يحي فضل الله

طاحونة منولي

ها هي الطاحونة مغلقة امامي و ها هو الخفير يصلي امامي صلاة العشاء، ماهو مرعب و غير محتمل ان قفة الدقيق تقبع في الداخل ، ادور حول الطاحونة ريثما ينتهي الخفير من صلاته ، ادور حول الطاحونة و اتمادي في المشي حتي اصل منطقة الغيط و ارجع الي الطاحونة و انا احمل علي اكتافي هذا العبء الثقيل ، قفة الدقيق التي في الداخل ، كنت كل ثلاثة ايام احمل هذه القفة فارغة من البيت ادخل بها زريبة العيش ، عم (ابتر) يثرثر معي وهو يخلط كذا ملوة من الفتريته مع الصفراء عن (ابو التايه) و يحكي كم نكتة و موقف عنه، بالمناسبة (ابو التايه) هو (فضل الله العوض) والدي ، عادة ما أصغي لحكايات عم (ابتر) و صوته الاليف و المؤانس يختلط في اذني باصوات الحديد و هي تتناغم و تئن علي ضربات الحدادين حيث برندة الحدادين المجاورة لزريبة العيش ، كنت دائما اذهب الي زريبة العيش في العصريات بعد الغداء مباشرة حرصا مني علي الدافوري في ميدان الطواحين ، كنت افضل طاحونة (منولي) عن طاحونة عم (عبد الحفيظ) و السبب في ذلك هو عم (يعقوب) الطحان بشلوخه الواضحة علي خدييه الخشنتين ، كنت احب ان اراقبه و هو امام ماكينة الطحين و بياض الدقيق يصل حتي حاجبيه مختلطا بعرق الوجه و بصوت جهور يكاد ان يعلو علي اصوات ماكنات الطحين مداعبا الزبائن ، كان عم يعقوب الطحان في طاحونة (منولي) يعمل ايضا معلنا لعروض سينما كادقلي و هذا سبب كافي جدا بالنسبة لي كي افضل طاحونة (منولي) لاستمتع بالمقارنة الدرامية بين يعقوب الطحان و يعقوب المعلن ، كان عم (يعقوب) يتجول بدراجتهّ ذات السبت الامامي و الذي يعلق عليه من امام من الدراجة بورت عليه بوستر الفيلم المعروض ، يتجول (عم يعقوب) في الاحياء وهو يحمل مكرفونا يعمل بالبطاريات دائما ما يصنع الاطفال زفة صغيرة حوله و يتابعونه حتي مشارف حي اخر يمازحهم حد الصخب و الصيحات و لا يتوانئ عم (يعقوب) اذا صادف في جولته بيت احد معارفه او اصدقائه في ان يخاطب صاحب البيت مباشرة من خلال المايكرفون من مثل (( ياحمدان ابوشبك الفيلم الليلة كابوي خطير اسمو كمين داكوتا و لو مقشط قابلني في السينما ، كمين داكوتا ، الليلة الفيلم الكابوي المرعب الخطير ، وين يا احمد حريقة الكنكان الليلة وين؟ ، كمين داكوتا فيلم المغامرات و فنون المسدسات ، الليلة كمين داكوتا ……………… )) ، في الاعياد يتغير الامر يتخلي عم يعقوب عن دراجته و يقف او يجلس (عم يعقوب) علي ظهر العربة المريكني الحمراء و مكرفونه في يده و مصاحبا بضجة عذبة من عازف الكيتا المنتفخ الاوداج و علي جانبي العربة مثبتة بوسترات افلام العيد و هنا يعلن (عم يعقوب عن تفاصيل كل برنامج العيد و بحضورصاخب يناسب المناسبة ، وحدي الذي كنت املك حق ان اصعد علي تلك المريكني الحمراء مشاركا عم( يعقوب) في كرنفال الاعياد بحكم ان والدي كان يدير مطعم و مقهي السينما ، كان لصوت عم( يعقوب) المنسرب عبر نغمات الكيتا سحر علي اجواء و طقوس الاعياد معلنا برنامج افلام العيد و من خلال عم (يعقوب) كا ن عمال الطاحونة يعرفونني و يعرفون قفتي و يتعاملون معها بود حميم ، كنت اضع القفة في الصف و اهرول الي ميدان الطواحين و قد اتأخر في الرجوع لاخذها متماديا في اللعب و لكنها – القفة – دائما ما اجدها قد وضعت تنتظرني في ركن معلوم.
اعود من مشواري المغلق و الدائري حول الطاحونة لاجد الخفير قد انتهي من صلاته و جالسا علي الشوال الذي كان يصلي عليه
-(( ان عندي دقيق جوه الطاحونة ))
– (( الطاحونة قفل ))
– (( ممكن تفتح لي عشان اشيل الدقيق ))
_ (( مفتاح عند الخواجه ))
اعرف ان طريقي مسدوذ ، الطاحونة مغلقة و لن استطيع العودة الي البيت بدون قفة الدقيق ، غياب هذه القفة عن البيت يعني ان ترتبك مطاعم كادقلي و ستختفي طلبات البلدي بام رقيقة او البلدي بالرشوشة ، كانت امي تغطي طلبات الكسرة في المطاعم الكبيرة في سوق كادقلي بما في ذلك مطعم والدي و كنت انا اوزع طلبات الكسرة الي تلك المطاعم حاملا الصواني علي رأسي و كنت انا الذي استلم نقود الكسرة و اخذ منها اجرتي التي افرح بها جدا ، طبعا بالاتفاق مع امي ، كانت اجرتي دائما ما اصرفها علي مكتبة عم (عابدين) في الركن الشمالي للجامع الكبير ، اتمرد احيانا علي اجرتي و اتوغل في المبلغ مستندا الي حنية امي تجاه مشاريعي الغريبة.
ذلك العصر كنت وضعت قفتي في الصف و هرولت الي ميدان الطواحين ، كانت هناك مباراة بين فريقي حي السوق البره و حي السوق الجوه ، لاادري حتي جوه من شنو و لا بره من شنو و لكني اظن ان الحي البره لقربه من السوق البره و الجوه لقربه من السوق الجوه ، يفصل بين الحيين الشارع الرئيسي الذي يؤدي الي السوق البره و هناك شارع صغير يمر عبر البيوت سمي بشارع ( افجخني ) لزحمة المارين به من السوق الجوه الي السوق البره و بالعكس ، كانت تلك المباراة يلعب فبها من هم اكبر منا سنا و تنوعت بيننا تلك الفرجة الحميمة حسب إنتماءاتنا تلك البسيطة و الدافئة ، انا اسكن في حي السوق الجوه ، المباراة كانت ساخنة ، في الشوط الثاني من المباراة كان فريقنا مهزوما و اصيب احد اللاعبين في خط الهجوم و بدلا من ان يلعب فريق الحي الجوه ناقصا العدد لعدم وجود لاعبين في الاحتياطي دفعوني للعب بديلا عن اللاعب المصاب و خدمني حجمي الصغير و قدرتي علي اللعب بالقدمين الاثنين ان احول هزيمة فريقنا الي انتصار بعد ان سجلت هدفين و انتهت المباراة و انا محمول علي الاعناق تحفني صيحات ابناء حي السوق الجوه متجولة بي في ازقة و دروب حي السوق البره معلنين انتصارنا داخل ارض الخصم و حين انتهي ذلك الكرنفال الصغير تذكرت امر قفة الدقيق فهرولت الي الطاحونة لاجدها مغلقة الابواب .
احاول إستمالة الخفير كي يتعاطف مع همي ذلك الكبير و لكنه ظل يردد امام إلحاحي جملة واحدة (( مفتاح عند الخواجه )) ، اعرف اين يسكن الخواجه (منولي) فهرولت الي منزله القريب من موقف اللواري و العربات ، كانت البصات و قتها نادرة ، وصلت منزل (منولي) ، المنزل امامه مصطبة كبيرة و عالية علي كل جانب منها عتبات كسلم للصعود اليها ، لابد من صعود هذه المصطبة لانها تحاصر تماما باب البيت ، انقر باصابع قلقة علي الباب الخشبي ذي الصوت المكتوم ، تحولت الطرقات الي ضربات عنيفة ، فتح الباب ، قابلني الخواجه (منولي) بكرشه المتهدلة والتي غطت فتحة الباب و قذف في وجهي بصرخة إحتجاج
– (( إزعاج شنو ؟))
– (( انا نسيت قفة الدقيق في الطاحونة و كلمت الخفير يفتح لي الباب فهو قال لي المفتاح عندك ))
– (( مطلوب شنو ؟ ))
– (( تفتح لي الطاحونة عشان اشيل الدقيق ))
– (( انت ولد مستهبلة ، يلا روح ))
– (( عليك الله يا عم منولي ))
– (( انت نسيتي و لا أنا ؟))
– (( عم منولي عليك الله ))
_ (( عشان انتي تتادبي ، يلا روح من هنا ))
و اغلق الخواجه (منولي) الباب في وجهي الامر الذي جعلني الوذ ببكاء معلن لاني اعرف ان عودتي للبيت بدون قفة الدقيق امر غير محتمل العواقب ، نزلت من علي تلك المصطبة بعد ان فشل صوت بكائي في إستمالة الخواجه منولي و بابه المغلق كطاحونته تلك ، نزلت و تناولت من الارض نصف طوبة وقذفت بها عاليا في سقف البيت الذي هو من الزنك ، قذفت بحجر اخر و طوبة اخري و حجر و حجر و طوبة وصوت إرتطام الحجارة وبقايا الطوب تجعل زنك السقف يصرخ و يولول معلنا إلحاحي علي اخذ قفة الدقيق ، اقذف بالحجارة و الطوب علي زنك السقف حتي فتح (منولي) بابه ليجدني اقذف بالحجارة علي زنك السقف غير مهتم بوقفته تلك علي الباب و يبدو انه فكر في التخلص مني و من إزعاجي او يبدو انه احس بإصراري و الحاحي
– (( انتي ولد شيطانه ، خلاس سيب إزعاج ، انا بفتح طاحونة ))
و قفت انتظر خروج الخواجه (منولي) من منزله ليذهب معي الي الطاحونة ، خرج (منولي) بعد ان ارتدي قميصه وقتها تذكرت انه كان عاري الصدر حين خرج الي في المرتين السابقتين و لكن كرشه المتهدلة لاتعطي فرصة كي تلاحظ بقية جسده ،ارتدي قميصا وذلك الرداء الكاكي الذي يلبسه دائما ، خرج بدراجته الرالي ، ساعدته في إنزالها من علي المصطبة بلهفة ملاحظة و تحرك (منولي) بدراجته و انا اجري وراءه كمنتصر عظيم ، حين وصلنا الطاحونة استقبلنا ذلك الخفير ببطاريته ، اعطي (منولي) الخفير المفاتيح ، دلفنا الي الداخل الطاحونة المظلمة و من خلال نور البطارية وضعت يدي علي قفة الدقيق و حملتها و انا احمل مفتاح الخروج من ازمة حقيقية ، قبل ان ابدأ الهرولة نحو البيت قال لي الخواجة (منولي) و هو يسحب دراجته نحو دكة عالية كي يستطيع ان يمتطيها- (( رأس بتاعك قوي ، قوي شديد )) ،إمتطي دراجته و عبرني بها بعد ان لكزني علي راسي قائلا _ (( لكن كده كويس ))
وصلت البيت و كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة ليلا و امي اصابها من القلق ما اصابها و حين خلطت امي الدقيق داخل تلك الخمارة شعرت بارتياح عميق لاني خلصت مطاعم كادقلي من إرتباك محتمل .

[email][email protected][/email]‏)

تعليق واحد

  1. هههههههههه والله انا زاتي شلت هم الفطور والغدا بكرة لكن صدقني الزمن دة تاني ما برجع خلاص الايام الحلوة انتهت ايام السلما وزفة العيد والدورات المدرسية والجمعيات الثقافية واي حاجة كانت مهرجان وابداع ومتعة للناس اااااااااه

  2. يا سلام عليك ايها الرائع دوما عندما تكتبعن ملهمتك كادوقلى وهى فعلا ملهمة وناضرة وجميلة وستظل طزلك انشاءالله-اسلوب سهل ممتنع رصين مدهششششششششششششش.

  3. أكتب يا يحى لنحيا،مجدداً،في عالم تسوده قِيّم تُخاطب الجوهر لا المظهر .رأينا معك كادوقلي و الأبيض و تندلتي و الفاشر ومروي، و غيرها من مدن السودان الذي كان ، تتآلف بسحنها المختلفة في تناغم أليف ؛ حتى لو استدعى الأمر حل الإشكال الوجودي بما يعرف الآن بالاعتداء و الازعاج العام ! خواجة منولي فَهِم تماماً أن هذا الصبي سيقرأ كازنتساكس لاحقاً ! شكراً

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..