرحا بهذه الجوقة التي تتابع وفجأة من بين هذا الجمع المتابع للمجنون الذي كنت أتحرك به ألمحه ويكاد أدائي للشخصية يضطرب ، المحه وقد بدأت الشفقة تحتل منه العيون ، وفمه مفغور دهشة ، المحه يتابعني بين ذلك الجمع وارتبك ، وقفت تحت أحدي الرواكيب وأحاطني ذلك الجمع وأنا أدخل في منلوج كثيف لذلك المجنون الذي اتقمصه وعيوني تتابع بخفاء مدرب وجه حسن جارنا في ” الملكية ” بكادقلي، المحه والحيرة تتجلي في وجهه الطيب ، تذكرت أن اليوم الأربعاء وأن قطار الأبيض موعده غدا الخميس ، لذلك عرفت أن حسن جاء إلي السوق الشعبي الخرطوم كي يتسوق ثم يعود بقطار الأبيض ، أرعبتني هذه الفكرة وعلي أن أفكر بطريقة أوصل بها حسن إلي حقيقة المسألة ، اقتربت منه وغمزت له بعيني ولكنه كان خارج حساسية التقاطي ، أشرت له أن يتبعني علي أستطيع أن أهمس له بالحقيقة ولكن كانت تلك الجوقة تتبعني أينما تحركت وكان علي أن أحافظ علي تفاصيل شخصية المجنون وأن أحافظ علي حسن كي يتبعني حتي اجد طريقةأوصل بها حقيقة الامر وتعقدت في دواخلى المهام وعلمتني تلك التجربة أن أحلل وأحلل في الأداء التمثيلي العلاقة بين التغريب والتقمص ، بين نظرية ” ستانسلافسكي ” ” التقمص ” ونظرية ” برتولد بريخت ” ” التغريب” وعرفت أن القدرة علي التغريب لابد أن تكتسب من تجارب عميقة في التقمص وان الخروج من الابهام يحتاج إلي قدر كثيف من التقمص ، علي كل فشلت تماما في إقناع ” حسن ” بـ ” يحي فضل الله ” ، وهاهو قد ذهب وفي ذاكرته ذلك المجنون الذي تحول إليه ” يحي فضل الله ” .
يبدو أن تقديري كان سليما فقد سافر حسن بقطار الأبيض في ذاك الخميس ، وحين وصل إلي كادوقلي لم يستطع أن يخبر أسرتي بجنوني شفقة منه ولكنه أخبر أصدقاء لي وآخرين ، عم الهمس بجنوني وكان آخر من سمع هو أخي ” عوض ” الذي أخبر بدوره والدي الذي أرسل ذلك التلغراف إلي عميد المعهد الدكتور خالد المبارك
استدعاني الدكتور خالد المبارك بمكتبه وقرأت ذلك التلغراف وقد أصر الدكتور خالد المبارك علي سفري إلي كادوقلي ولكني كنت قد ارتبطت مع جماعة السديم المسرحية للسفر خلال الأسبوع إلي مدينة بورتسودان لعرض مسرحية ” مطر الليل ” علي مسرح ” الثغر ” ، ولا مفر من ذلك لان العرض يستحيل قيامه بدوني ، أرسل الدكتور خالد المبارك تلغرافا مطمئنا أسرتي وفعلت أنا كذلك وقبل سفري جاءني أخي ” عوض ” من كادوقلي ليتأكد من الأمر وأرسل هو ما يطمئن الأسرة علي وسافر معنا إلي بورتسودان.
حين عودتي إلي كادوقلي بعد رحلة بورتسودان اقلقني جدا هذه السؤال : ” كيف أقنع من يعرفونني بكادوقلي بأنني سليم العقل؟ ” وخاصة بأنني من نوع تلك الشخصيات التي يظهر عليها شئ من اللامبالاة في اللبس والتصرفات أحيانا ، لأني دائما ما أكون في خارج ثوابت التعامل ، وأنه لا يمكن وصفي بوصف خارجي محدد كأن تقول مثلا : ” أنيق ، لبق ، محترم …الخ” حقيقة أربكني هذا السؤال جدا وبدأت أفتش في ذاكرتي عن تصرفاتي العادية وهل تصلح كي أكون في نظر الناس عاديا ، راجعت حركات أطرافي ، مشيتي ، ضحكتي ، ايماءاتي ، رأجعت كل شي يتعلق بتصرفاتي ولكنني لم أستطع إلا أن ازيد حيرتي ، علي كل وصلت كادوقلي وأصبحت أداهم كل من التقي به وأحس بنظرة ريبة في عيونه اداهمه قائلا : ” أنا ما مجنون أنا نصيح ” وزرت كل من أعرفه ولا أعرفه ، أتجول في كل الشوارع كي أعلن وجودي العاقل بينهم ، ولكن من الطرائف ، أن لي زميل وصديق دراسة يعاني من إرتباكات نفسية حادة من أيام الدراسة وقد تطورت هذه الارتباكات الي درجة انفصام الشخصية ، والغريب أنه ينتقل من شخصية إلي أخرى بمهارة ممثل حاذق ، حين يكون عبد الكريم الكابلي يتقمصه غناء وحركة وعزفا علي العود ، مستشفي كادوقلي لم تعاكسه مطلقا وهو يتجول فيها كطبيب ، شوهد مرة علي مسرح كادوقلي وهو يقود فرقة موسيقي البوليس كمايسترو بزي الفرقة كاملا ، حين يكون كاتبا يشهر أمامك كتاباته ، سمع هذه الصديق بجنوني فجاء الي بيتنا وخطب أمام أسرتي خطبة عصماء و كان يتقمص شخصية محافظ للمديرية قال فيها أنني من أبناء كادوقلي الأبرار وأن المديرية ستتولي أمر علاجي في أي مكان ، ولأن أمي كانت تعرفه كمجنون بكت بحرقه فتخيل أنها تبكي عليّ فقاد خطبته إلي ذروة درامية عالية .
قابلت كل من يهمه أمري في كادوقلي واستطعت أن أعيد إليهم سلامة عقلي ولكني بحثت عن هذا الصديق حتى وجدته بمركز بوليس كادوقلي يرتدي بدلة كاملة أنيقة ويحمل في يده عددا من الفايلات، ذهبت نحوه لكنه كان عل عجله من أمره حتى أني ركضت خلفه ، وحين كان يحاول أن يقطع الشارع ، وصلت إليه ، مادا يدي نحوه بالسلام وكان أن نظر إلي بطرف عينيه وتحرك تاركا يدي في الفراغ ، لحقت به ، كان صديقي في تلك اللحظة يتقمص دور محامي كبير، لحقت به ولكنه أشاح بوحهه عني قائلا : ” روح أنت خطر علي أمثالنا ” .
هكذا استطعت أن أقنع كادوقلي كلها بسلامة عقلي إلا هذا الصديق الحميم.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. هذه المعايشة يا يحي فضل الله
    فاقت نظرية التقمص عند إستانسلافسكي
    بل و نظرية التغريب لدى برتولد بريشت ،
    و الأطرف من كل ذلك صديقك المصاب
    بالفصام !!؟…
    لكن أين خالد المبارك الآن ؟؟…
    و ها هو صاحب ديوان أمتي يلحق به
    أليس مفجعاً و مثيراً للأسى أن يتهاوى
    عالمنا القديم الذي كنا نتباهي به أمام
    الأجيال الحالية !!!…
    و نسترخي عبر زمنه الجميل على وسادته
    الوثيرة !!…
    لم يبق لنا إلا أن نصاب بالفصام كصديقك !…

  2. هذه المعايشة يا يحي فضل الله
    فاقت نظرية التقمص عند إستانسلافسكي
    بل و نظرية التغريب لدى برتولد بريشت ،
    و الأطرف من كل ذلك صديقك المصاب
    بالفصام !!؟…
    لكن أين خالد المبارك الآن ؟؟…
    و ها هو صاحب ديوان أمتي يلحق به
    أليس مفجعاً و مثيراً للأسى أن يتهاوى
    عالمنا القديم الذي كنا نتباهي به أمام
    الأجيال الحالية !!!…
    و نسترخي عبر زمنه الجميل على وسادته
    الوثيرة !!…
    لم يبق لنا إلا أن نصاب بالفصام كصديقك !…

  3. الأستاذ يحى فضل الله
    – شكرا على هذا الابداع
    – سلامتك
    – ((أفيدونا بصحة د. خالد المبارك ومن بعده صحة السفير محمد المكى ابراهيم…ودمتم))

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..