مقالات وآراء

ضاقت واستحكمت حلقاتها .. لتفرج !(1)

(ومزيد من المدهشات في السياسات)

 

 

عبدالمنعم عثمان
كل السودانيين تقريبًا، من جميع الاتجاهات والبدون، يتتبعون حكايات الثورة السودانية، التي في واقع الأمر أخذت صفة العالمية بحق وحقيق، وبالتالي اصبحت تهم القاصي والداني بدرجة من الدرجات ولسبب من الاسباب. والكل ينتظر نتيجة نهائية برغم تباين الرغبات في نوعية النتيجة المنتظرة. فالثوار، مثلًا، ينتظرون نتيجة طبيعية ولا شك في الوصول إليها، وهي الانتصار. وأنصار الثورة المضادة من فاعلين بحماس لاسترداد ما فقد من أشياء أصبحت ضرورية لاستمرار حياة تعودوها لثلاث عقود ومن أنصار فقدوا ما كان يسقط من جيوب وأيدي أولئك بقصد وبدون قصد، إضافة إلى اللجنة الأمنية التي استطاعت التخفي بدرجة أو أخرى خلال السنوات الثلاث من عمر الانتقال ولكنها تحت الضغط الثوري والفشل الذريع في إيجاد حاضنة سياسية، أو حتى من يقبل بلعب دور رئيس الوزراء استكمالًا لمسرحية الخامس والعشرين من أكتوبر، كل هؤلاء ينتظرون معجزة من السماء أو من غيرها للحفاظ على الأرواح أولًا ومن ثم على شيء من الغنائم التي نتجت عن الاستغلال الكامل للسلطة مثلما فعل الذين من قبلهم. وبالتالي فهؤلاء سيبذلون قصارى جهدهم لاستمرار القتل بالرصاص وبالدهس في محاولات يائسة لإيقاف المد الثوري الذي يملأ الشوارع ويزداد يومًا بعد يوم، وكذلك باللجوء إلى المستشارين سواء جاءوا من أقصى الغرب أو الشرق أو من الشرق الأوسط، مثلما فعلوا أخيرًا بالاستماع إلى المخابرات الإسرائيلية، التي أوصت بتخفيف الضغط الذي قد يؤدي إلى انفجار لا تحمد عقباه، وذلك بإزالة قانون الطوارئ الذي لم يكن له وجود في غير الورق الذي طبع به، وإطلاق سراح بعض المعتقلين حيث أن اعتقالهم لم يوقف مد المظاهرات المستمر! وليقال إن هذه الإجراءات من الطرف الانقلابي لتهيئة المناخ من أجل الجلوس إلى التفاوض!
ولعل هذه تكون أول مدهشات أمور السياسة السودانية في الوضع المدهش بأكمله، حيث يخطر السؤال التالي ببال أي إنسان له عقل: تفاوض مع من وتحت أي أجندة؟ الإجابة التي تأتى من عقلاء الثلاثية الدولية ومن مذيعي البرامج التلفزيونية، وبالطبع من أصحاب الانقلاب وأنصاره من مدنيين وعسكريين، بأن التفاوض لا بد أن سيكون مع المكون العسكري الذي يقبض السلطة رضى من رضى وأبى من أبى، وفي هذا الأمر يندهش مذيع الجزيرة اللامع أحمد طه معبرًا عن دهشته بالسؤال الذي يردده على من يشتركون معه من السودان: كيف تتوقعون حلًا للمشكلة الصعبة التي يمر بها السودان من غير الجلوس إلى التفاوض على من يمسك بالسلطة؟ وينسى هؤلاء أن ما حدث من إزالة لبعض نظام الانقاذ وهو بكامل عتاده وعدته ويستعد لانتخابات قادمة يترشح فيها الرئيس البشير، الذي بلغ به الاطمئنان أن ترك ملايين الدولارات تحت وسادته في نفس الوقت الذي كان يصدر القرارات بمنع أصحاب الحسابات المصرفية من استلام ما يعينهم على مجرد الحياة! وقد صدق القائد عبدالواحد عندما رد على نفس السؤال بأن السبيل لإنهاء سلطة الأمر الواقع، التي هي أضعف من نظام الانقاذ بلا شك، هو نفس السبيل الذي يسعى به الثوار إلى إزالة نظام اللجنة الأمنية! صحيح أن الأمر أصعب هذه المرة لا بسبب قوة النظام في الداخل وإنما بالسند الذي يلقاه بشكل مباشر أو غير مباشر من المجتمعين الإقليمي والدولي، بل ومن بلدان متناقضة الأهداف بحيث أن بعضها يخوض حربًا ضد الآخر! وكذلك بسبب الصراع الداخلي بين القوى السياسية على الفوز بالكراسي حتى قبل إخلائها من الجالسين عليها حاليًا!
ومن المدهشات المستمرة ما يصدر من تصريحات مسئولين عن التحقيق في جريمة فض الاعتصام، وكان آخر ما سمعته في هذا الأمر تصريح المسئول الأول من أنه يحتاج إلى تدخل الأقمار الاصطناعية وخبراء أجانب للقطع في صحة بعض الفيديوهات! وقد يكون هذا أمر لا بد منه قانونًا لأهميته في تقديم قضية متماسكة غير أن مصدر الدهشة فيه هو أن يجئ بعد مضي كل هذه المدة من عمر التحقيق في أمر بمثل هذه الأهمية. وقبل ذلك، هناك التصريح الشهير للفريق كباشي، الذي من وجهة نظر رجل الشارع، يثبت كل أركان القضية من تخطيط وقرارات تنفيذية اتخذت على أعلى مستوى وحتى التحوط القانوني لصحة ما أتخذ من قرارات. وإذا سلمنا أن مثل هذه المسائل قد لا تجد قبولًا من المحقق القانوني الذي يسعى إلى تقديم القضية على أسس تضمن النتيجة، فلا ادري إن كانت بعض التصريحات التي صدرت عن شهود عيان لبعض أو كل أجزاء المذبحة قد أخذت في الاعتبار، والتي من ضمنها ما وصلني في رسالة عن شهادة مسئول سابق، هو والٍ سابق لولاية الخرطوم، يؤكد صحتها إنه استقال بسبب ما رأى في تلك المذبحة من بشاعة فاقت كل ما عرف من مذابح في تاريخ البشرية. ولعل ما وجدته في أقوال ذلك الرجل قد كان الدافع الرئيس لكتابة هذا المقال، وبالتالي ارجو أن يسمح لي من وردت عنه أن أنقل بعضها بكلماته الشجاعة والمدهشة حيث يقول: (لقد كان ما حدث أكبر من المذبحة وأبلغ من المجزرة وتم بحق ناس نيام في رحاب ميدان من ميادين دولتهم وتحت بصر قواتهم المسلحة و(جيشهم الأمين)..! وهى ليست مجرد مذبحة لأن القتل فيها تنوع (بشكل لافت) بين الرصاص بالوجه والصدر، وبين الضرب بالسواطير والسكاكين وأعقاب البنادق حتى الموت، وبشدخ الرؤوس وتحطيم الجماجم، وبين الإلقاء في البحر بعد ربط بلكات الصخر والأسمنت على أرجل وأجساد الصبية.. لا فرق أن يكونوا احياء أو أموات أو في حالة احتضار.. ثم كان من أنواع القتل حرق الناس مع الخيام.. وأعجب لدولة تفض ما يمكن أن تسميه ما شاءت مظاهرة أو اعتصام أو احتجاج، عن طريق حرق الخيام بما تحتها من بشر وبغير تنبيه النائمين في أمان ربهم) حتى يستعدوا للموت).
وينتقل ذلك الرجل المسئول والشجاع حقًا للمقارنة بين ما حدث في ليلة فض الاعتصام مقارنًا بينها وبين فظائع أخرى حدثت في تاريخ الأمم، ليبين مدى فظاعة ما حدث في بلادنا، فيقول: (ما حدث في ليلة فض الاعتصام في سياقنا السوداني بحق مسالمين يجلسون أمام بوابة (جيشهم الوطني) وتحت بصر الناس وأيديهم فارغة حتى من عصا مقارعة كلاب الطريق.. هو في سياقه وكيفيته وفي الغدر الذي صحبه.. أكبر وأفظع مما حدث في مذابح الأرمن، وهجمات المغول والتتار، ومذبحة دير ياسين، ومذبحة القلعة، ومذبحة الإسكندرية، ومذبحة رابعة العدوية بالقاهرة، ومذبحة بحر البقر، ومذبحة جسر الشغور في سوريا، ومذبحة الجوازي في بنغازي والأحد الدامي في إيرلندا، ومذبحة أكتيال في المكسيك، ومذبحة صبرا وشاتيلا، ومذبحة الدامور في الحرب اللبنانية.. ومذبحة دنشواي التي دخلت التاريخ والقتلى فيها اربعة أشخاص..! لقد كنت في السودان ورأيت ما لا عين رأت.. ما لا أذن يمكن أن تسمع.. وما لا يمكن أن يخطر على قلب بشر.. !) يقول الراوي لحديث اللواء مرتضى الذي كان واليًا للخرطوم، وفعلًا لم يشرك في التخطيط للمجزرة وعلم بها من شاشة التلفزيون وبسببها قدم استقالته: دا كله معروف وعادى *بس* الما عادى ولم يذكره اللواء مرتضى أنه أثناء الاشتباك ذهب إلى مكتب البرهان ودار نقاش حول ما يحدث.. شوف البرهان قال ليه شنو: يا مرتضى عاوز تنط من المركب؟ الزول الخواف بناته ما بيعرسوهن.. وضحك البرهان.. فرد اللواء: إن شاء الله عمرهن ماعرسن…).
الواحد بقى ما عارف يندهش من أيه ولا أيه! وقد كنت أنوي المواصلة بعرض ماجد ويجد يوميًا من مدهشات ولكني رأيت أن أكتفي بهذا القدر الكافي لدرجة الإشباع وأن أسأل السيد رئيس التحقيق إن كان قد سمع بهذا الحديث من رجل مسئول وشجاع بدرجة الاستقالة من وظيفة يسعى لها كثيرون ويرد على الرئيس بهذا الأسلوب؟ إن كان قد سمع ولم يفعل فتلك مصيبة وإن كان لم يسمع فالمصيبة أعظم، إذ أن من البديهي لشخص في موضعه أن يسعى لمقابلة هذا الشخص الذي استقال نهارًا جهارًا من أكبر منصب في عاصمة البلاد لتأكيد ما قال وفيه من البينات ما يكفي ويفيض لحاجة التحقيق أو تكذيبه وبالتالي تقديمه للمحاكمة!
الميدان

تعليق واحد

  1. انت كل همك نتيجة لجنة التحقيق.. يا أخي ان كان ما حدث مثل الذي وصفته ما كان لقوى الثورة ان تتشارك السلطة معهم ابدا وطالما انهم شاركوا فهم مشاركين في فض الاعتصام وطالما انهم مشاركين فكيف تنتظر نتيجة تحقيق.. خليها ليوم القيامة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..