جذور مشكلات السودان وأسباب الحروب (2)

تناول المقال الأول إخفاق النخبة السودانية في إدارة سودان ما بعد الإستقلال والذي ما كان إلا وليد معوق للإستعمار البريطاني وكيف أن السيدين، المهدي والميرغني، أخفقا في النهوض بالعمل السياسي وفي تفعيل آليات الديموقراطية حتى في قواعدهما فكان ذلك السبب الرئيس والأهم في عجزهما عن إدارة وطن بحجم قارة. ولكن شاءت الأقدار أن تنتهج جماعة الإخوان المسلمين السودانية مسار الطائفية الصوفية فأصبحت فئة لا تقبل أو تتفاعل مع غيرها بالرغم من أن شعار ومبررات إنقلابها في 30 يونيو 1989 كان هو ثورة إنقاذ السودان والذي وضح جلياً أنه شعار زائف وفاقد الصلاحية قبل أن يطرح في سوق النخاسة السياسية حيث أن الجماعة لم تنجح في إنقاذ نفسها أولاً قبل أن تُنقذ الآخر بدليل أنها لم تفكر أو تسعى حتى في مجرد تكوين حزب سياسي إنفتاحي وطني قومي جامع لكل ألوان الطيف لمجرد إبداء حسن النوايا لأن ذلك، وعلى ما أعتقد، قد يكون مخالف للمنهجية العقائدية والفكرية والتنظيمية التي تحكم مساراتها فآثرت مواصلة الإنزواء في عزلتها السياسية والمجتمعية التي لا تقبل المساومة، بل تمادت في تعلية الأسوار بعد السيطرة على السلطة بالإنقلاب العسكري والإنفراد بها فلجأت للتمكين السياسي والإقتصادي بجانب التمكين العسكري بشقّيه النظامي والشعبي. وأصبح كل ذلك كفيل بتأهيلها لإستخدام سياسة الجذرة والعصا، الترغيب والترهيب، لإحكام سطوتها وإنهاك الكيانات السياسية الصغيرة المناوئة لها بل سعت لتفكيك حزبي السيدين المهدي والميرغني، الأمة والإتحادي، فكم من مهرجانات وسرادق أفراح نصبها حزبها الحاكم، حزب المؤتمر الوطني، إبتهاجهاً بإنسلاخ قيادات وجماعات بل أفواج من حزبي السيدين وإنضمامها له وإنزوائها تحت عباءته مستجيرة من رمضاء القهر والتجويع والحرمان ولنيل المكاسب كثمن لأتعاب مكياج وجراحات تجميلية لوجه النظام الذي لم يرحمه الزمن العصيب، وذلك دون وعيّ من حزب المؤتمر لمخاطر الإنقضاض على الآخر وأن القضية ليست كالمنافسات الرياضية حيث أن الفوز بالدوري المحلي يؤهلها للمنافسات الإقليمية والدولية، وكان نتاج ذلك المردود السلبي على حكومة الإنقاذ في المحافل الخارجية الدولية وعجزها عن التصدي للضغوط فيما يخص حروبها الأهلية وفك سمكرة نوافذها الإقتصادية المغلقة وبذلك يتأكد أن تفتيت الجبهة السياسية هو إضعاف للجبهة الداخلية والذي لم ولن يكون في صالح الدولة ولا السلطة الحاكمة.

فكل هذه الكبوات السياسية هي مسئولية مشتركة ما بين النخب السياسية والجيش السوداني الذي لم يكن يحظي بما يميّيزه عن بقية جيوش أفريقيا والعالم الثالث التي إستمرأت حكايات الإنقلابات في فترة ما بعد الإستقلال من الإستعمار الأوروبي ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، وآخرها إنقلاب اللواء السيسي على الشرعية الدستورية في مصر. تلك الإنقلابات التي دائما ما يحاول العسكر وبطانتهم المدنية النفعية تسويق مبرارتها مُدّعيةً أن القوى السياسية المدنية عاجزة عن تدبير شأنها وأن الشعوب العربية غير مؤهلة للديموقراطية بعد. ولكن تبقى القضية في جوهرها هو التهافت على السلطة والرغبة في التسلط بموجب قانون الغابة والعرجاء، أي منطق القوة المسلحة مقابل المستضعفة العزلاء، وذلك يتأكد تماماً في الحالة السودانية حيث لم تنجح أي محاولة إنقلابية عسكرية ضد حكومة عسكرية على الإطلاق وطيلة حكم العسكر الذي إستمر 48 عاماً، أي قرابة النصف قرن من الزمان لثلاث فترات متقطعة مقابل 11 عاماً لحكومات مدنية ديمقراطية توزعت على ثلاث فترات متباعدة ولكن كان الفضل في إسترداد الشرعية والحياة الديموقراطية يعود للشعب العنيد بثوراته السلمية المجيدة ضد الدكتاتوريات العسكرية.

فقد كانت الديموقراطية الأولى إنتقال ديموقراطي طبيعي للسلطة من المستعمر البريطاني للسودانيين وكانت الحكومة برئاسة عبد الله خليل، حزب أمة، الذي إستمرت فترة حكمه لعامين فقط من يوليو 1956 وحتى17 نوفمبر 1958 حيث نفذ ضدها أول إنقلاب عسكري في سودان ما بعد الإستقلال وكان بقيادة الفريق إبراهيم عبود الذي حكم لست أعوام لتطيح به الثورة الشعبية في 21 أكتوبر 1964 حيث إنحاز الجيش للشعب والتي عرفت على أنها أول ثورة شعبية تحدث في العالم العربي والأفريقي. وكانت قد إنطلقت من جامعة الخرطوم، وغمرت شوارع العاصمة ضد نظام عبود، فأنحازت القوات المسلحة السودانية للثورة الشعبية، فجاءت الديموقراطية الحزبية الثانية فتمت الإنتخابات وفاز حزبي السيدين ونصب الزعيم إسماعيل الأزهري رئيس لمجلس السيادة عن تجمع الإتحادي الديمقراطي وآلت رئاسة الوزارة لحزب الأمة فتبادل رئاسة الحكومة سرالختم الخليفة ومحمد أحمد المحجوب والصادق المهدي من 1964 وحتى 25 مايو 1969 حيث قاد العقيد جعفر محمد نميري إنقلابه العسكري بمشاركة من الحزب الشيوعي السوداني والقوميين العرب، واستمر في الحكم 16 عاما لتنهى حكمه الإنتفاضة الشعبية في 6 أبريل 1985 وهي ثاني ثورة شعبية تحدث في السودان والعالم العربي وأفريقيا بعد ثورة أكتوبر لتطيح بحكم عسكري وأيضاً إنحاز فيها الجيش للشعب فأستلم المشير عبد الحمن سوار الذهب مقاليد السلطة الإنتقالية وأصر على تسليمها بعد عام واحد للساسة المدنيين، في سابقة فريدة من نوعها في العالم الثالث، فتمت الإنتخابات وكان من الطبيعي فوز حزبي السيدين ونُصب أحمد الميرغني رئيساً لمجلس السيادة والصادق المهدي رئيساَ لمجلس الوزراء، وتواصل إخفاقهما في أيجاد أي جديد حتى 30 يونيو 1989 حيث نفذ العميد عمر حسن أحمد البشير إنقلاب الإخوان. يجب التنويه لأن الإنقلابات العسكرية التي راج سوقها في العالم الثالث قد يكون خلفها تدبير أو بإيعاز مباشر أو غير مباشر من القوى الإمبريالية الغربية تحت المظلة الأمريكية لتجدد إحتلالها لمستعمراتها القديمة بواسطة الوكيل الإنقلابي للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية والإقتصادية كما هو معروف وكما يعترف بذلك الكثير من موظفي الإستخبارات والسلك الدبلوماسي الأمريكان والأوروبيون في مذكراتهم.

ولكل ما سبق فقد كان من المستحيل أن تتجه الأحوال في سودان ما بعد الإستقلال عكس الإنحدار البطيء نحو الهاوية والذي كان ولا يزال سمة كل مناحي الحياة السياسية والإقتصادية والتنموية والأمنية والتربوية والخدمية والصحية والدبلوماسية وغيرها. وكلها وفّرتْ المناخ المثالي لهجرة الكوادر الوطنية المؤهلة أكاديمياً وفكرياً وتقنياً وحرفياً حتى مرت فترات كان من العسير أن تجد عامل بناء أو سباكة أو كهرباء يتقن عمله، ولم تدرك تلك الجموع المغتربة أنها وبحانب إخفاقات النخب السياسية والإنقلابية فهي أيضاَ قد أسهمت الإسهام الأكبر في إنجاز الكارثة الكبري والأسوأ على وطنها منذ الإستقلال وحتى اليوم ألا وهي الإنفتاح على سوق العمل الخليحي في فترة السبعينيات والثمانينيات وعقد الصفقة الماحقة ما بين الشعب السوداني المنكوب وشعوب الخليج المحظوظة الرابحة والتي إستنزفت طفرتها الفجائية المتعطشة ثروات السودان البشرية الأكاديمية والحرفية مقابل عملات صعبة لإعمار غابات الأسمنت والإحياء السكنية الراقية وتحويل المجتمع لقوة إستهلاكية قارضة تستورد الثوم من الصين في بلد يعتبر من أغني الدول الأفريقية من حيث الثروات الطبيعية إن لم يكن أوّلها وأيضاً مقارنة بكثير من دول العالم. ولكن قد لا يقع اللوم على المغتربين من أجل لقمة العيش الكريم بل اللوم كله يجب أن يصب على إزدهار دول الخليج والذي صادف أحرج مراحل التنمية السودانية بكل خططتها الخمسية والعشرية والإنقاذية وغيرها. وقد قدر بعض الخبراء أن الكوادر المغيبة يقدر حجمها بنسبة 80% من إجمالي الخبرات السودانية في كافة المجالات.

ولكن جاءت حكومة الإنقاذ فكان أول إسهماتها في زمان النكبات أن تصب الزيت على نار حريق الوطن، فأمسكت بسيف الصالح العام لتقضى على الكثير مما تبقى بل سعت لتطوير منهجية الإقصاء من إغتراب خليجي يحتمل العودة بعد بلوغ سن المعاش أو إنها عقود الخدمة فغيّرتها لتكون هجرة أبدية للعالم الغربي الذي لا يتواني في إبتلاع المهاجرين له وإستيعاب ذريتهم وتكون المحصلة فقدان أجيال قد يكون من المستحيل إستردادها. ثم بقت وحدها في الساحة لتواجه معضلات لم تُقّدر حجم فداحتها وكان أخطرها سعير حرب دارفور وجبال النوبة التي أطلق شرارتها الأولى الدكتور خليل إبراهيم بالثورة المسلحة بحجة نصرة شعب دارفور المهمش ويجب أن لا تفوت على الشعب السوداني أن مؤسس حركة العدل والمساواة كان أحد أمراء طالبان السودان وكان شريك في إنقلاب 30 يونيو 1989 وفي سلطة الإنقاذ الحاكمة حتى العام 1998 ليخرج بعد الخصومة والإنشقاق ضمن فصيل الترابي. وهنا يتوجب رصد وإحصاء إسهامات الكوادر الإنقاذية من أبناء دافور ودورهم في تكريس معاناة وتهميش أهلهم قبل أن ترمي باللائمة على أهل الشمال أو الجلابة كما عرفت تسميتهم. ثم تلى ذلك نهوض العديد من الحركات المسلحة التي تَدّعي وصايتها على شعوب دارفور وجبال النوبة فأضفت على حرب الجنوب مشروعيتها وأسهمت إسهام مباشر في فصله. ولكن ليس من الأخلاق ولا الأمانة في شيء أن ينكر عاقل حقيقة معاناة وتهميش أهل دارفور وجبال النوبة وبالمقابل يتحتم على ثوار دارفور وجبال النوبة الإحتكام للمنطق والمنهجية العلمية والأمانة في تشخيص قضية الهامش ومن هم المهمشين؟ أليس كل شعوب السودان مهمشة الآن؟ أليس السودان دولة تحتل نهايات قوائم القياس في كل أوجه الحياة في عالم اليوم؟ فليس من العدل في شيء أن تختطف قضية الهامش وتُلبسها ثوب العنصرية ومن ثم المساومة بها لأغراض خاصة بل يجب أن تكون القضية قضية قومية شاملة.

فخير أمثلة التهميش في سوداننا هو حال مواطني ومزارعي مشروعي الجزيرة والمناقل والذين وقعت علي عاتقهم، ولعقود من الزمان، كفالة و إعالة الدولة السودانية وتوفير الجزء الأكبر من ميزانيتها في أيام الإنجليز وما بعد الإستقلال، وكل ذلك من عائد الأقطان والتي كان بنك السودان ولوقت قريب يدفع منها مستحقات وإمتيازات المعاش للموظفين الإنجليز الذين عملوا في السودان ويرسلها لهم في بلادهم، وكذلك مجانية التعليم وخاصة في جامعة الخرطوم والتي كانت تحتضن النوابغ من كل عرقيات السودان دون فرز أو تمييز وتتكفل دولة المزارعين والكادحين بكل شيء حتى الإسكان والإعاشة علاوة على توزيع المنحة الشهرية كمصاريف نثرية للطلاب المحتاجين، وأيضاً بعثات الدراسات العليا. فأين أهل الجزيرة الآن؟ ولنا لقاء ومواصلة

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الكلفة الاقتصادية لحرب دارفور
    حامد التيجاني علي
    آخر تحديث : الأربعاء 12 أكتوبر 2011 14:46 مكة المكرمة
    الحرب في دارفور ?كما في كل مكان- لها كلفة عالية على المستويين الاقتصادي والإنساني. وقد أظهرت التقديرات التي حوتها هذه الدراسة أن حكومة السودان أنفقت على حرب دارفور 24.07 بليون دولار وهو ما يعادل 162 % من الناتج المحلي الإجمالي خلال سنوات الحرب. ويشتمل هذا على 10.08 بليون دولار في صورة نفقات عسكرية مباشرة، و7.2 بليون دولار في صورة خسائر في الإنتاجية فقدها النازحون عن أراضيهم داخل دارفور، و2.6 بليون دولار في صورة خسائر في المدخرات الحياتية فقدها القتلى في الحرب، و4.1 بليون دولار خسائر نتجت عن الإضرار بالبنية الأساسية.

    وفي الوقت الذي كانت الدولة على مدار عقدين توجه ما نسبته 1.3 % من ميزانيتها إلى الصحة العامة و1.2 % إلى التعليم، فإنها كانت تنفق ما نسبته 23 % من الميزانية السنوية إلى المجهود الحربي في سنوات الحرب في دارفور. والمؤمَّل من هذه الورقة أن تلقي مزيدا من الضوء على الكلفة الاقتصادية والإنسانية لهذه الحرب التي يبدو أنها لم تخضع لدراسات اقتصادية معمقة بالقدر الذي يتناسب وجسامة ما راح ضحيتها من خسائر.

    أنماط الخسائر وسبل حصرها

    تبعا لتقرير التنمية الدولي لعام 2011 تسبب ارتفاع عدد النازحين داخليا في مختلف الدول، ومن بينها السودان، إلى تقطع أواصر التنمية البشرية، وخلق تحديات كبرى أمام تلبية الأهداف التنموية في الألفية الجديدة. وقد خلّفت الحرب التي شهدتها دارفور أكثر من 30 ألف قتيل، ونزوح 3 ملايين إنسان، وإضرام النيران في حوالي 3000 قرية، وفقدان ما قيمته ملايين الدولارات من المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية التي نهبتها الحكومة وجماعاتها المسلحة، وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA.

    وفيما وراء ذلك، لا يمكن تقدير الخسائر النفسية التي ترتبت على تلك الحرب وما ارتبط بها من تمزيق اللحمة الاجتماعية للدولة، وتدهور سمعتها. كما تعرضت الأولويات الاقتصادية للدولة لخلل تام؛ فالسودان، تلك الدولة الفقيرة نسبيا، صارت تنفق بسخاء على البارود أكثر مما تنفق على الخبز.

    ولأكثر من عقدين كانت الحكومة السودانية تنفق من ميزانيتها السنوية ما نسبته 1.3 % على الصحة العامة، و1.2 % على التعليم بينما كانت تنفق نسبا أكبر على حرب دارفور؛ فقد بلغت كلفة هذه الحرب أرقاما كبيرة لدولة مثل السودان؛ إذ كان المجهود الحربي في دارفور يلتهم نسبا متزايدة من الناتج المحلي الإجمالي. ونظرا لأهمية هذه القضية التي شغلت المجتمع الدولي لأكثر من 9 سنوات يبدو جديرا بالتأمل أن نراجع تأثير هذا النزاع على الخسائر الاقتصادية للاقتصاد السوداني.

    وقد قامت بعض المراجعات البحثية بحصر الدراسات التي تناولت قضية تقدير كلفة النزاعات المسلحة على المستوى العالمي. وتركز مثل هذه الدراسات عادة على خسائر الدخل القومي باستخدام تقنيات نمذجة حسابية متنوعة وغير متسقة. وتعبر معظم الدراسات عن التداعيات الاقتصادية للحرب كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي كثير من الحالات تشتمل هذه الدراسات على الآثار التي يمكن إرجاعها بشكل مباشر إلى النزاع، لكنها تستبعد الآثار غير المباشرة، التي قد تزيد من عبء ذلك النزاع.

    وثمة أسلوبان لحساب كلفة الحرب: الأول: يحسب كلفة إحلال المواد المدمرة، ويشتمل هذا الأسلوب على الخسائر المباشرة وغير المباشرة للنزاع بناء على نظرية اقتصادية أو دليل تجريبي. أما الأسلوب الثاني فيحسب كلفة الحرب من خلال نمذجة معروفة باسم التحليل المغاير counter-factual analysis والذي يُبنى على تقدير ما كان يتوقع أن يشهده النمو الاقتصادي والرفاهية العامة للدولة في حالة عدم تورط الدولة في النزاع. وباتباع أي من الأسلوبين فإنه من الصعب قياس كلفة النزاع بشكل كامل ذلك لأنها تختلف من حالة لأخرى.
    فعلى سبيل المثال فإنه في حالة دارفور نشب النزاع بين إقليم داخلي ودولة ضعيفة. وبإخضاع البيانات للمراجعة والتقييم، وبحساب وتصنيف كافة العناصر الداخلة في الصراع، يصبح من الصعوبة الوصول إلى أي سلسلة زمنية كثيفة طويلة الأمد لكي تطبق اختبارات تجريبية صارمة بهدف حساب الكلفة الحقيقية للحرب.

    ويذهب بعض الباحثين إلى أن الحرب الأهلية تؤثر على النمو الاقتصادي من خلال تدميرها للموارد، وإضرارها بالبنية الأساسية، وإخلالها بالنظام الاجتماعي، وتبديدها للنفقات، وهروب رؤوس الأموال؛ ومن ثم فإن سرعة التعافي من آلام ما بعد الحرب تبقى رهينة بالفترة التي استغرقتها الحرب نفسها.

    وإضافة إلى ما سبق، فإن خسائر الأرواح أو الدخل الذي كان يُنتظر أن يجلبه الذين لقوا حتفهم يجب أن يؤخذ في الاعتبار. ونظرا لعدم وجود بيانات كافية، فإنه لا يمكن تقدير الكلفة غير المباشرة وفي مقدمتها هروب رؤوس الأموال وهجرة العمالة المدربة، وضياع فرص التعليم للأجيال الجديدة. ونأمل في أن تتمكن دراسة مقبلة من سد العجز في هذه البيانات.

    وثمة نقاط أخرى عديدة يجب أن يشار إليها، نجملها على النحو التالي

    أولا:تقدم هذه الدراسة تقييما لكلفة الحرب في دارفور في وقت لا يزال النزاع المسلح لم ينته فيه بصورة نهائية وتامة؛ ومن ثَمَّ فإن الكلفة الإجمالية للحرب لا يمكن الحصول على تقدير نهائي لها، كما أننا أمام حالة يندر فيها وجود البيانات المطلوبة للتقدير والحساب.
    ثانيا: رغم تعاقب موجات الأزمات السياسية والاقتصادية التي ضربت دارفور، فإنه خلال سنوات النزاع المسلح تمكنت الدولة من استغلال المخزون النفطي لتمويل آلة الحرب. ويمكن إرجاع النمو الاقتصادي المحدود الذي شهدته البلاد إلى ما توفر للدولة من عائدات النفط التي ربحتها خلال تلك الفترة، ومع هذا فقد كان من المتوقع أن يُحدث النمو الاقتصادي مستوى أعلى لو لم يكن هذا النزاع المسلح قد اندلع.
    ثالثا: من المثير للتناقضات أن الحرب في دارفور أوجدت وظائف جديدة لأجزاء أخرى من السودان؛ فالمهمة المشتركة التي جمعت قوات من الأمم المتحدة وقوات من الاتحاد الإفريقي في دارفور قد بدأت عملها في 2007. وقدمت هذه المهمة فرصا للعمل استفاد منها 3000 مواطن وعمل فيها 26000 عسكري. كما تزايد حجم العاملين في منظمات المجتمع المدني ليتضاعف عددهم بالمئات.
    ورغم أن التدمير الذي ألحقته الحرب بالثروات القومية كان كبيرا، سنحاول الوقوف على بعض المنافع التي عادت على السكان النازحين من قبل جهود المهمة المشتركة لقوات الأمم المتحدة وقوات الاتحاد الإفريقي، خاصة في مجال الخدمات الطبية وتوفير الغذاء.

    كلفة الإنفاق الدفاعي

    قبل الشروع في مناقشة العلاقة التي تجمع الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي في السودان، يجب أن نقدم الأساس النظري. وهناك ثلاث نظريات متباينة تقارن بين نفقات الدفاع ومعدلات النمو الاقتصادي: النظرية الأولى تقوم على أن الإنفاق العسكري يؤثر بشكل سلبي على النمو الاقتصادي؛ إذ يمثل الإنفاق العسكري عبئا ثقيلا على الأمم فهو يعطل الاستثمار على نحو ما يذهب إليه عدد من الباحثين. أما النظرية الثانية فترى أن الإنفاق العسكري وسيلة للتوسع المالي، فهو يزيد من حجم الطلب الكلي؛ ومن ثم يزيد من الوظائف والناتج الاقتصادي. وقد قام بعض الباحثين، من خلال دراسة غطت 44 دولة، بتقديم دليل قوي على أن الإنفاق العسكري له تأثير إيجابي على النمو الاقتصادي. أما النظرية الثالثة فلا ترى وجود أية علاقة سببية بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي.

    ولعل الأسلوب البحثي الأول هو الوثيق الصلة أكثر بالحالة السودانية؛ فالإنفاق العسكري يعرقل استثمار رأس المال ويعوق من النمو الاقتصادي. وحري بنا أن نلاحظ أن الإنفاق الدفاعي في السودان يتخذ أشكالا مموهة ليحافظ على سريته. وليس هناك بيانات عن العناصر التفصيلية للإنفاق الحكومي على أسس تصنيفية. ويزيد المشكلة تعقيدا أن الجيش منخرط في التجارة ويمتلك مستشفيات وشركات تجارية؛ ومن ثم فإن الإنفاق العسكري الفعلي دوما ما يكون أقل بكثير من التقديرات النظرية. وفضلا عن ذلك فإن المؤسسة العسكرية منخرطة أيضا في القطاع النفطي، الذي تستمد منه الموارد الكافية لتغطية نفقاتها.

    جدول (1) النفقات العسكرية والصادرات (مقدرة بملايين الدولارات)

    السنة

    النفقات العسكرية

    تقدير النفقات العسكرية في دارفور

    صادرات النفط

    إجمالي الصادرات

    صادرات السلع غير النفطية

    نسبة صادرات النفط لإجمالي الصادرات

    1997

    206

    46

    596

    550

    7.7

    1998

    596

    60

    780

    720

    7.7

    1999

    1.068

    276

    1.807

    1.531

    15.3

    2000

    1.390

    1.300

    1.699

    399

    76.5

    2001

    873

    1.370

    1.699

    329

    80.6

    2002

    1.011

    1.511

    1.949

    438

    77.5

    2003

    773

    0.00

    1.994

    2.542

    548

    78.4

    2004

    2.198 (*)

    1.352.71

    1.226

    3.778

    2.552

    32.5

    2005

    1.797

    951.71

    4.187

    5.254

    1.067

    79.7

    2006

    2.113

    1.267.71

    5.087

    5.700

    613

    89.2

    2007

    2.676

    1.830.71

    8.419

    8.900

    481

    94.6

    2008

    3.228

    2.382.71

    11.106

    11.700

    594

    94.9

    2009

    3.148

    2.302.71

    7.836

    8.400

    564

    93.3

    الإجمالي

    10.088.29

    المصدر: البنك الدولي (2011)
    (*) بدأ الصراع في دارفور في 2003 بينما بدأت الدولة في تحركها العسكري في 2004، على نحو ما يمكن ملاحظته من تضاعف إجمالي النفقات العسكرية بمقدار ثلاثة أمثال بين عامي 2003 و 2004.

    وعلى نحو ما يوضح جدول (1) فإن الإنفاق العسكري في السودان كان آخذا في الارتفاع؛ فقبل بداية النزاع في دارفور في 2003 كانت الدولة توجه 845 مليون دولار كمعدل سنوي لتغطية النفقات العسكرية. ومنذ ذلك التاريخ، بلغ معدل الإنفاق العسكري أكثر من الضعف. وكانت الزيادة في الإنفاق العسكري خلال السنوات الست التالية (2004 -2009) تقدر بنحو 10 بلايين دولار ( بمعدل 1.7 بليون دولار سنويا)، وقد وُجِّهت بشكل مباشر للمجهود الحربي في دارفور.

    ويزودنا جدول (1) بدليل دامغ على أن دارفور التهمت الحصة الأكبر من الإنفاق العسكري؛ فبعد عام 2003، حين انطلقت شرارة النزاع، كانت مشكلة جنوب السودان في هدوء نسبي تحت مراقبة الأمم المتحدة، وكانت الأنشطة العسكرية في ذلك الإقليم قد توقفت.

    وخلال نفس الفترة، وقَّعت الحكومة السودانية اتفاقات سلام مع دول الجوار، بما فيها إثيوبيا وإريتريا، كما أن المعارضة الشمالية المعروفة باسم “التجمع الوطني الديمقراطي”، عادت إلى طاولة الحوار في كنف تسوية سياسية كانت مصر هي الوسيط فيها. وبالمثل، فإن النزاع الذي اشتعل في شرق السودان تم إنهاؤه عبر اتفاقية سلام وقعت في عام 2006.

    ولعل القول بأن الإنفاق العسكري الذي يرتبط بصناعة النفط عبر الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية قد تسبب في تدمير قطاع التصدير -من خلال مزاحمته وتعطيله لتكوين رأس المال في الصناعات المدنية- قد ثبتت صحته؛ ففي عام 1999 على سبيل المثال، شكّلت الصادرات النفطية 15 % من إجمالي الصادرات السودانية. وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ ارتفعت النسبة إلى 93 %. وكانت الصادرات النفطية تعرقل الصادرات غير النفطية، لأن الحكومة كانت توجه عائداتها النفطية بشكل مباشر نحو المشتريات العسكرية واستيراد التجهيزات العسكرية، وليس نحو تحسين قطاع الصادرات غير النفطية. وحل البديل محل الأصيل؛ فالحكومة كانت تتكسب أموالا بخسة من خلال بيع النفط بدلا من الاعتماد على التصنيع مثل الصناعات الغذائية والصناعات الخفيفة.

    وقد خلصت دراسة سابقة إلى أنه من بين كل دولار تتلقاه الحكومة من عائدات النفط، كانت تنفق منه 0.21 دولارا على التسليح. وقد تسببت هذه السياسة في تراجع الصادرات غير النفطية، ولم يكن هناك تغير ملحوظ في هذا الاتجاه خلال الفترة بين 1997 و2009. وقد تحقق ثبات قصير الأمد في صادرات السلع غير النفطية عام 2004، وهو ما نتج عن بيع السودان لخدمات شبكات الاتصالات اللاسلكية لطرف أجنبي، لكن في المتوسط فإن قيمة الصادرات الحكومية كانت في حدود 600 مليون دولار.

    خسائر رأس المال البشري

    تبعا لتقرير التنمية الدولي الصادر عن البنك الدولي (2011) فإن من يعيشون في دولة هشة متأثرين بالنزاعات المسلحة عادة ما يكونون أكثر عرضة لمعاناة الفقر والحرمان، والعجز عن الالتحاق بالتعليم المدرسي، أو الحصول على الرعاية الأساسية.

    ومثل هذه التحديات ذات تأثير طول الأمد على الكسب المعيشي اليومي؛ ومن ثَمَّ تترك آثارها على التنمية الاقتصادية. وقد أظهرت الدراسات السابقة أن أحد أشكال كلفة الحرب غير المباشرة تتجسد في انخفاض الإنتاجية نتيجة هروب رؤوس الأموال وهلاك البشر. وفي السطور التالية سنعرض لعدد السكان النازحين داخليا، والسكان المتأثرين بالحرب، فضلا عن تقدير عدد القرى التي أُحرقت وإجمالي عدد القتلى، ثم تقدير الكلفة الإنتاجية للحرب.

    يوضح جدول (2) أنه حتى عام 2009 فإن النزاع في دارفور قد أثّر بالضرر على نحو 1.5 مليون نسمة في شمال دارفور، و1.9 مليون في دارفور الجنوبية، و1.2 مليون في غرب دارفور. وقد تسببت الحرب في نزوح 0.5 مليون نسمة من شمال دارفور، و1.4 مليون من جنوب دارفور، و1.2 مليون من غرب دارفور.

    وتتمثل الكلفة المباشرة للنزاع المسلح في دارفور في فقدان المكاسب المعيشية اليومية للنازحين داخليا. ونستخدم هنا معدلات الفترة من 2005 إلى 2009 لحساب المكاسب المفقودة على مستوى الأسرة. كما سنقوم علاوة على ما سبق بحساب المكاسب المالية المفقودة نتيجة هلاك الأفراد.

    جدول (2) عدد النازحين داخليا والسكان المتضررين بسبب النزاع في دارفور
    (الفترة من 2005 إلى 2009)

    السنة

    شمال دارفور

    جنوب دارفور

    غرب دارفور

    القتل والتدمير

    عدد المتضررين

    عدد النازحين

    عدد المتضررين

    عدد النازحين

    عدد المتضررين

    عدد النازحين

    عدد القتلى

    عدد القرى المدمرة

    2005

    725.736

    393.75

    824.346

    603.719

    854.388

    662.0

    64162

    2.767

    2006

    1.307.025

    475.257

    1.413.099

    722.922

    1.276.087

    776.348

    10.859

    384

    2007

    1.355.594

    461.399

    1.546.173

    862.385

    1.263.956

    779.226

    5.468

    89

    2008

    1.516.680

    508.499

    1.913.518

    1.410.704

    1.293.394

    766.363

    20.788

    701

    2009

    1.518.064

    508.499

    1.913.518

    1.410.704

    1.283.124

    746.912

    -671

    -141

    المصدر: مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA.

    وعلى نحو ما يشير جدول (3) فإن السكان المتضررين قد فقدوا مصادر رزقهم ويعيشون كلية على الإعانات الغذائية. وقد بدأت الخسارة السنوية لمصادر الكسب الحياتي أو فقدان سبل الإنتاجية بنحو 100 مليون دولار في عام 2003 وذلك مع بداية اشتعال النزاع. ومع توسع النزاع وامتداد رقعته نحو مناطق أخرى في دارفور ارتفع مقدار الخسارة في الإنتاجية لنحو 1.8 بليون دولار في 2009. وبلغ مجموع الخسارة الإنتاجية الكلية للفترة الممتدة من 2003 وحتى 2009 نحو 7 بليون دولار.

    جدول (3) الفاقد في الإنتاجية مقدرا بثابت سعر الدولار لعام 2005

    السنة

    نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي

    عدد السكان المتضررين

    عدد الأسر

    الفاقد في الدخل

    2003

    1.492

    410.000

    68.333

    101.984.722

    2004

    1.537

    1.600.000

    266.667

    409.978.661

    2005

    1.601

    2.604.470

    434.078

    694.949.908

    2006

    1.744

    4.196.211

    699.369

    1.219.399.990

    2007

    1.879

    4.365.723

    727.621

    1.366.920.073

    2008

    1.990

    4.923.592

    820.599

    1.633.230.390

    2009

    2.193

    4.914.706

    819.118

    1.796.325.043

    الإجمالي

    7.222.788.786

    المصدر: مؤشرات التنمية الدولية، البنك الدولي عام 2011

    وقد أظهرت دراسات سابقة أن عدد القرى المدمرة في دارفور قد بلغ 3,408، منها 1,173 في شمال دارفور، و1,100 في جنوب دارفور، و1,135 في غرب دارفور. ويشير تقرير منظمة العفو الدولية (2004) إلى أن 44 % من القرى في دارفور قد أُحرق. ومع تمدد رقعة النزاع، يتعرض المزيد من القرى للحرق، وإن كان بمعدل أقل؛ وذلك لأنه لا يتبقى سوى القليل من القرى التي لم يطُلها التدمير.

    وفي الدراسة التي بين أيدينا قدمنا تقديرا بعدد القرى التي أُحرقت بحلول عام 2009 مستدلين في ذلك بأعداد النازحين هربا من الحرب. وخلال عملية التقدير هذه افترضنا أن 730 فردا يشكلون قرية، وأن عدد سكان القرى يزداد بمعدل 3 % سنويا، وذلك خلال الفترة من 2005 وحتى 2009.

    وكما يتضح من جدول (2) فإن تقديراتنا خلصت إلى أن عدد القرى المدمرة بلغ 3380 وهو أقل من التقدير الذي وصلت إليه دراسات سابقة قدرت العدد بـ 3408 خلال الفترة من 2003 إلى 2004. وتقدم تقديراتنا الحد الأدنى للقرى المدمرة. أما الرقم المعروض الذي يبلغ 2,767 قرية لعام 2005 فهو رقم تراكمي للسنوات من 2003 إلى 2005.

    وكما أوضحنا بشأن أرقام 2009 فإن هناك نموا سلبيا في القتل والتدمير بمعنى أنه تم تحول في الاتجاه الإيجابي؛ حيث تم بناء 141 قرية، وزاد عدد السكان بنحو 671، غير أن الرقم الأخير يأتي في الواقع من نزوح سكاني في عام 2009 في مناطق “مهجرية” في دارفور كرد فعلى على الحركة الإجبارية المرتبطة بالقتال الداخلي.

    وبصورة إجمالية فإن استدلالنا على أعداد القرى المدمرة من خلال أعداد النازحين يبدو أنه تقدير منطقي ويعكس واقع أن القليل من القرى قد أُضرم فيه النيران في عام 2009، على نحو ما أشارت تقارير لمنظمات مختلفة تابعة للأمم المتحدة والرقابة المشتركة للاتحاد الإفريقي/الأمم المتحدة.

    وقد قدرنا أيضا خسائر الكسب المعيشي التي كان من المفترض أن يتكسبها المتوفى طيلة حياته لو لم يندلع نزاع دارفور. وقد استخدمنا تقديرات متحفظة تتراوح بين 5 إلى 20 سنة للفترة التي كان يفترض أن يعيشها المتوفى لو لم يندلع النزاع، آخذين في الحسبان أن متوسط أمد حياة الفرد في السودان 58.5 سنة، على نحو ما جاء في تقارير مؤشرات التنمية الدولية، وأخذا في الاعتبار أيضا نقص البيانات المتعلقة بالخصائص الديموغرافية لضحايا الحرب.

    وقد اعتمدنا على بيانات عام 2003 لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي والذي يبلغ 399.02 دولارا، وذلك بحسابات تلك السنة التي اندلع فيها النزاع، وكان تقديرنا يأخذ في اعتباره تثبيت سعر صرف الدولار حسب قيم عام 2000. على نحو ما جاء في تقرير البنك الدولي.
    وهناك جدال معتبر بين مختلف الباحثين بشأن عدد الضحايا في نزاع دارفور. ويوضح جدول (4) التقديرات القصوى والدنيا من مصادر مختلفة أهما دراسة 2006 Coebergh و(2005) Reeves و(2005) Guha-Sapir et al، ومركز بحوث علم أوبئة الكوارث CRED، ووزارة الخارجية الأميركية، ودراسة (2005) Hagan.

    وإضافة إلى ما سبق، فإن المكتب الأميركي للحوسبة الحكومية GAO أصدر في عام 2007 تقديرا يقيّم فيه عدد من الخبراء مكامن قوة وضعف كل تقرير بناء على أهداف التقرير ومدى شموليته. وعلى الرغم من أن الخبراء أعطوا أعلى درجة ثقة لتقديرات مركز بحوث علم أوبئة الكوارثCRED ، فإننا لسنا متأكدين من المدى الذي يمكن فيه اعتبار التحيز المهني عاملا في هذا الاختيار، خاصة أن معظم الخبراء الذين تم الاحتكام إليهم كانوا ينحدرون من مؤسسات طبية. وفي الدراسة التي بين أيدينا فإننا لا نفاضل بين أي من المصادر وإنما نستخدم متوسطات إجمالي أعداد القتلى.

    ولو وضعنا كافة البيانات المتعلقة بالفترة من 2003 إلى 2005 من مختلف المصادر (والتي بلغ إجمالي القتلى فيها 227,786) وأدرجنا ما قمنا بتحديثه من بيانات الفترة من 2005 إلى 2009 (والتي بلغ إجمالي عدد القتلى فيها 100,606) فإن إجمالي عدد القتلى يبلغ 328,392 على نحو ما يوضح جدول 4.

    والبيانات المتعلقة بالمكاسب الحياتية التي كان يتوقع أن يجنيها الضحايا كمكاسب معيشية لو لم يندلع النزاع، تم حسابها من خلال أساليب تقدير مختلفة تتباين بين تقديرات لخمس سنوات وتصل إلى 25 سنة. وأخذا في الاعتبار أمد الحياة المتوقع في السودان، فإننا فضلنا التقديرات المتحفظة التي تتوقع ما بين 15 إلى 20 سنة كفترة للمكاسب المالية الحياتية. وبتطبيق تلك المعايير على إجمالي عدد القتلى، بلغ الفاقد في الإنتاجية 1.966 بليون دولار (لتقديرات 15 سنة) و2.621 بليون دولار (لتقديرات 25 سنة).

    جدول (4) التقديرات المختلفة لأعداد القتلى في دارفور

    أضرار البنية الأساسية

    أطلق المتبرعون الخارجيون وحكومة السودان برامج لمساعدة اللاجئين لتوفير الخدمات الصحية والتعليمية، والمياه، والغذاء والحماية والأمن، وسيادة حكم القانون، وإعادة تأهيل البنية الأساسية، وذلك لتخفيف معاناة السكان واستعادة المناطق المتضررة لحياتها الطبيعية.

    ومن المعروف أن الحكومة السودانية ترفض أحيانا السماح للمنظمات الإنسانية بالوصول للمناطق المتضررة لأسباب سياسية، وفي بعض المناطق يحول الجيش والتنظيمات الحكومية شبه العسكرية دون الوصول إلى تلك المناطق؛ ومن ثم فإن القيمة التقديرية للأضرار التي لحقت بالبنية الأساسية هي بكل تأكيد تقديرات حسابية أقل بكثير من حجمها الفعلي.

    ولم تبدأ الأمم المتحدة وحلفاؤها جمع بيانات عن السكان المتضررين سوى في عام 2004، ومن ثم لم يكن هناك بيانات يُعتمد عليها لسنوات 2003 و 2004. وتمثل بيانات السنوات المفقودة تلك الفترة التي كانت فيها الحكومة منخرطة في التكتيكات العسكرية بهدف إلحاق الهزيمة بحركات التمرد، وارتكبت في تلك الفترة انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان.

    جدول (5) الأمم المتحدة وشركاؤها، مخطط عمل الدعم المالي

    السنة

    عدد السكان المتضررين

    حجم مساعدات الإعانات المبكرة (بالدولار)

    حجم المساعدات التأهيلية والتنموية (بالدولار)

    إجمالي نفقات إعادة التأهيل (بالدولار)

    مقدار النفقات منسوبة لكل فرد (بالدولار)

    2003

    2004

    2.604.470

    678.240.563

    0

    678.240.563

    260

    2005

    2.604.470

    678.240.563

    0

    678.240.563

    260

    2006

    4.196.211

    798.858.438

    2.160.902

    801.019.366

    191

    2007

    4.365.723

    555.054.447

    0

    555.054.447

    127

    2008

    4.923.592

    713.239.488

    189.325

    713.428.813

    145

    2009

    4.914.706

    713.239.488

    189.325

    713.428.813

    145

    الإجمالي

    4.136.872.987

    2.539.552

    4.139.412.535

    175

    المصدر: الأمم المتحدة وشركاؤها، مخطط عمل الدعم المالي للسودان، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

    وفي عام 2003 كانت عمليات الإبادة الجماعية والأعمال الوحشية التي اقترفتها الحكومة السودانية قد بلغت ذروتها؛ ومن ثم فقد اعتمدنا على بيانات عام 2004 للاستدلال على حوادث عام 2003، وذلك لأن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بدأ يسجل إعانات المانحين لدارفور بدءًا من عام 2004 فقط. وليست هناك بيانات متاحة للسنوات السابقة على ذلك التاريخ.

    الكلفة الإجمالية للحرب

    على نحو ما يوضح جدول (6) أنفقت حكومة السودان 24.07 بليون دولار على الحرب في دارفور، ويشمل ذلك 10.08 بليون دولار في صورة نفقات عسكرية مباشرة، و7.2 بليون خسائر في الإنتاجية نجمت عن النزوح الداخلي للسكان، كما أنفقت 2.6 بليون على خسائر الكسب المعيشي الذي كان من المفترض أن يحققه الضحايا (القتلى) في حال لم تنشب الحرب، و4.1 بليون دولار أضرارا في البنية الأساسية.

    وقد بدأت كلفة الحرب عند مستوى 3 % من الناتج المحلي الإجمالي ووصلت 24 % عام 2009، وذلك حين كان الاقتصاد السوداني يفقد على الأقل نحو ربع قيمته في سلع مدمرة بسبب الحرب. ويعرض شكل (1) الفرق بين الناتج المحلي الإجمالي الفعلي والمغاير، دون أن تكون هناك أية علامة على تلاقي الخطين إذا ما فُرض وطال أمد الحرب.

    جدول (6) النسبة المئوية لكلفة الحرب من الناتج المحلي الإجمالي
    (بملايين الدولارات مع تثبيت سعر الدولار عند معدلات عام 2000)

    السنة

    الناتج المحلي الإجمالي

    كلفة حرب دارفور (% من الناتج المحلي الإجمالي

    قيمة التحليل المغاير للناتج المحلي الإجمالي

    النفقات الكلية لإعادة التاهيل (بالدولار)

    النفقات العسكرية في دارفور

    الكسب المعيشي على مدار الحياة

    فاقد الإنتاجية

    أجمالي كلفة الحرب

    2003

    14.820.63

    3.21

    15.297.04

    0.00

    0.00

    374.43

    101.98

    476.41

    2004

    15.578.51

    18.07

    18.393.87

    678.24

    1.352.71

    374.43

    409.98

    2.815.36

    2005

    16.564.42

    16.30

    19.263.75

    678.24

    951.71

    374.43

    694.95

    2.699.33

    2006

    18.434.41

    19.87

    22.096.98

    801.02

    1.267.71

    374.43

    1.219.40

    3.662.56

    2007

    20.307.83

    20.32

    24.434.95

    555.05

    1.830.71

    374.43

    1.366.92

    4.127.12

    2008

    22.002.15

    23.20

    27.105.95

    713.43

    2.382.71

    374.43

    1.633.23

    5.103.80

    2009

    22.002.15

    23.57

    27.189.05

    713.43

    2.302.71

    374.43

    1.796.33

    5.186.90

    الإجمالي

    4.139.41

    10.088.29

    2.621.00

    7.222.79

    24.071.49

    حصاد الأزمة

    قدمت الورقة الحالية تقديرا لكلفة الحرب في دارفور، في ظل ظروف بيانات محدودة، عبرت عن أعداد القتلى والضحايا وحجم التدمير مقدرًا بالدولار. والتقديرات التي حصلنا عليها كانت أقل من القيم الفعلية، ونأمل في أن تكون هذه الدراسة نقطة بداية لبحوث مستقبلية، خاصة أنه ليست هناك حتى الآن محاولة جادة لتقييم الكلفة الاقتصادية للحرب؛ فالتقدير المتحفظ (والبالغ 24 بليون دولار) للفترة من 2003 وحتى 2009 يمثل مع تواضعه حجما ضخما من الميزانية التي كان من الممكن للسودان أن ينتفع بها والتي تعادل 162 % من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدولة عن هذه الفترة.

    وعلى مدار أكثر من عقدين لم تكن الدولة تنفق سوى 1.3 % من الميزانية على التعليم، و1.2 % على الصحة، بينما كنت تنفق نحو 23 % من هذه الميزانية على المجهود الحربي خلال سنوات الحرب في دارفور. وليس هناك أي مبرر اقتصادي للاستمرار في حرب تلتهم ما بين 16 إلى 23 % من الناتج المحلي الإجمالي في مجتمع يعاني من عجز في الاستحقاقات الأولية من التعليم والغذاء والصحة والسكن.

    ولعل الخطوة الأول للتعافي من آثار الحرب هو إيقاف الحرب نفسها بصورة نهائية حتى يتفرغ السودان لاستثمار موارده وطاقاته لإرساء آليات للحوكمة الرشيدة والديمقراطية، أملا في أن يحول ذلك دون اشتعال حروب مماثلة في المستقبل.
    _____________________
    عضو هيئة التدريس بقسم الشؤون الدولية والسياسات العامة، الجامعة الأميركية بالقاهرة

    لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا:
    الى الأعلى
    المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..