سوق العناقريب – الحلقة الثانية

سوق العناقريب.. تلك الأيام..الحلقة الثانية
1-
اجتهد ( أسطى احمد ) في تعليمي نجارة البنابر, بصبرٍ وجلدٍ، وبعض الشدّة التي لا تخلو من روح الفكاهة, حتى إذا ما أتقنت تجهيز الأرجل، والوسائد، أخذني (أسطى عوض)، إلى جانبه لأتعلم كيفية التخريم.ويوم أنجزت أول بنبرٍ، بمساعدة وتوجيهات الأسطى أحمد الريح، والأسطى عوض, عرضته على العم سلمان الذي لم يخف سروره واغتباطه:
– المرة دي أنا حأشتري منك البنبر ده, بعد كده تمشي تبيع بنابرك في سوق النسوان, وانت وشطارتك
ثم أخرج من محفظته مبلغاً، حين وضعه في كفي كدت أسقط من طولي, اتسعت عيناي دهشة, تسارعت أنفاسي, من خلال دموع فرحي، رأيت أحمد وعوض وهبوبة وحتى العم صديق, يبتسمون.
صاح أسطى أحمد وهو يصفق جزلاً:
– الليلة حق الشاي عليك
لقد نفحني العم سلمان، ريالا بالتمام والكمال، ثمناً لأول بنبر قمت بصنعه. هذا الريال, بعث النشوةَ في أوصالي, وجعلني أهيم في عالمٍ من الأمنيات والرغبات، التي أود تحقيقها من خلاله. لقد عرفت الريالات من قبل، بالنظر إليها في أيدي الكبار، وهم يدفعون ثمن مشترياتهم. أما أن أمتلكه, و يصبح من حقي أن أتصرف فيه كيفما شئت, فهذا فوق تصوري وخيالي.
عم ( احمد عثمان )، بائع الشاي المتجول, رفض أخذ ثمن الشاي, بل وزّع على الصنّاع بالدكان، والدكاكين المجاورة أكوابا مجانية بهذه المناسبة. وهذه ليست المرة الأولى التي يكرمني فيها العم أحمد عثمان, إذ درجَ على مساواتي مع الصنّاع بالدكان، فيهبني كوباً في كل مرةٍ يوزع فيها الشاي على الصنّاع, صباحاً، وبعد وجبة الإفطار، وعند منتصف النهار، وبعد وجبة الغداء. وياله من شاي.
2-
خرجت من السوق، وعشرات الأفكار تتقافز أمامي, كل ما خطر ببالي، وددت لحظتها أن أشتريه. حلوى الطحنية, من دكان (علي حمزة اليماني), الباسطة من حلواني (جورج أبو طيارة ), رغيف التوست الفينو شديد البياض، من مخبز الخواجة ( نكولا )، جوار الجزارة. لا, لا, لأذهب أولا إلى بقالة الخواجة (ونجيلي ), تلك البقالة التي يراودني حلم دخولها منذ زمن , ولا أجرؤ على ذلك، فأقف خارجها، مكتفياً بالنظر إلى معروضاتها، التي تستفز حاجتي، متحملاً في ذلك نظرات الخواجة المتشككة. اليوم أنا لها, بسكويت، زبيب، زيتون، جبن. وأستمتع بدهشة الخواجة حين يرى الريال، فربما لن يصدق أني سأدفع ثمن كل ذلك.
حملت مشترياتي, ضممتها إلى صدري, وكأني أخشى عليها من عيون الآخرين, حين دخلت البيت ونثرت حملي, تعجبت الوالدة وتصايح الصبية, قبل أن أشرح حقيقة الأمر, كانت الأيدي قد تخاطفت ما أتيت به, حتى أني بالكاد استطعت أن أظفر بشيء منها. حينها أحسست بأهميتي, وأنه بإمكاني جلب الفرح لمن حولي, بجهدي وعمل يدي.
3-
أصبحت بمرور الأيام أجيد نجارة البنابر. الشىء الذي كان، بداية، يتطلب عمله ساعات، بتّ أُنجزه في وقت قصير. أيام الدراسة ولضيق الوقت كنت أكتفي بعمل بنبر واحد، أيام العطلات, غالباً ما أُكمل عمل ثلاثة بنابر دفعة واحدة, ثم أحمل بضاعتي لأبدأ تسويقها في سوق النسوان. كنت لا أحب المساومات المطوّلة, وأُنهي المبايعة سريعاً متى ما أحسست أن السعر المعروض مرضياً.
بعدها أتوجه إلى حلواني الخواجة (جورج أبو طيارة), في نهاية سوق المدينة من جهة الشمال. أجلس لأخطط كيفية توزيع حصيلتي، وأنا ألتهم ما طاب لي من أنواع الفطائر والحلويات, أختمها بكوب من العصير الطازج البارد, واستمتع بشيء من الغرور والتعالى، الذي ينتاب أبناء الطبقات الفقيرة، حين يغتنون، ولو مؤقتاً، فينسون. أحياناً يخطر لي أن أعرج على شارعي المفضل، لاشتري ماتعرضه، أمام منزلهم، تلك الفتاة السمراء, حلوة العينين, ذات الجدائل الطويلة الناعمة, من مناديل، وطواقي، مشغولة يدوياً، وغالبا ما أفعلها0
في بعض الأوقات, حين تخف وتيرة العمل، أو أكون قد أنجزت عمل بضعة بنابر انتظاراً لتسويقها عصراً. في تلك الأوقات،كنت أخلو إلى نفسي في مكانٍ منعزلٍ خلف الدكان، حيث توضع الأخشاب، مرتكزةٌ بميلٍ إلى الجدار، مكونة فجوة أسفلها، اتخذت منها ملاذا، ألجأ إليه بعيداً عن ضجيج السوق. أجلس داخلها، مصطحباً كتاباً، أو بضعة مجلات، أطالعها في هدوء واستغراق كاملين. أغلب تلك المجلات، كنت أستعيرها من العم احمد عثمان، والعم حامد الجبراوي، والعم يحي الشيخ. وهم كمعظم أهل السوق، بالرغم من تدني تعليمهم، يهتمون بمتابعة كل ما يكتب بالمجلات المصرية, واللبنانية,( المصور , آخر ساعة , الحوادث …الخ) و الصحف السودانية، التي كانت تصدر حينها، كجريدة الأمة، لسان حال حزب الأمة، والاتحادي، التي يصدرها الحزب الوطني الاتحادي، وغيرهما من الصحف المستقلة, ثم أنهم يحرصون على متابعة نشرات الأخبار يومياً، خاصة نشرة أخبار الساعة السادسة صباحاً من إذاعة لندن, و يعقدون في كثيرٍ من الأحيان، حلقات نقاش عفوية، يتناولون فيها أحداث الساعة محلياً، وعالمياً. إذ أن تلك الفترة ما قبل الاستقلال، كانت تتميز بحراك سياسي في كل الاتجاهات، يحمل في طياته تبايناً في التوجهات، داخلياً وخارجياً. وحين قامت الثورة المصرية، بقيادة اللواء محمد نجيب، أثارت كثيراً من اللغط، ما بين مؤيدٍ، ومعارضٍ، خاصة ممن ينضوون تحت لواء الأنصار، ورفضهم لمحاولات الاتحاد مع مصر، التي بدأت تروج لها قيادة الثورة المصرية، حتى أفرزت هذه المعارضة في النهاية، أحداث مارس 1954 الدموية الشهيرة، يومَ أن جاءَ اللواء محمد نجيب في زيارةٍ للسودان.
عزلتي تلك، كانت تجد الاحترام من العم سلمان, ولأستمتع بها، يشترط علىّ أن أُنجز عملاً محدداً. غالباً ما كان العمل المطلوب لا يتعدى سحن كمية من الصمغ، وخلطها بالماء مع نشارة المخرطة الناعمة, لتصبح معجوناً يستخدمه العم سلمان، فيما بعد، ببراعة، لسد ما يظهر من تشققات على أرجل العناقريب بعد خرطها. أهرع بعدها إلى صومعتي، وكتبي، ومجلاتي. أنسى حينها كُلّ كائنٍ خارجَ هذه المساحة الصغيرة، وأُحلقُ بأجنحةِ الخيالِ، إلى عوالمٍ أُشَكّلُها بأحلام يقظتي كيفما طابَ لي.
يتبع…
معاك يا استاذ في السرد الجميل وتابع ربنا يديك الصحة
مع مؤدتي
اخي الطيب كم انا سعيد بما تتحفنا به
من هذه الدرر الغنية بالمعاني والدروس
الحياتبة والله لقد انتشينا وسكرنا حتى الثمالة
من هذا النبع الذي اصبحنا نصوم لرؤيته ونفطر
لرؤيته فنحن من اول امس في انتظارك حتى فطرنا اليوم
على هذه الوجبة الدسمة التي سوف تكون لنا ترياقا
الى الاغد ونحن مازلنا نطمع في المزيد اروينا يالطيب
اروينا
عشت ايها السامق
شكرا مرة أخرى أستاذ الطيب لهذا السرد الشيق.
والحقيقة و إنت تكتب عن هذا السوق الفنى الفريد تجدد الذكريات عن أسواق كسلا المجاورة لسوق العناقريب. فهنالك من ناحية الشمال “سوق الغسالين” … نعم سوق كامل للغسالين به نحو خمسين دكانا لغسيل وكى الملابس … لا ينقصه إلا “الدراى كلين”.
ومن الجنوب لسوق العناقريب “سوق الحدادين” وهو سوق تراثى آخر تصنع فيه السيوف البجاوية و الخناجر بالإضافة للطوارى و الفؤؤس والسكاكين من “يايات” العربات القديمة (كأنهم يصنعون من الفسيخ شربات) مما ينتج عنها أشياء فى غاية الجمال.
وهنالك شمال سوق العناقريب “سوق السعف” … ويليه شمالا سوق مختلط لبيع أغراض أهل الأرياف من البجة ويستحضرنى منظرهم وهم يجلسون القرفصاء و يفطرون بالعجوة بالزيت … ذلك الفطور الذى لا أدرى من أين أستوحوا فكرته ، ويبدو أن هذه الفكرة الفطورية قد إندثرت تماما مع إنتشار مطاعم الفول و الكباب.
والمثير للدهشة و الإعجاب أن كل من هذه الأسواق يعمل فيها أفراد قبيلة واحدة: فسوق العناقريب يعمل به الجعليون من منطقة المحمية غالبا … وسوق السعف أيضا يعمل به الجعليون و الرباطاب … وسوق الغسالين يعمل به أفراد قبائل النوبة … وسوق الحدادين يعمل به أفراد قبائل البجة. فهى منطقة من كسلا تمثل سودانا مصغرا يعيش أفراده فى تناغم و إنسجام ويبين بوضوح خاصية كسلا كعاصمة للشرق.
تحياتي مرة اخرى استاذ الطيب
حقيقة لم اقرأ ردك علي في الحلقة السابقة الا الان
حقيقة كم فرحت عندما علمت بزامالتك لاحد اعمامي وان لم اكن مخطئ ربما كان الذي زاملته هو عمي ابراهيم معني او ياسين او ربما والدي نفسه، حبذا يا استاذ لو عصرت لينا الذاكرة.
مع مؤدتي
تحياتي استاذ الطيب او الاصح العم الطيب
يمكن ان يكون والدي فوالدي عليه رحمة الله من مواليد الاربعينات وتوفى صغيرا في السن، اما عمي ياسين هو الاكبر وعمي ابراهيم عليهم رحمة الله وبعدهم عمي صلاح وعثمان وعلي ومحمد واحمد هم ولدو بعد ذلك.
على العموم ربنا يمد في ايامك ويمتعك بالصحة والعافية.
مع مؤدتي