مفهوم العنصرية ومنشأها ونماذج من صورها

دارت خلال الأيام الماضية أحداث مؤسفة في الجامعات السودانية على خلفيه صراع سياسي بين روابط طلاب دارفور ومليشيات طلابية تنتمي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم نجم عنها مقتل طالب ينتمي للمؤتمر الوطني وجُرح عدد من طلاب دارفور جراح خطرة بالسكاكين والسواطير والسيخ وما شابهها ، وقد صاحبت هذه الأحداث حملة عنصرية شعواء بغيضة من الطلاب المنتسبين لحزب المؤتمر الوطني ضد طلاب دارفور تمثلت في نعتهم بالعبيد وما شابهها من العبارات العنصرية المقيتة . هذا السلوك المشين من منتسبي المؤتمر الوطني يحملنا للتساؤل عن منشأ هذا الفهم المغلوط هل هو وليد لحظته أم له جذور راسخة داخل المجتمع السوداني سرعان ما تكشفها عوامل التعرية كلما هبت عواصف هوجاء بسماء الوطن ؟
للإجابة على هذا التساؤل دعونا ندلف قليلاً لمفهوم العنصرية ومنشأها ونماذج من صورها ومن ثم نعود للإشكال السوداني وتداعياته علي مستقبل العيش المشترك بين مكوناته . فالعنصرية يمكن تعريفها بأنه التمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو الديانة أو المذهب الفقهي واعتقاد فرد أو جماعة بأفضليتها عن أخرى بهذه العوامل السابقة . أما مبتدأ هذا الداء فيعود لبداية خلق الكون يوم تكّبر إبليس عن السجود ل آدم أبو البشرية بحجة أنه خير منه ( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) وبموجبه استحق اللعنة وبقيت معها العداوة التاريخية بين الثقلين إلي يوم الدين، ثم انتقل الأمر إلي بني آدم أنفسهم مع زيادة عددهم وتفرعهم إلي شعوب وقبائل وهو أمر مخالف لمقاصد الخالق من هذا التنوع الذي هو التسابق على الخير وليس العكس ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير ) .
وتاريخياً نجد العنصرية قد تبدت بصور عديدة بين المجتمعات والشعوب نجمت عنها أشكال مختلفة من أنماط الاضطهاد ، ففي قصص التاريخ نجد أن فرعون مصر قد اضطهد بني إسرائيل وسامهم سوء العذاب ُيذّبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ( تطهير عرقي ) بسبب الدين ، وصورة أخرى نجدها عند اليهود أنفسهم مع العرب ، فرغم انحدارهم جميعاً من نسل إبراهيم الخليل عليه السلام إلا أن اليهود ظلوا يحتقرون العرب بفهم أنهم أبناء ( أمة ) وهي السيدة هاجر أم إسماعيل عليهما السلام واعتبروهم أميين يستحق أكل أموالهم ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) وقد استمر ذلك المعتقد إلي يومنا هذا وعلى أساسها تمكنت دولة إسرائيل الصغيرة من كسر إرادة العرب مجتمعين وفرض نفوذها عليهم إلي هذا اليوم.
ونموذج آخر جسّده العرب فيما بينهم ، بين البدو والحضر والفخوذ الكبيرة والصغيرة وعلى أساسها قامت الحروب البينية ، وقد لخصها شاعرهم عمر بن كلثوم في هذا البيت من معلقته الشهيرة ( ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدراً وطينا ) ، مع ملاحظة أن مفهوم الرق والاسترقاق لدى العرب لم يكن يقتصر على ذوي البشرة السوداء فحسب بل ينطبق على جميع أسرى الحرب بمن فيهم أبناء القبائل العربية أنفسهم حيث يتم بيعهم في أسواق النخاسة أو إهداءهم لسادة القوم وهكذا ، وعلى أساس ذلك تأسس مفهوم الأمة والجواري ( ملك اليمين ) إلي أن أتى الإسلام وعمل على إنهائه تدريجيا حيث جعل إحدى وسائل الكفارة ( فك رقبة ) أي عتقها وكلنا يعلم بالمقولة التاريخية للخلفية الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) ورغم ذلك بقيت هذه الفكرة في أذهان العرب إلي يومنا هذا وبقي كل ذو بشرة سوداء عندهم ( عبد ) وإلي يومنا هذا الخليجيون يعتبرون السودانيين عبيدا على هويتهم ( أنت سوداني فأنت عبد ).
ثم نموذج رابع بين العرب والعجم وعلى أساسها قامت الحروب كذلك ونموذج خامس بين البيض والسود جسّدها حملات الاسترقاق التي قام بها البيض ضد السود في عهود الاستعمار وما تولد عنها من حركات مقاومة للتحرر لم تقتصر على إفريقيا فحسب بل امتدت إلي الغرب حيث تم تصدير عدد من الأفارقة للعمل هناك ما لبثوا أن شكلوا مجموعات مقاومة أثمرت أخيرا بإنهاء ذلك التمييز ” على الأقل في مستوى دساتير الدول وقوانينها “.
وبالعودة للسودان فجذور العنصرية فيها ترتبط بالتركيبة الاثنية والقبلية لسكان هذه البلاد الذين يتشكلون من افريقية مستوطنة تقطن غالبها في جنوبي وغربي البلاد وعرب مهاجرون جاءوا إما وراء الماء والكلأ بفعل عوامل الجدب والقحط في الجزيرة العربية أو هروباً من قبائل كبرى كانت تضطهدهم وقد دخلوا البلاد من منافذ شتى استقر بعضهم على ضفاف النيل والسهول المجاورة لها في الشمال والوسط وفي خلفيتهم ” الذهنية ” ذلك الفهم المغلوط الذي يربط الزنجية بالعبودية ” فكل أسود هو عبد ” وقد استمر هذا الفهم مع تطور الدولة السودانية وحدوث تزاوج بين المكونات العربية المهاجرة وبقية السكان المحليين من النوبيين أصحاب الأرض الذين لم يلبثوا أن تأثروا كذلك بتلك المفاهيم الخاطئة لينسحب الأمر في نهاية المطاف إلي شكل العلاقة بين شعوب البلاد أنتجت حالة من عدم الانسجام التاريخي نجم عنه تصنيف جهوي تم التعارف عليه بمفهوم ( الغرابة والجلابة أو ( المندوكرو) لدى أهلنا في جنوب الوطن ) وقد وفرت تعرّض البلاد للاستعمار سانحة لهذه الشعوب جمعاء كي تعيد اللحمة فيما بينها من خلال قتالهم صفاً واحداً لتحرير أرضهم كما وفرت لهم مساحة أوسع كي يتعرفوا على بعضهم البعض بشكل أفضل ما لبثت أن تعمقت الصلات وتوثقت أكثر تحت راية المهدية تخللها زيجات متبادلة وهجرات متبادلة ومعها بدأت تتشكل معالم الدولة الوطنية الحديثة .
ثم أتت حملات الزبير باشا في مجال تجارة الرقيق بالتعاون مع المستعمر لتهز العلاقات مجدداً لكن الأمور مضت إلي حالها .
ومع الاستقلال وخروج المستعمر تعرضت العلاقات لهزة أخرى اكبر سببها إقصاء أبناء الهامش عن تولي وظائف في الدولة ، وإذا أخذنا دارفور مثلاً فمن بين ثمانمائة وظيفة مدنية تمت سودنتها لم يكن لأهل دارفور نصيبا واحداً فيها فكان ذلك مثاراً لتذمرهم ومن هنا تبلورت فكرة الهامش والمركز حيث لم تلبث أن تولدت تنظيمات سياسية مطلبية مثل جبهة نهضة دارفور واتحاد عام ابناء جبال النوبة واتحاد عام أبناء الانقسنا وتنظيم البجا بجانب حركة الانانا في الجنوب ولكن الحكمة تغلبت على الجميع لتدار الأمور في إطار الخلاف الداخلي تحت راية الوطن الموحد ولم يكن الانفصال خيارا لأيٍ من أجزاء الهامش بما في ذلك الجنوب الذي لجأ أبناؤه للخيار المسلح باكراً لكن بحثا عن وطن موحد يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات . وقد شكّل وجود الأحزاب السياسية بمختلف مشاربها وتوجهاتها كأوعية للممارسة السياسية في البلاد ضمانة كبرى للوحدة الوطنية .
وبمجئ نظام الإنقاذ في 1989 م وحظرها للأحزاب السياسية والنقابات ونهجها سياسة استقطاب الموالين على أساس القبيلة والجهة فيما عرفت ب ( البيعة الجماعية ) عادت ظاهرة العنصرية لتطل مجدداً بأبشع وأقبح صورها حيث أضحت ضمن استراتيجيات النظام الحاكم لتحقيق مآربها الرخيصة في إطالة أمد البقاء في السلطة لأطول فترة زمنية ممكنة ، وهذا الحديث ليس من باب المناكفة السياسية بل هو واقع معاش يؤكده راهن البلاد ويسنده اعترافات صريحة من رموز نافذة في الحزب الحاكم أكدوا على هذه الحقيقة.
إذاً طلاب المؤتمر الوطني حينما يطلقون هذه النعوت العنصرية البغيضة تجاه طلاب دارفور بمجاميعهم فهم ينفذون سياسة حزبهم في هذا الاتجاه لتحقيق عدة أهداف ، أهمها تحويل مسار النزاع السياسي في البلاد إلي عرقي جهوي بإظهاره كأنه بين ( الجلابة والغرابة ) أسوة بما فعلوه في دارفور ( عرب وزرقة ) وبالتالي استمالة كل أبناء الشمال أو تحييدهم في اقل تقدير لا سيما عقب صفعة الانتخابات الأخيرة التي وجهها لهم مجاميع الشعب السوداني الباسل . ومن جانب آخر يرمون إلي شق صفوف المعارضة بعد توحدها في إطار نداء السودان وذلك بدفع أبناء دارفور للمطالبة بالانفصال بما يعني تلقائيا انتهاء الحلف السياسي بينها والمكونات الأخرى . وقد خاب فألهم وطاشت سهامهم فالشعب السوداني وقواه الحية كانت أوعى منهم وبخططهم الخبيثة الهدامة تجاه تشتيت شمل البلاد وأبنائه فتداعوا جميعا صفا واحدا ضد مخططهم ليئدوه في مهده وهذا ما يبعث في نفوسنا الأمل نحو مستقبل أفضل لبلادنا عقب التخلص من هذه العصابة المجرمة الماكرة .
وختاما إذا اتفقنا وفق ما ذكرت في مقدمة هذا المقال بأن صاحب براعة اختراع العنصرية هو إبليس اللعين فإن منتسبي حزب المؤتمر الوطني في السودان هم أخلص الناس وأقربهم لمعلمهم إبليس في هذا الصدد ، بل فاقوه في كثير من الفعال حتى اضطر للهجرة من السودان هو وأبنائه وعائلته بعد إحالته للصالح العام و تنصيب مجموعة المؤتمر الوطني مكانه ليتولوا مهامه على أكمل وجه كما اثبت ذلك الأستاذ أحمد الحسكنيت في مقاله الشهير ( إبليس يهاجر من السودان ) .
[email][email protected][/email]
العنصرية نتاج طبيعي وواقع يجب التعامل معه بحكمة توجد حتئ في ارقئ المجتمعات ولم تختفي ولن تختفي الافضل دوما ادراتها كحالة نملك حدودا طبيعية او مبالغ فيها بدرجات والمحافظة عليها في اقل حدودها دوما ولا يوجد لها حل الا بالعلم والتعارف الذئ ينتج عن التمسك بالاخلاق الحميدة والدين وبه وصفات سهلة كافشاء السلام واطعام الطعام وغيرها المهم هي حالة لا يمكن نفيها او التغاضي عنها والله اعلئ واعلم
هي النظرة الدونية المعني والإقصائية المرمي:(منقول من كتاب تحت التاليف!)
… تلتمع في أذهان الشعب السوداني كل تلك المآسي التي تبادلها الطرفان ?الجنوبيون والشماليون؛ من ذلك الذي حصل لعشرات المدنيين الشماليين في توريت أغسطس 1955م من مزبحة وسلب ونهب، وإلي ذلك الذي حصل بمدينة الضعين مايو 1987م في المحرقة التي راح ضحيتها أكثر من أربعمائة مدني من قبيلة الدينكا. هذه المآسي وغيرها من أحداث وتطورات مصحوبة بنقض للعهود والمواثيق، إلي جانب الوصم بصفة العبودية والدونية و?الحشرية!?، ما هي في مجملها إلا أعراض تعبر بداية عن طبيعة النظرة المتحورة واللاإيجابية المتبادلة ما بين الشعبين، وليس عن معضلة الإنفصال في حد ذاتها، والتي جاءت كعلاج أقوي مائة مرة من شكوي التأزي والمضايقة ذاتها، والتي كان يزداد وقعها دون وازع أو رادع كلما إتجهنا نحو المركز ?ولاية الخرطوم!. فالمطالبة بتقاسم السلطة والثروة، والإيمان بالتنوع الثقافي والإعتقادي والإعتراف بالآخر، وإنتهاج عملية ديمقراطية سليمة للبناء الوطني، هي في الواقع عبارة عن مسكنات سياسية لجملة من الإفرازات أو الأعراض لحالة واحدة، هي الهيمنة التي منشأوها تلك النظرة اللاإيجابية، والتي يجب ضبطها في النفوس ومعاقبة من يقوم بفعلها، للحد منها ومكافحتها، حتي يضمن إجتثاثها كمستبطن كامن مهدد للأمن والسلم الإجتماعي!. وهنا حينما سئل الدكتور جون قرنق عن معني التحرر الذي يقصد، قال: (ما تسألوني عايز أحرر الناس من منو … إسألوني عايز تحررم من شنو!) ?أي من الذي ما بأنفسهم، وهذا ما يتطابق مع القرآن الكريم في قول الله سبحانه وتعالي: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)!. ولكن غياب الوعي القانوني بين سائر الأفراد، وعزة النفس المسيطرة في ذات الإنسان السوداني، إلي جانب عدم وجود تشريع قوي لمخاطبة هذا الجرم – المهدد للتماسك الإجتماعي، هي جميعها ما تجعل كثيرا من الناس يلجأون لأخذ الحق باليد خاصة في جانب هذا الإستعلاء ?حمية الجاهلية، وما يؤذي بها من إساءة وإزدراء وإحتقار!. ولوجاز لنا التطرق إلي عالمية هذا الإستعلاء كظاهرة ممتدة كما نسمع ونشاهد اليوم حتي في دول الغرب المتحضر من إساءات متكررة تنضح بالعنصرية ضد السود وخاصة لعيبة كرة القدم ذوي الأصول الأفريقية، وتلك الاهانات المفرطة التي يتلقاها المواطنون السود حتي في أمريكا، فإنها هذا لا تعطي تبريرا لغيرهم من أهل المنطقة ?المسلمين من إعمال حمية الجاهلية بأي شكل من الأشكال ورسالة دينهم تنهي عن ذلك تماما ?بقول الله سبحانه وتعالي: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وإنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ومع كل هذا تستمر حمية الجاهلية في أبشع صورها. فإن من غرائب الأمور وأعاجبها في هذا الشأن، هو أن حتي من يتقولون في السودان بهذه الإساءة ضد بعضهم البعض، هناك من يسئ إليهم وللسودانيين جملة، دون تفريق ما بين عربهم ومن يدعون منهم العروبة ومن هم حامدون بأصالة سودانيتهم. ففي هذا الصدد فأن العديد من السودانيين قد عانوا وهم بدول المهجر من ذات الإساءة التي تلقونها مباشرة من أفراد وكتاب خاصة بدول الخليج العربي وغيره.
فبالعود لمكون هذا السودان، وعمليات التلاقح التي نشأت فيه ما بين المجوعات السكانية، نجد أن السلطنات والممالك القديمة القائمة بالسودان، كانت جميعها بما فيها أرض جنوب السودان مناطقا منفصلة عن بعضها الآخر ?إجتماعيا وثقافيا وحضاريا. إلا أن النظرة الواقعية في هذا الجانب لتعطينا حقيقة ملموسة في الأرض، مفادها أن كل تلك المملكات والسلطنات ما كانت لتصبح هذا السودان لولا مجئ دين الإسلام الذي قارب بينها فتوحدت أمة ضربت أروع المثل في التمازج الإجتماعي فيما بينها، غير أن الجنوب ?بسياسة المستعمر، قد صار منطقة مقفولة حتي إنفرط عقده لذلك الحد الذي عبرت عنه حركات الأنانيا وتبنته لاحقا الحركة الشعبية لتحرير السودان بدعوي حق الإنفصال. وبما أن دخول الإسلام للسودان لم يكن مصحوبا بأي أعمال عنف جسيمة تذكر، فإنه قد مثل لتلك الأجناس والمجتمعات المتباينة الوعاء الذي لم شتاتها والوسيط الذي ذابت فيه كل الحواجز التي كانت تفصل فيما بينها. هذا الواقع أشار إليه الدكتور جون قرنق حينما إلتقي به لأول مرة بعد تمرده الدكتور منصور خالد في أبريل 1986م بمنطقة كوكدام، وسأله بتجرد عن شعوره فيما يخص الوحده الوطنية السودانية، فكان رد الدكتور جون قرنق بأنه كلية مع الوحدة؛ ثم سأله عما إذا كان هو معارضا للإسلام والعروبة، فكان رده بالنفي القاطع، مبينا أنهما عناصر توحيد وليستا آليات تفريق!. فبالنظر إلي طبيعة التآلف ما بين المجتمعات السودانية، نجد أن عمليات التداخل والتواصل بين الأفراد والمجموعات القبلية لتنساب بشكل طبيعي وقد كانت هي البداية الناجحة للتشكيل القومي للدولة السودانية، والتي أعاق الإستعمار نموها بفرضه لسياسة المناطق القفولة بأراضي الجنوب، حتي جاء السودان مولودا مشلولا بعد أن نال إستقلاله بكامل حدوده كأكبر دولة في قارة أفريقيا والوطن العربي معا. فهذا الواقع الذي ولدت به دولة السودان وقد فشلت جميع النخب السودانية منذ أول حكومة وطنية بعد الإستقلال في مخاطبته وإحتوائه، فإن الحكام الفعليين من ذلك ليمثلون الطرف الأساسي في تفاقهم أزمة السودان في جنوبه وبقية أطرافه ?ليس بحكم تهيمنهم في السلطة وإنما يعود ذلك لتلك النعرة والنبرة التي يتفوهون بها وهم في السلطة أو خارجها كمواطنين عاديين. وعليه، فإن عملية قبول الجنوبيين بالحكم الذاتي، هي ما تؤكد عدولهم عن مطلب الإنفصال إلي شكل آخر من الوحدة بين الشمال والجنوب عبر تلك الإتفاقية الموقعة ما بين الحكومة ومتمرديهم الأنانيا عام 1972م، إلا أن عدم مخاطبة تلك النظرة وإستمرارها دون رادع قد أدي فيما بعد لإجهاض كل ذلك، حيث كانت هي الدافع وراء إنضمام الآلاف من الجنوبيين وغيرهم لتمرد الراحل قرنق. ومما لا شك فيه، فإن الإسلام الذي أقر به الدكتور جون قرنق لا يعني به إسلام إخوان السودان المسلمين ?”الجبهجية” ولا شيخهم حسن عبدالله الترابي وكل من تتلمذ علي يديه!. وأما العروبة التي قال بها فإنه أيضا لا يعني بها تلك العروبة المنبثقة مما يسمي بجامعة الدول العربية ? الكارثة التي جيئ بها لتوحيد الشعوب العربية، ولكنها في الواقع هي من قصمت أمة الإسلام إلي عرب وغير عرب، وقد أصبحت الآن أكبر آلية لتفتيت وأداة لتمرير أجندة الفوضي التي تضرب بأطنابها عديدا من البلدان العربية.
ولكن يظل عدم المساس بأصل المشكلة الكامن في طبيعة تلك النظرة الدونية المعني والإقصائية المرمي من جانب المركز لباقي الأقاليم، سيجعل من كل حلول التجزئة التي يفرضها ذات المركز النظام الحاكم في السودان، وتقريرات المصير المحتملة وحتي الإنفصال الذي وقع من ناحية أخري، كعمليات تفريق بين خصمين متي ما وجدا فرصة للتقاتل تقاتلا!. وعليه، فإنه حتي مع جميع محاولات التطبيب بالتكامل الثقافي بين الشمال والجنوب في أعوام 1965م، عبر منع المدارس التبشيرية وتوحيد المنهج التعليمي بالسودان علي طريقة التغني بنشيد “صديقنا منقو ?قل لا عاش من يفصلنا” وغيره، وما تبع ذلك من أغنيات وطنية معتبرة في هذا الشأن وغيرها من تسويات، كانت جميعها علاجات خاطئة لمرض عضال شخصه د. فرنسيس دينق في كتابه صراع الرؤي ?عبر ما أسماه محاولة فرض أنموذج الهوية العربي-إسلامية بالجنوب ?بقوله: (إفترض الشماليون بشكل عام بأن هويتهم تعتبر النموذج القومي، وأن ما كان سائدا في الجنوب صورة مشوهة فرضها الإستعماريون للإحتفاظ بالبلاد منقسمة). وعلي ذلك، فإن قابلية ظهور أو تجدد ذات الأعراض لذات المرض الكامن هي الأكثر إحتمالا، وهذا ما أدي بدوره لتجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في العام 1983م بعد إتفاق الوحدة الوطنية عام 1973م، وأدي لإنتقالها وإستنساخها بذات الأعراض والكوامن لدارفور عام 2004م ولشرق السودان عام 2005م وللجنوب الجديد للسودان ?ولايات النيل الأزرق وجنوب كردفان عام 2010م، والمستمرة حتي كتابة هذه الأسطر!.