بمنتهى الصراحة والوضوح

عبدالدين سلامه
لازالت آثار استقالة حمدوك تصبغ الساحة السياسية بلون رمادي رغم أنها نفضت الغبار عن الكثير المستور ، ولازالت بلادنا تتدحرج بسرعة خيالية نحو المجهول ، ومخطئ من يعتقد أن الساحة السودانية انقسمت لفصيلين عسكر وثوار ، فالعسكر أنفسهم منقسمون رغم التماسك الظاهري ، فهناك جيش ودعم سريع وشرطة وأمن وحركات مختلفة متعددة ، وهناك الحلو وعبدالواحد اللذان لا يعرف أحد خطواتهما القادمة ، وهناك المتململون في داخل كل الأطياف العسكرية ، أما المدنيون فهم أيضا شعوبا وقبائل ، الأحزاب مختلفة بين يمين ويسار ووسط وهجين ، والثوار منقسمون بين تابعين لأحزاب يسارية ومستقلين لاهم لهم سوى الوطن ، وهناك من يصطادون في الماء العكر ، والكل يرفع شعارات يريد إسماعها للآخرين ويصم أذنيه عن سماع أي صوت غير صوته ، والضحية الأساسية هو الوطن الجريح .
الكل يتحدث باسم الوطن ، والكل يرى الوطنية بمنظار يختلف عن منظار الآخر ، وحوار الطرشان هو الغالب ، فالعسكر يستخدمون القوة ضد المدنيين والمدنيون يستخدمون العناد وركوب الراس ضد العسكر ، وتستمر الفوضى وتتعطل الدولة وتتناقص المواد التموينية ويعم الغلاء وينعدم الأمن وتتوقف الحياة والجميع ينسج خيوط معاناته بيديه .
ومع انشغال السودانيون بحرب بعضهم البعض غزى الساحة السودانية لاعبون آخرين لكل منهم مآربه ومخططاته ورؤاه ، فالغرب والصين وامريكا وروسيا واسرائيل والعديد من دول المحيط وبعض الدول الإفريقية ، يسجّلون حضورهم باستخباراتهم علنا أو سرا ، وسفراء دولهم يستبيحون ويأمرون وينهون ويتحكمون في شئون البلاد والعباد ، ويطبّل لهم البعض ويتقوى بهم على الآخر ، والمخابرات الأمريكية ترسل علنا وفدا رسميا لهندسة وتشكيل الحكومة القادمة !!!
السؤال الأهم هو لماذا لانريد أن نسمع لبعضنا البعض ولماذا نرفض الحوار مع بعضنا بينما نتهافت على الحوار مع الآخرين الذين ندرك سلفا أن تدخلهم في شئوننا ليس حبا فينا ولكنه استعمار سمج ، وتدخلات الدول الأجنبية في الدول الأخرى تماثل المثل القائل ( الشقي من يرى في نفسه والسعيد من يرى في غيره ) ، وأمامنا العديد من النماذج غير البعيدة جغرافيا كليبيا وسوريا والعراق ولبنان ، والقائمة تطول .
لاحل لنا سوى الجلوس إلى بعضنا البعض ، فلا طرف يستطيع حكم الآخرين دون إرادتهم ،والشعب حتى الآن لم يفوّض أي طرف داخلي أو خارجي لحكمه ، ومايحدث في عاصمتنا لو نظرنا له من الوجه الآخر نرى أنه أضرّ بالشعب وليس الحكومة ، فإغلاق الطرق والجسور من جانب العسكر أو الثوار أوقف الحياة وعطّل مسيرتها ، وهناك حالات لابد من التفكير فيها كالمرضى الذين يحتاجون الوصول للمستشفيات لتلقي العلاج ، وكذلك المعتمدون في معيشتهم على رزق اليوم باليوم ويحتاجون سير حياة طبيعي ليعيشوا ، والطلاب الذين أهدروا سنوات تعليمهم ، والوقت الذي يمضي في صراعاتنا الحادة كله خصم على مسيرة بلادنا ، ويكفي أن بعض التجمعات غدت تهتف بالحسرة على النظام السابق .
خطاب التسامح لو لم يسد فإن على السودان السلام ، وعلى العسكر إقناع الكل بأسباب مقنعة لانقلابهم على الحكومة المدنية التي قالوا أن بعض رموزها تم اسقاطهم بتهم جنائية من حق الشعب معرفتها، وعلى القادة الذين يسعون لتأزيم الأوضاع إقناع الشعب عبر جرد حساب واضح ، فالطرفين يحيطان الحقائق بالغموض والحلقة المفقودة لاتزال مفقودة لأن الأسباب المطروحة في الساحة ليست مقنعة بمايكفي لإيصال البلاد إلى هذه الهوة المريعة التي توقف معها كل شيء .
حمدوك أخطأ لأنه أمسك عن قول الكثير من الأسرار ، وأمسك أيضا عن كشف الحقائق الجوهرية لاتفاقه الأخير مع العسكر قبل استقالته ، وأخطأ أيضا حينما تعامل مع الشئون المعقدة بليونة وتهذيب ، وفولكر الذي نصّبه الغرب واليا على بلادنا تجاوزت تصرفاته المستفزة حدّها المعقول ، وثورتنا أصلا لاتحتاج وصاية ، فالشعب لو لم يبلغ رشده لماتمكن من الإطاحة بنظام البشير الذي اتخذه الفرقاء شماعة يخافون فوزها في أية إنتخابات قادمة ، وهي لعمري سقطة مابعدها سقطة وكأنما الشعب الذي سيدلي بأصواته في الإنتخابات قاصرا أو لايملك وعيا كافيا ، فاستفزاز الشعب أمر مستغرب بدأه البعض منذ أن تغنوا ( من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر ) ، و( الزارعنا غير الله اليقلعنا ) ، وغيرها من العبارات والجمل التي تنظر للشعب نظرة غريبة لاتختلف عن لحس الكوع وشذوذ الأفق .
الحياة لابد أن تمضي ، والتوافق لابد أن ينشأ لو أردنا أن نعبر ببلادنا من هذه الحالة المهددة لوحدته ، والثورة لم تقم لتزرع الكراهية أو توقف الحياة وتخرّب كل شيء جميل بل حملت شعارات واضحة هي الحرية والسلام والعدالة ، وماتقوم به مختلف الأطراف الفاعلة ليس سوى انتفاضة ضدّ شعارات الثورة وليس سوى أفعال هدفت بقصد أو بغير قصد لتكريه الشعب في ثورته ، لأن المواطن العادي يحسب النجاحات بحياته المعيشية والأمنية لابالشعارات الجوفاء التي تعود الساسة إطلاقها دون عمل أو إيمان أو حتى معرفة بتفسيراتها وأبعادها ، ولامبرر لخوف البعض من البعض وخوف البعض من الحوار وكأنما الحوار هو انتصار طرف على آخر ، فالحوار دون شك سيفضي لركائز وأسس ترغم من لايريده الشعب للرحيل ولمن يريده للبقاء ، والشباب الثائرين الذين ضحوا بالدماء الغالية وجب عليهم إقامة مؤتمر جامع لتحديد شكل الحكم الذي يريدون وجدولة الأزمان للوصول النهائي لذلك الشكل ، وعليهم أن يغلبوا الحكمة على الحماس ، ، والأحزاب تسعى لتمرير أجندتها غير عابئة بالدماء الغالية التي تزهق في كل يوم ، ولم نسمع حتى الآن باستشهاد رمز حزبي أو نجله ، ولم نسمع حتى الآن بإصابة مسؤول حزبي .
الحل لايمكن أن يكون إلا سودانيا لو أردنا الخروج من أخطاء وخطايا النظام السابق وما أعقبه في العامين السابقين ، والقضايا العلقة يجب أن يكشف عنها الغموض ، ولجنة أديب بتلكؤها تسببت في جزء كبير مما حدث ، وكذلك لجاننا المدنية الأخرى التي تباطأت وأخفت وسرت شائعت عن بعضها بأنه باع .
الحوار ياشباب الثورة هو الحل وصوتكم سيكون الطاغي فيه
وقد بلغت
انت قد بلغت وانا على ذلك من الشاهدين… اللهم اضرب الظالمين بالظالمين واخرجنا من بينهم سالمين.