رئيس علماني

العلمانية تتخلل كل شيء : الماء , والهواء , والرمل , والدين . ويكاد يكون التاريخ الاجتماعي والسياسي والفكري للبشرية هو تاريخ العلمانية , إذ هي وببساطة ليست أكثر من التفكير الحر للإنسان الذي يتوافق مع نتائج واقعية صحيحة .
اللاهوت كله بعد الأنبياء والفقه ليس سوى نمط من الحركة العلمانية التي تتحول مع التاريخ إلى كشوف ومع البحث إلى اختراعات ومع التجديد إلى تطورات صاعقة . يتحول الإمام الشافعي إلى كوبرنيكوس ويتحول الإمام مالك إلى نيوتن وجاليلو , كل ذلك مع تحول التأمل المحض إلى تجريب وقياس وقوانين . وتحول الغيب العنيد إلى واقع ملموس والميتافيزقيا إلى كائنات تمشي على قدمين ويمكن أن تشاهد وتطارد .
العلمانية منذ بدء الخليقة عملية طبيعية تسمح بتبني و بتعديل الفكر والفلسفات , وهكذا عدل المسلمون الفكر الإغريقي المادي التجريبي إلى فكر غيبي وديني دعم نظرتهم الكونية للحياة والوجود , كما تبنت المسيحية الفكر الأرسطي وعلومه وأفكار بطليموس حول مركزية ( الإنسان ) و الأرض وقامت بالتعديلات المناسبة ليتوافق مع الدين المسيحي , فالدين لم يكن ممكنا بدون العلمانية وأدواتها الطبيعية والفكرية .
لم يكن تاريخ الإسلام شيئا سوى البحث الحثيث والاتجاه الاضطراري نحو العلمانية , فليس من مبرر لانهيار الدولة العباسية التي رمت قيادها لمسلمين غرباء وأجانب سوى هذه النزعة القدرية والاضطرار التاريخي لتحقيق مبادئ العلمانية ولا تفسير لنهاية آخر خلافة إسلامية وهي خلافة آل عثمان في تركيا سوى نضوج التاريخ ودنو ثمرته وحتمية إغلاق الأبواب التاريخية على الماضي والاتجاه الأخير بعد نزع قشور العتو واللامبالاة الزمنية نحو العلمانية التي حققها مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء السلطنة سنة 1923 .
الدكتاتوريات العلمانية التي شهدناها بعد الاستقلال كدكتاتورية نميرى وصدام حسين ومعمر القذافي لم تكن شيئا آخر سوى أولئك الولاة( المعممين ) على ظهور الجمال الذين كان يرسلهم الخلفاء لحكم الأقاليم البعيدة في العراق ومصر وإفريقية وبعد انهيار الخلافة في القرن العشرين تحول الحجاج بن يوسف الثقفي صاحب الرؤوس التي أينعت وحان قطافها إلى ذلك العسكري القاسي الدموي الكذاب الذي يلبس الكاكي والبوت ويستمع إلى دروس التكتيك والإمداد ويضع المسدس على حزامه ولا يتورع أن يستولي على السلطة بدبابة وحفنة أعوان . إن العلمانية هي لب التاريخ السياسي والفكري في الإسلام . وأي انقلاب عليها باسم الدين ( كما يحاول الإخوان المسلمين ) هو انقلاب على الدين نفسه وعلى تطوره الاجتماعي والعسكري وعلى تاريخه النفسي فكل عسكري وكل حجاج بن يوسف الثقفي هو علماني تاريخيا وتطوريا حتى لحظة كتابة هذه السطور . فهو الحاكم الذي يحكم بأمره ويطوع الفقهاء لإرادته ولا يسمح لهم بأن يحكموا منفردين كرجال ( دين ) في كل العصور الإسلامية وفي كل الأقاليم البعيدة في الصين والسند والأندلس وأي محاولة لصناعة تاريخ خارج الحاكم بأمره كانت تقابل بالإلغاء وتبدو معارضة للحس الديني والاجتماعي وتخلخل النسيج النفسي والوعي السكاني القائم كما نرى الآن من محاولات الإخوان المسلمين في إقامة دين خارج الدين وإقامة حكم جديد معارض ومناقض لتاريخ الحكم والولاة في الإسلام وفرض تصورات خلافية خارجة على منطق التاريخ مصيرها دائما الفشل وان يقبرها التاريخ الاجتماعي نفسه كما حدث في مصر وغيرها من البلدان .
ما ورثناه من أنماط الحكم والولاة هو الإسلام . هذه نقطة نهايته التي توقف فيها . ومن هنا يمكن تطويره عقلانيا ومنطقيا بطريقة متوافقة مع احتياجاتنا العلمانية والعلمية والعالمية . فقد انهارت ( الحدود ) كحد السرقة وهو القطع وانهار الرجم الذي أصبح مناقضا لذوق المسلمين ولضميرهم ولعقلهم بفعل الحركة الدينية نفسها وبفعل تطور المسلمين أنفسهم الذين تحولوا في القرن العشرين إلى رواد جامعات وسوس أبحاث علمية . كما أنهار نموذج الحجاج الذي تحول عندنا إلى عسكري يشبه عسكري أمريكا اللاتينية يفكر بطريقة علمانية مهما حاولت الجماعات المتطرفة فرض تصورات خلافية على فكره الموروث من حركة التلاقح التاريخي ونزعه من تلك اللحظة التي تمرد فيها محمد علي باشا على الاستانة ووضع الفقهاء تحت عباءته واتجه إلى تحديث الزراعة والجيش والاقتصاد . في تلك اللحظة كان متساوقا مع التاريخ الإسلامي ومع تاريخ الحكم في الإسلام ومع ميراث الولاة والحاكمين في أرض الله . هذا الميراث هو الذي ينتفض ضده ويحاول تشويهه والخروج عليه كل جماعات الإسلام السياسي اليوم من إخوان إلى تحرير إلى داعش الذين يشكلون نموذجا صارخا لخروج جماعة ما إسلامية على التاريخ الذوقي للمسلمين وعلى روح الإسلام وعلى علمانيته أي نظرته الموضوعية للأشياء كما هي فطرية وطبيعية بدون تدخل علل خارجية , ويمكن أن تدرس بمعزل عن أي تفكير غيبي أو خيالي أو لدني مهما كانت قوانينها بسيطة وقبلية .
نحن كمسلمين نحتاج للعلمانية بل الإسلام نفسه في أمس الحاجة إليها , الاختلاف بين المسلمين أنفسهم هذا الاختلاف الجذري العميق المؤسف , بين المذاهب الإسلامية التي تعمقت اختلافاتها بوسائل غيبية و ( غبائن ) تاريخية واستعمال ( لا علماني ) للعقل وأصبحت أعمق غورا وتشابكا من اختلاف الإسلام مع المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو مع الحضارة الغربية نفسها , فالخطر على الإسلام لا يأتي من خارجه بل من داخله ولا يمكن تلافي هذا الخطر والقفز من فوقه بدون وسائل علمانية في الفهم وإدارة الصراع وفي التعامل النفسي مع المشاكل , ومن هذا الداخل الخطر بالذات , هذا الداخل المهترئ بالذات , هذا الداخل الراكد الشائن المنهك بدموع التاريخ يأتي الخطر على الديمقراطية , وعلى حقوق الإنسان , وعلى أبجديات المجتمع العصري , هذا الخطر بائن في قول الإخوان المسلمين : ” إن مجتمعاتنا لا تقبل الديمقراطية وليست في حاجة لحقوق إنسان أو حياة عصرية ” .
أوردت صحيفة ” الصيحة ” في الأيام السابقة تصريح الأمين العام لهيئة علماء السودان الشيخ محمد النظيف الذي قال : إنهم يرفضون قطعيا تولى أمر البلاد من قبل ( حاكم علماني ) ثم أفصح الشيخ أكثر عن نواياه المعوجة وعن استعمال المصطلحات الجديدة في غير موقعها ومعناها عندما دعا ( أهل اليسار ) إلى تحكيم صوت العقل وأن يبحثوا عن نظام ( أساسه الإسلام ) ثم يفصح الشيخ أكثر وأكثر عن رغبته العرجاء في أن يكون رقما في الحياة السياسية السودانية مستغلا كإخوته صهوة الدين و( بردعة الإسلام ) مستفيدين من أن الدين ( لا سيد له ) , وأن عقابه السماوي مهما كانت فداحة الجريمة مؤجل إلى يوم الدين أو إلى حين التوبة ولذلك يحاولون تحويل هيئة علماء السودان إلى كهنوت فاتيك (اني ) ويجوزون لها التدخل في اختيار الرؤساء والحكام جريا وراء رغبات السياسة الملتوية لأن محمد النظيف وجماعته في زمن تلميع الحركات الإسلاموية وزعماء داعش القاطنين في بلجيكا وفرنسا وزعماء القاعدة الذين يتلقون معونات لا تتلقها دول كبيرة لم يتلقوا دعوة للحوار الوطني كما يزعم بينما تلقت الجماعات اليسارية هذه الدعوة الكريمة , ولكن الشيخ الموتور الحانق الذي خلط رغباته الشخصية المشتتة وأحلامه الصبيانية الطرشاء في السياسة والحكم لم يخبرنا إذا ما كانت هيئة علماء السودان ( حزبا ) من أحزاب الأمة السودانية أم جهة حكومية لها وظيفة محددة وعمل مخصوص بحدود لا تتعداه إلى غيره وإذا دعيت هذه الهيئة التي تتطاول على وظيفتها ولحافها وهيبتها ألا يجوز دعوة هيئة المظالم والحسبة وهيئة الطيران المدني وهيئة سوق المال وهيئة التخصصات الصحية وهيئة مزارعي الفاو وهيئة المجتمعات العمرانية أم أنه تطاول الكهنوت الأعمى من هذه الرمم التي أحست وأدركت بيقين تام أن الإسلام وبانهيار المعسكرات الشرقية ونهاية الحرب الباردة العلنية أصبح الأداة المفضلة السهلة المدجنة الطيعة التي تلبس لكل حالة لبوسها في أيدي الدول الكبرى التي تمارس الحرب السرية حماية لحدودها ومصالحها وسياساتها بأداة الجهاد العاجز والإرهابيين المدجنين والمرتزقة مدفعوي الأجر مقدما ؟ . إذ لا حرب علنية بين دول تدعى الصداقة والتعاون في مجتمع معولم بعد اليوم , ولن يشهد التاريخ المستقبلي غير هذه الحروب في الظلام التي يقودها علماء لا يختلفون كثيرا عن الشيخ محمد النظيف وجماعته في هيئة علماء السودان .
من ينتخب الرئيس أو الحاكم ؟ هذا سؤال لا نوجهه للشيخ محمد النظيف , لأن الإجابة عليه معروفة خاصة وهو لم يتحدث عن خليفة مسلمين وكيف ينتخب الرئيس أو الحاكم في هذه الأيام وكيف انتخب الرئيس الحالي لجمهورية السودان ؟ ألم يحدد الدستور أهلية الحاكم ( الرئيس ) في مادة 53 فيقول : ( يجب أن تتوفر في المرشح لمنصب رئيس الجمهورية الشروط التالية :
(أ‌) أن يكون سودانيا بالميلاد .
(ب‌) أن يكون سليم العقل .
(ت‌) ألا يقل عمره عن أربعين عاما .
(ث‌) أن يكون ملما بالقراءة والكتابة .
(ج‌) ألا يكون قد أدين في جريمة تتعلق بالأمانة أو الفساد الأخلاقي .
لم يتحدث الدستور عن ديانة المرشح , ولا اتجاهه السياسي , ولا الذكورة أو الأنوثة ولا عن مسيحية المرشح أو علمانيته أو يهوديته أو عن إسلامه أو هويته أو عرقه أو لونه , فإذا كان الرئيس الحالي الذي يعتبره النظيف رئيسا إسلاميا قلبا وقالبا خاض الانتخابات الأ خيرة المزورة تحت هذه الشروط ونجح فيها برغم إضراب الناخبين عن حقهم في الاقتراع وإذا كانت الأمة السودانية ونخبها تأسيا بمجتمعات أخرى ناجحة توافقت على هذه الشروط الجامعة في معرفة وتأكيد وتنقيح أهلية الرئيس فمن أي مصدر أتى الشيخ محمد النظيف بهذا الشرط ( التعجيزي ) وهو أنه لا يقبل رئيسا ( علمانيا ) على فرض أننا تسامحنا معه في أنه يقبل أو لا يقبل؟
لنذهب قليلا في التاريخ القريب لندرس ونمحص العقلية الببغائية أو ( القردية ) التي تتميز بها الهيئات التي تدعى أنها هيئات علماء و إسلامية , لنتبين عقلية الاجترار التاريخية والنقل العشوائي دون تبصر للمتغيرات والتحولات التي تتميز بها الجماعات الإسلامية المعاصرة , ولنخبر الشيخ محمد النظيف أننا نعلم مصادره التي استقى منها كراهيته المفتعلة والوهمية للرئيس ( العلماني ) ونعلم عن سرقاته الأدبية التي يحاول التبجح بها على رؤوس الأشهاد بلا خجل يميز العلماء الأجلاء كأنه من اخترع العجلة .
” نحن لا نقبل برئيس علماني . ” قول قديم ظهر بعد احتلال العراق عندما خافت المراجع الدينية من سلطة بول بريمير الحاكم المعين من قبل أمريكا , وبمعنى آخر كان ذاك القول خوف من الاحتلال نفسه , وصدمة عنيفة من النهاية المروعة لنظام صدام حسين القوي , وأول من صرح به كما يعلم الشيخ محمد النظيف الذي ولا بد يقرأ كثيرا في كتب الشيعة والخوارج هو
( آية الله العظمى ) علي السيستاني الذي صرح بعد نهاية الجيش العراقي كله بأنه يريد دولة ( دينية شيعية ) في العراق رئيسها أو أمامها ( أو حاكمها حسب قول النظيف ) هو ( آية الله )
إذن كان السيستاني في ذاك الفراغ السياسي العظيم وبلده مقبل على الفوضى وحروب المليشيات والتفجيرات يحلم بأن يكون رئيسا في محل صدام حسين ليحرر بلده من الاحتلال وليحميه من ويلات الصراع القبلي والمذهبي . فإذا كان للسيستاني حسب تلك الظروف العصيبة أن يحلم بأن آية الله هو الحل فما هي الظروف التي تجوز لمحمد النظيف بأن ينادي بأنه وهيئته لن يقبلوا برئيس ( علماني ) ؟ هل هناك احتلال روسي أو فرنسي أو مصري أو أثيوبي لجمهورية السودان ؟ هل سقطت العاصمة الخرطوم في أيد أجنبية وهي مقبلة على التناحر والصراع والتفجيرات أم أنها أحلام مراهقة سياسية وأمنيات مضطربة من هذا الشيخ المعزول ؟
وإذا كان آية الله العظمي على السيستاني يملك طائفة دينية كبيرةو يشكل هو أحد مراجعها المهمة في العراق وفي طوائف الشيعية فما هي الطائفة التي يملكها الشيخ محمد النظيف حتى يحلم بأحلام السيستاني وينادي بأفكاره في أرض السودان التي مازالت إلى حد ما حتى الآن مستقرة وهادئة وتمارس ( الحوار ) وتحاول إيجاد الحلول للحكم ولشكل الدولة , أما كان أفضل له إن كان عالما بحق أو متدينا بحق أو إنسانا بحق أو علامة بحق وليس مراهق سياسة أن يدعو للتوافق والوسطية والمعاصرة وأن يقول ” كلنا مسلمون . ” ربما أن الشيخ محمد النظيف وهو رجل مغمور لا يتأثر بأفكاره الشباب ولا يقود فصيلا فاعلا في الحياة السياسية السودانية يعلم أن قطار التاريخ قد فاته ويريد بأي شكل ان يلحق بقطار ( الموتى ) والصراعات .
أما السرقة الأخرى التي يكاد الشيخ يخفيها بتدربه الطويل على الحياة السرية كشيخ جليل ذي مروءة وتقوى وورع , فهي تلك التي أخذها من ( مصر ) , من ( حزب النور السلفي ) , من ( ياسر برهامي ) نائب رئيس الدعوة السلفية , الذي صار بحنكته وأفقه الواسع ورؤاه العصرية رقما في الحياة المصرية ولكنه حين يصرح قائلا : ” إن حزب النور لن يقبل برئيس يحمل ( فكر علمانية الدولة) . ” صرح به وهو يدخل مدرسة الجمسي في الإسكندرية ليدلي بصوته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة كتكتيك انتخابي يمكن أن يجلب لحزبه المزيد من الأصوات وليس كفكرة مطلقة وأبدية وصحيحة وإنما كشعار سياسي في مجتمعاتنا الدينية التي تتضارب في أذهانها المصطلحات والتعريفات والمعاني دون تحديد وترسيم دقيق فتخاف العلمانية وهي تمارسها في الانتخابات والبرلمانات والدساتير والمواطنة وحرية العبادة ولكن شيخنا المعزول في مرحلة من قيود وعمى صباه يظن أن كلام برهامي هو الحق المطلق المبين دون أن يتبين جذوره وأسبابه , فيؤمن به إيمان الأطفال , وهو عالم في هيئة علماء السودان .
تاريخيا لم تكن ( العلمانية ) ضد ( الدين ) وإنما كانت ضد كهنوت وسلطة الكنيسة كمؤسسة تكبح التقدم البشري وتصادر الحرية , وكل المجتمعات العلمانية اليوم أي التي يسود فيها الفكر الحر والنزعة الإنسانية يزدهر فيها الدين أكثر من المجتمعات الأخرى التي ربما تحكم أو تدعي بأنها تحكم تبعا للدين نفسه , وتحت ظل العلمانية كإطار إنساني يتيح حرية التأمل وخلق الأفكار ويدافع عن الحقوق والواجبات ويحمي بقاء الإنسان ويمنع الصراعات الاجتماعية ويتيح للفرد الاتصال بمحيطه على أكمل وجه حسب ما يمليه وجدانه المصحح بالحرية والمسؤولية والعقل والتعليم , فإن الدين بمعناه الشامل يعيش في أكثر حالاته ازدهارا وحرية وتطورا , وبالعلمانية صارت الكنيسة أقوى من ذي قبل وصارت مؤسساتها تدعم دولا وشعوبا ترزح تحت خط الفقر وتمنح الفرص الدراسية لأبناء الفقراء , وتقيم مشاريع المياه للعطشى ….
لم تبذل الجماعات الإسلامية في السودان , وخاصة الإخوان المسلمين , ومن يدور معهم في فلك ( أهل القبلة ) كالشيخ محمد النظيف من آكلي ما تبقى من أموال الضرائب الفقيرة أي مجهودات فكرية تذكر رغم تبجحهم بالعمل الاجتماعي والسيطرة على أداة الدولة في تفسير مبادئ العلمانية وجعلها متصالحة ومتوافقة وضرورية ( للدين ) وازدهاره وانتشاره وإبراز حقائقه , ولم نجد سببا يبرر ذلك غير أنهم منذ ظهورهم على الساحة كانوا ومازالوا أعداء ( للديمقراطية ) , فأي إيمان أو تصالح أو توافق مع ( العلمانية ) يعني القبول الضمني والصريح بالديمقراطية كأداة حية وفاعلة وناجزة لحكم المجتمعات وهم حتى الآن وبعد انفصال الجنوب الذي اعتبروه عقبة , وخنجرا مسموما, وحفرة مضادة للتطور , مازالوا يتهربون من التحول الديمقراطي وتكوين الجمهورية الثانية مع أنهم وقعوا على ذلك أمام شهود دوليين . أما السبب الثاني المتاح الآن في رفضهم للعلمانية وتشويه سيرتها وأبنيتها الخلاقة والفذة وتشهيرهم بها في كل الدول العربية هو أن الشفافية من شروط المجتمعات والدول والرؤساء العلمانيين وهم كما نعرف يحبون ويغرقون في الفساد باسم التمكين وتعاف وتتقزز أجسادهم من كلمة ( الشفافية ) .
تؤمن ( العلمانية ) بأن الدين من أهم المؤسسات الإنسانية وهي تُقدم دائما على أنها ضمانة أكيدة لحرية الدين والتدين والوجدان , وضمانة لتخفيف حد الصراع المذهبي الديني وإيقافه ذاك الذي كان مرضا من أمراض الإسلام لازمه طويلا حتى اليوم ولم نجد دواء له , وفتت الأمة , ودحر قوتها .
تحل ( العلمانية ) وهي أداة سحرية خارقة للعادة معضلة قبول النظام السياسي التي نعاني منها منذ الفتح التركي للسودان في عام 1821 وذلك بأنها تحث بل توصي بل تفرض احترام حقوق وحريات الأفراد التي تعد شرط أساسي من أجل تقبل المجتمع ومشاركته بصدق في النظام السياسي والديمقراطي .
تؤمن العلمانية كإطار عقلي واسع بأن الاختلاف ثراء فكري . يجب أن نختلف حتى نتنوع . يجب أن نختلف حتى نرى . يجب أن نختلف حتى نتكامل . يجب أن نختلف حتى نتطور . فليس للحقيقة وجه واحد إلا تلك الحقيقة التي يؤمن بها مستبد أو غيبي أو مخادع . للحقيقة ألف وجه , ومادمنا نؤمن بالتعددية فيمكن أن نتعرف أكثر , وأن نتعلم المزيد , وأن نتطور درجة بعد درجة في سلم الأفكار والمعاني والمفاهيم . التعدد هو الذي صنع التقدم .
تزيل ( العلمانية ) ذاك التعارض العصي المربك الذي عانت منه دول مثل تركيا قبل نهضتها الأخيرة بين ( الهوية والتنمية ) بين التمسك بالدين كهوية تاريخية , وبين الدولة وقوتها وعلاقاتها الخارجية في مشهد ( معولم )على إقامة مشاريع تنموية ناجحة . إذ المعارك في تركيا منذ تأسيسها في 1923 بين الدين والعلمانية أعاقت التنمية والانطلاقة الاجتماعية وهذا الأمر تحاوله الآن هيئة علماء السودان بواسطة الشيخ محمد النظيف ربما دون أن يدرك أبعاده الخطرة .
أكثر من ذلك تضمن ( العلمانية ) التي هي في حقيقتها الموضوعية بعيدا عن الشعارات و( الحزازات ) والنفاق الإعلامي دعوة إلى العلم , تضمن الموافقة والتماهي بين الدين والعصر, ففي الأديان والاعتقادات بعد انهيار التصور القديم لشكل الكون عن طريق العلم , وبعد الاختراقات في الفيزياء لكثير من المسلمات أصبحت جوانب كثيرة في الدين عصرية ومقبولة وجدانيا , وهذا ما دعا راشد الغنوشي زعيم النهضة في تونس إلى ترك الإسلام لتطورات الحركة المجتمعية دون تدخل حزبي أو عقلي معين . فخلال حركة المسلمين في التاريخ وخلال صراعهم من أجل الحياة كان الدين ” يعصرن ” وباستمرار في عملية علمانية واسعة وجذرية . وما الرفض الشعبي العارم لداعش وطالبان والإخوان المسلمين إلا دليل على أننا نمتلك دينين : شعبي وحزبي , فالشعبي علماني , والحزبي أيديولوجي وهو الذي يدعو إليه الشيخ محمد النظيف وهيئته الموقرة وعموده الفقري الاستبداد والفساد . إسلامنا (علماني ) وليس أيديولوجي ولذلك نرفض التفجيرات وقتل الآمنين والأبرياء ونرفض الجهاد داخل حدود بلادنا وقتل المواطنين باسم الدين ونقبل الديمقراطية والتعايش السلمي مع جيراننا ومن يحيطون بنا . إسلامنا علماني ولذلك لا نخاف عليه , ولا نستغله من أجل الفساد , وقهر الآخرين وإنما نقدمه دائما كحقائق ناصعة وعلى طبق من ذهب .
تؤمن ( العلمانية ) بأن أهم عناصر الثقة بين المجتمع والدولة, وبين المجتمع والنخبة , هو إيمان الأفراد بأن حقوقهم وحرياتهم مصانة تماما , وهذا الإيمان هو أحد عناصر التنمية والنهضة والتقدم وهو القوة المحركة لكافة الدينميات الاجتماعية .
في الخاتمة يجب رفض أي ثقافة معادية ( للعلمانية ) لأن العلمانية ليست حزبا أو هيئة أو مذهبا بل هي إطار للتفكير الحر وللإبداع التطوري وهي أساس الحرية والسلام الاجتماعي الذي نفتقده حيث توفر وتضمن ممارسة الشعائر الدينية والتعبير عن القناعات الفكرية وبما أن الإسلام هو الغالب عندنا فمن أين يأتي الخوف من العلمانية ؟ من أين يأتي خوف الشيخ محمد النظيف من رئيس علماني لن يقطع رزقه ولن يسجنه ولن يصادر حقوقه المادية والروحية , رئيس علماني محدد الصلاحيات دستوريا ؟ إنهم الذي يرفضون الديمقراطية وحقوق الإنسان و يرفضون المحاسبة واستقلال القضاء ويرفضون النهضة الشاملة , الذين يعيشون على الحروب وتجارة السلاح والمخدرات التي يرفضها ويكافحها أي رئيس ديمقراطي علماني بالضرورة حتى ولو كان مسلما .
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. انا حزين لأن امثال النضيف حتى لو قراؤوا مثل هذه الدرر فانهم لن يفهموها . قد اسمعت يا خالد لو ناديت حيا ولكن يا خالد لا حياة لمن تنادى

  2. * لك الكر يا اخى..لكن هذا الشيخ دجال و مهووس!..و لا يعرف عن العلمانيه إلآ “الإسم” الذى يسمع به لماما!
    * و لا يؤمن ب”العقيده” نفسها, إلا كوسيله “للتمكين و اللهط”!
    * و لا يعرف عن العلم و التطور و التنميه, إلا ما يمتطيه من سيارات حديثه!, و ما “يدرعه” من ثياب و عبايات!!, و ما “يلعلع” فيه من مايكوفونات و موبايلات “آيفون”!
    * و الحفيقه انا اصلا استغرب لأى حديث عن “دين” يدين به “هؤلاء” المجوس!
    * و لا تنزعج يا اخى, فالتطور التاريخى و الانسانى كفيل به و بهم!
    * ألم تستمع للمجوس فى “الحوار!”! يتحدثون عن “الإشتراكيه!” و يقررون “الإقتصاد المختط”!, مسقطين نهائيا اى إحتمال ل”إقتصاد الإسلامى”!
    * و مع ذلك فالتنبل يرفض رئيس علمانى!

  3. شكرا الاخ خالد علي هذا العطاء النبراس للذين احتكروا الدين هو نفس الدين الذي حين فهمناه علي حقيقته سدنا به العالم وحين سورناه بما نريد انتكسنا وقبل 14 قرن دعهم ينظروا كيف جمد الفاروق حد السرقه في عام الرمادة وكيف اعطي اليهودي مرتبا تقاعديا لترك الخدمة من بيت مال المسلمين وكيف هو الذي قال في حرية تحسده عليها ديمقراطية اليوم (اصابت امراة واخطأ عمر ) والذي قال ( متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا )سبق بها القرن الحادي والعشرين وهيئة الامم وما ذاك الا انه رضي الله عنه نفذ بالدين لجوهره ولمرادة في اسعاد الناس بحرية وحرائر السودان تجلد باسم الملبس وما تكلموا عن العنوسة بسبب حكمهم ولا كيف فعلوا بالناس في معاشهم وكيف شردوا الاسر وابن الخطاب يقول (لو عثرة بغله بالعراق ) امير يخاف علي حق حيوان في الحياة فكيف به بالانسان اليس تسوية حق علي الامير بوسيلة علمية ما لهم هؤلاء!!!شكرا وواصل في هذا المنحي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..