
الجريف لا تميز بين ابنائها الكوشيين (لقد اثبتت الحفريات ان المنطقة مأهولة بالسكان منذ العهد الكوشي) و ابنائها الذين قدموا اليها من جميع اركان السودان، واختاروها وطن لهم. و سلوك الجرافة الاجتماعي واسلوب علاقتهم بالآخرين يظهر لنا انهم من اكثر المجموعات السودانية انفتاحا على المجتمعات المختلفة عنهم اثنيا وثقافيا ولغويا.
و الجريف بحكم موقعها المتميز و جروفها و مزارعها هي منطقة جاذبة و آمنه ليس لشعوب السودان وحدها، و انما ايضا لكثير من الشعوب الإفريقية. هذه حقيقة عايشتها منذ ان وعيت على الحياة، وادركت معانيها لاحقا ، فلقد كانت وما زالت تستقبل بصدر رحب الاخوة الافارقة الفارين من النزاعات المسلحة و الإضطرابات السياسية في بلادهم.
في النصف الثاني من الستينيات وانا طفل صغير كنت اشاهد الرجال ذوي الاجسام الرياضية والقوام القصير بصحبة النساء الوسيمات ذوات القوام الممشوق و الملابس الجميلة المزركشة و اغطية الراس المميزة يتهادون في شوارع الجريف بدعة وطمأنينة ، ولقد عرفت لاحقا انهم الفارين من الصراعات المسلحة في الكنغو. وفي بداية السبعينات امتلأت الجريف بالتشاديين ، خصوصا القرعان ، الفارين من دكتاتورية تمب الباي ، و في النصف الثاني من السبعينيات الأثيوبيين الفارين من دكتاتورية منغستو هيلا مريم و الارتريين الفارين من ويلات حرب التحرير. و عندما بلغت مرحلة الشباب المبكر في بداية الثمانينيات كان جاري تشارلز من اصدقائي المحببين، وهو احد الفارين من نظام التفرقة العنصرية بجنوب افريقيا . وربما لا يعرف كثير من الناس ان الامبراطور هيلاسلاسي كان في الفترة ما بين ١٩٣٠ – ١٩٤١ من سكان الجريف، فلقد عاش خلال سنوات الحرب العالمية الثانية بمباني الارسالية الأمريكية بالجريف، و التي تأسست مع قدوم الحملة الإنجليزية المصرية بقيادة كتشنر، وكانت له علاقات طيبة ببعض الاسر من المنطقة. ايضا درس في نفس الارسالية الجنرال امان عندوم، الرجل الذي كان اول رئيس لاثيوبيا عقب الاطاحة بالامبراطور هيلاسلاسي.
ولان دوام الحال من المحال، بعد ان كانت الجريف ملاذا للمستضعفين، افاق الناس في بداية التسعينيات على واقع جديد، وهو ظهور مجموعات في طرقات المدينة سحناتهم غير مألوفة ، اجسادهم ضخمة و لحاهم طويلة و ملامحهم غليظة ، يلبسون الجلباب و السروال الباكستاني و يتعممون بقطع صغيره اشبه بالرباط الطبي الذي تغطى به الجروح على الجمجمة، ويتحدثون بلغات مختلفة تغلب عليها لغات بلاد فارس. انهم المجرمين و الارهابين اللذين استجلبهم النظام البائد ، ووطنهم في معسكرات في الحجيرات، و هي الامتداد الجنوبي للجريف. كانوا عندما يأتون للتسوق في متاجر الجريف الرقيقة يفعلون بها ما يفعله الجراد بالزرع الاخضر، ويتركونها خاوية على عروشها من كل شيء يؤكل. لقد راقبت ذات مرة احدهم وهو يسلي نفسه بالتهام البيض المسلوق اثناء تسوقه، فحسبت له اكثر من دستة بيض، ولما شعرت بانني على وشك التقيؤ ذهبت لحالي!!!
مع قدوم التتار و المغول الجدد شهدت الجريف تغيرات ديمغرافية وجغرافية كبيرة صاحبها انتهاك واسع لحقوق مواطن الجريف لصالح الطبقات الطفيلية الصاعدة. اتخذوا قرارات بتحويل مزارعها لمخططات سكنيه تحت مسمى مدينة النيل الازرق السياحية، مع ان المزارع كانت تمثل مصدر الرزق الاوحد لمعظم سكان المنطقة والنازحين من اماكن الاضطرابات في السودان و الدول الافريقية المجاورة، وتشكل حزام امن غذائي لسكان العاصمة، وتعمل كرئة تنقي بيئتها وتمدها بالهواء النقي.
لقد خير اصحاب المزارع بين المصادرة او دفع رسوم تحسين، تتراوح بين مبالغ خرافية لمن لا ظهر لهم، ولا يستطيعون سدادها، ورسوم اسمية لأصحاب الحظوة من منسوبيهم ، و ذلك مقابل الحصول على مساحات ضئيلة من مزارعهم، و استقطاع الجزء الاكبر بحجة تخصيصه للشوارع و الميادين و المنشآت الخدمية، مع العلم ان التتار الجدد يبيعون الميادين القائمة، و يضيفون الشوارع لمساحات منازل قادتهم (منزل علي عثمان كمثال) ولا يهتمون بأي خدمات للمواطن.
ايضا تم الاعتداء المنظم بالمصادرة و التعويض غير المجزي على الاراضي التي تشكل حرم المنطقة ، والمعرفة في تسجيلات عام ١٩٢٩ بمرعى وتحطيب الجريف غرب، و توزيعها لمنسوبيهم ضمن الخطط الاسكانية، واستحداث مسميات جديده للمنطقة كالرياض و الطائف والمعمورة ويثرب..الخ ( تم الاعتداء على اراضي الرياض وتوزيعها للموظفين وضباط الجيش في عهد المخلوع نميري)، في الوقت الذي يعطى مواطني الجريف الذين تظهر اساميهم، في كشوفات الخطط الاسكانية، وعلى قلتهم الشديدة، مساحات ضئيلة في ما يسمي بالوادي الأخضر على تخوم الولاية .
ولعل اكثر ما يسخر منه مواطني الجريف ان احد وزراء اسكان التتار والمغول الجدد ظل يردد في مجالسة بأن اراضي الجريف اقيم من انسان الجريف. و لا نستبعد ان يكون هذا الكوز القمي و الكتكو المشوه قد اتى للعاصمة من واقع بائس يتساوى فيه مع البهائم و الكلاب الضالة، وماضي غير مشرف سبب له العقد النفسية و الاحساس بالدونية، وهذا ما يفسر حقده غير المبرر لسكانها.
امير الزين