حق تقرير المصير للشعوب السودانية

خالد فضل
عندما كان القادة السياسيون من المديريات الشمالية في السودان يتأهبون لإستلام السلطة من المستعمرين الإنجليز/ المصريين , وعبر القنوات السلمية المتمثلة في المجلس التشريعي المنتخب , والمحادثات الدبلوماسية مع طرفي الاستعمار , كان رأي القيادات في المديريات الجنوبية (أعالي النيل _ بحر الغزال _ الإستوائية) أن الوقت لم يحن لجلاء الإستعمار وبداية العهد الوطني الجديد لأن الفوارق السياسية والإجتماعية والتنموية بين الشقين الشمالي والجنوبي في سودان موحد لا تسعف في بناء وطن يسع الجميع . وعبّروا عن خشيتهم من أنّ تحقيق الإستقلال في هذا الواقع قد يعني للجنوبيين استبدال مستعمر بمستعمر آخر بحكم هيمنة السودانيين من الشمال على مفاصل الحكم ومظان الثروات والموارد , لذلك اشترطوا لقبولهم بتحقيق الإجماع حول مطلب الإستقلال أن يحدث ذلك وفق معادلة سياسية إدارية بمنح الجنوب حكما فيدراليا في اطار السودان الموحد . بإعتبار الفيدرالية تمثل نمطا من الحكم يتيح لمواطني الإقليم قدرا معقولا من الفرص لإدارة إقليمهم والإستفادة من ثرواتهم ومواردهم , وبالفعل تمّ التواطؤ معهم على هذا النموذج في الحكم والإدارة , ولكن فور رفع العلم إيذانا ببدء حقبة الوطن المستقل , جرى التنكر لهذا الوعد , بل ظهرت أدبيات مناهضة للفيدرالية بإعتبارها (إنفصالا ) . لا نتهم جيل الآباء بالمؤامرة , ولكن على أفضل حالات حسن الظن (بالجهل) وضيق الأفق . بينما كان رصفاؤهم الجنوبيون أوسع أفقا منهم على كل حال . وأعمق حكمة.
صار حق تقرير المصير ضمن أدبيات كل القوى السياسية السودانية الشمالية الطابع أو الجنوبية الهوى منذ ظهوره ضمن بنود مبادرة الإيغاد في 1994م , تلك المبادرة التي جاءت بناء على طلب الرئيس المخلوع عمر البشير كما هو معروف ؛ بالتالي يصبح حزب الاسلاميين المؤتمر الوطني هو صاحب المبادرة الأولى لمنح هذا الحق لشعب جنوب السودان .
ثم سار التاريخ الوطني سيرته المعروفة جيلا إثر جيل حتى عهد (ندى القلعة) , وقد باتت المديريات الجنوبية يومذاك ؛ جمهورية جنوب السودان في يوم (المصباح طلحة) هذا. وأصبح صبيان وشباب حميدتي يجتثون في دولة 56 من داخل مباني المتحف القومي ودار الوثائق المركزية وليس عليهم عتب , إذ لم يولدوا ويترعرعوا ويتعلموا وتتفتق قدراتهم ومواهبهم في كنف (وطن) هذه هي الحقيقة ذات الطعم المر جدا . أذكر أنّ زميلا لنا من جبال النوبة يحمل اسم الكنيسة , ذهب في معية زميل آخر من أبناء الجنوب عقب انفصال/ استقلال دولته , لتسوية أمور الضمان الإجتماعي والمعاشات ؛ وكانت تتطلب حضور شاهد أو ضامن سوداني من الشمال , وعند تقديمه لبطاقته الشخصية كان رد الموظف (نحنا قلنا عاوزين زول شمالي) ولأن صديقنا ذاك يمتلك هدوء أعصاب مميز ,ردّ بكل تواضع : يعني جبال النوبة دي ما تبع الشمال ! فاسقط بين يدي الموظف ومرر الإجراء وهو مطاطئ الرأس . هذه الواقعة تؤشر إلى نظرة الدولة لشعوبها المفترضة , الموظف ضحية مثله مثل ملايين الضحايا وهم لا يشعرون , لأنهم في الواقع يعملون ضد واقعهم , ضد أنفسهم , ضد نواميس وأبجديات بناء وطن لهم يسعهم مع الآخرين .
من ضمن ما يتم تداوله حاليا ممارسة حق تقرير المصير , تحت ظلال السيوف والسكاكين المشرعة في حرب السودانيين الراهنة ضد بعضهم بعضا , تحت قيادة ما يفترض نظريا أنها قواتهم المسلحة الحكومية ؛ وهل من نكران لوضعية الجيش بقيادة البرهان والدعم السريع بقيادة حميدتي ؟ هل يكابر مكابر حول تلك الوضعية حتى يوم 15 أبريل 2023م , ما تلا ذلك التاريخ من وقائع يعتبر نتائج وليس سببا في الطعان . فالطرفان شكلا معا القوات المسلحة , وقائد الجيش رئيس مجلس السيادة الإنتقالي بموجب الوثيقة الدستورية 2019م وقائد الدعم السريع نائبه الأول _ بوضع اليد قبل 25 أكتوبر 2023م وبمرسوم سيادي بعده , تلك وقائع وأحداث عرفها من مات بعد ذلك التاريخ , وما يزال يعرفها الأحياء من السودانيين /ات وكل المتابعين والمهتمين من بقية شعوب العالم . إنهم يفهمون الصراع على حقيقته وفي جوهره وليس كما يريد طرف أن يصوره , صراع على السلطة والنفوذ مسنودا بتوق الإسلاميين المؤتمر الوطني للعودة الكاملة دون عائق , بدا لهم أن حميدتي يقف حجر عثره أمام ذلك التوق المريض , ويعرفون جيدا أن ما من شخص كشف خباياهم ومكامن خبثهم مثله , فهو ابن كارهم , لعب معهم كل لعباتهم الخبيثة وكان مصهين لإتفاق المصالح , فلما اختلفت بان الخلاف .
تحت وقع حرب الجيش الحكومي ضد بعضه هذه المرة ؛ فتاريخ السودان كله منذ الإستقلال كللته حرب الجيش ضد شعوبه , تبدو فكرة تقرير المصير للشعوب السودانية وكأنها التتويج الأخير للفشل في بناء الوطن , وتظل المأساة قائمة , إذ أنّ أي جزء من أرض السودان يحمل نفس المعطيات التي تحملها الأنحاء الأخرى , نفس سمات فسيفساء التعددية العرقية والدينية والثقافية واللغوية , مع تفاوت في المقدار فقط , فكيف لأي جزء أن يدير هذه التعددية والداء المقيم سرطان تكاثرت خلاياه وسممت الجسد كله ففشلت الأعضاء في أداء الوظائف , نعم الفشل في إدارة التنوع والتعدد ليكون مثمرا وخلاقا هو أس البلاء , ولا تحدثني عن المؤامرات , كفاية دفن الرؤوس في الرمال , نحن كسودانيين مفترضين لم نرتق لمرحلة ما ندعيه من سودانيتنا هذا هو الواقع بدون تزييف , هذا هو العطب الكبير في تكويننا النفسي والذهني _ بالطبع ليس على وجه الإجمال لكن بنسبة الأغلبية _ خاصة وأنّنا خلال أكثر من نصف القرن ظل السودان يخضع لحكم عسكري ديكتاتوري واستبداد شمولي عنيف يتناقض جذريا مع أدنى مطلوبات إدارة التعددية والتنوع ؛ هذه من أهم عناصر الفشل التاريخي لكل من يشغل عقله لا عاطفة وقتية تتحكم فيه , وبهذا الوضع إذا مارست أي جهة حق تقرير المصير فستكون النتيجة ذاتها , وتجربة الجنوب ليست بعيدة , رغم أن الظرف كان سلميا وفق اتفاق مشهود واستفتاء في أوضاع معقولة نسبيا .
أصلاً تقسيم السودان هدف إستراتيجي إلتقت عليه الجماعة المسيلمية مع الصهيونية.
منذ دخول هذه الجماعة القذرة في تحالفها الانتهازي مع جعفر الحمار فإنها بدأت أولاً في نهش إتفاقية أديس أبابا وأقنعت الحمار جعفر أن مصلحته في تعديل تلك الاتفاقية لكسر سيطرة الدينكا على الجنوب. تشهد بذلك مضابط جلسات مجلس الشعب القومي فقد كان رائد المجلس فأر الفحم وكل المسيلميين مع تعديل تلك الاتفاقيه اثناء مناقشتها خلال عام ١٩٨٢.