الرزيقات والمعاليا.. موسم المآسي والأحزان

لحظة ما، تلبست القوم حالة شيطانية عدوانية، انتزعت عنهم عقولهم.. قرروا إشباع تلك الرغبة في إسالة الدماء.. لم يكن فيهم رجل رشيد يقف بينهم والفاجعة، فالكل لحظتها شريك في عمى البصيرة.. ثمة شعور خفي لا يعرف أحد مدى صوابه، كان يموج داخل كل منهم ويدفعهم الى المأساة.. بعضهم اسُتنفر تحت راية الأرض المغتصبة.. والأرض هناك كالعرض، دونها خرط القتاد.. وبعض آخر خرج مع الجموع دون ان يتبين حقيقة الأمر، كل ما يعرفه انه رأى قومه يستنفرون فلحق بهم.. طبول الحرب تدق داخل كل منهم.. ثم وقعت اللحظة فكان الموت والخراب.
بعد ساعات، شبعت تلك الرغبة داخل النفوس، فرفع القوم أكفهم عن الضرب، وعاد اليهم الرشد بأن اوقفوا المواجهة، ثم اخذوا في التراجع كلا الى موقعه.. فانقلب ذلك الاحساس الغامض بالاندفاع الى ما يشبه الضد.. كأنه احساس بالندم، وان كان لا أحد يعترف به، بيد أن البعض احس بالجرح بدأ يغور في الدواخل.. اخوة وفلذات اكباد فقدوا في تلك المواجهات.. فنصبت خيام العزاء في البيوت والشوارع والطرقات.
تمددت الفجيعة الى الوسط الصحفي حينما نعى الزميل عبد الله اسحق الصحفي بصحيفة (التيار)، اثنين من اشقائه وحوالي (40) شخصاً من اهله وعشيريته، راحوا ضحايا في المواجهات التي وقعت بين قبيلتي المعاليا والرزيقات في محلية ابوكارنكا أمس الأول، سألت عبد الله عن مكان العزاء كي اذهب لأداء الواجب، فقال لي انهم سيقمون تأبيناً وليس مجرد عزاء لان الموتى كثر.
وفي صحيفة (السوداني) نعى النعاة الشقيق الأصغر للزميل محمد حمدان، والذي كان من بين ضحايا المواجهات، ذهب خلسة من وراء اسرته والتحق بقومه الذين تنادوا الى الفجيعة. يقول محمد حمدان انه لم يتبق له غير شقيق واحد، اذ فقد من قبل احدهم في مواجهات مماثلة. بينما لا يعرف كيف يكون مصير شقيقه المتبقي، هل سيكون مثل اخويه اللذين ذهبا ضحايا لصراعات قبلية، وان كان متيقناً ألا أحد يستطيع منعه اذا ما دعا داعي الاستنفار، حاله كحال كل شباب القبيلة في المنطقة.
وفي صحيفة (اليوم التالي) نعى الزميل عبد الرحمن العاجب اثنين من افراد اسرته هما خاله وابن خالة والدته، راحا بدورهما ضحايا مواجهات منطقة ابوكارنكا، والحزن يتسرب لكل من يتحدث معه معزياً ومواسياً، وكيف ان البعض فقد المأوى بعد ان أحرقت منازلهم جراء المواجهات، كما أن هنالك جرحى حالت صعاب دون اجلائهم للمستشفيات بالخرطوم، او الابيض، وتكدس الجرحى في مستشفى عديلة وابوكارنكا واللتين تفتقدان لادنى مقومات الصحة.
حينما وقعت الحرب بين عبس وذبيان قبل قرون خلت، كان الطرفان يعلمان انهما ابناء عمومة، وانهما بتلك الحرب كمن يقطعون انوفهم باكفهم، ومع ذلك استمر القتل بينهم فيما عرف بحرب داحس والغبراء لمدة اربعين عاماً.. كما هو الحال مع بني بكر وبني تغلب، ابناء العمومة الآخرين، الذين دخلا في حرب مميتة عرفت باسم حرب البسوس، دامت كذلك حوالي اربعين عاماً هي الاخرى، قضت على خيرة فرسان القبيلتين. وان كانت تلك القبائل تعيش في جاهلية عمياء كانت تسود عصورهما، قادتها الى التناحر والشقاق، فما بال (الرزيقات والمعاليا) اليوم يقتتلون، وهما يعيشان في عصر المعرفة، ويدينان بدين الإسلام الذي هذب حياة البشرية واخرجها من صفات العنف المتصلة بالحيوانية.
كانت القبيلتان تعيشان منذ وقت بعيد في سلام وتآخ، رغم قدم جذور الازمة بينهما، فقد كان هنالك حكماء من القبيلتين يسيطرون على الاوضاع دون الانزلاق. لكن الاوضاع قد تغيرت وكذا الزمان والعهود، واقبلت القبيلتان من بعد اولئك الزعماء السابقين، على الدنيا التي يمتد طريقها امامهم في اعوجاج ومنحنيات وتقاطعات يشق عليهم اجتيازها في غياب حكمتهم، فوصل بهم الأمر الى مرحلة اتسع فيها الفتق على الراتق، وكأن الأرض قد مادت بهم، كما مادت الأرض تحت اقدام بني بكر وبني تقلب.. فرأ المهلهل وهو يرثي أخاه كليباً، سيوف القبيلة تقطر من دم ابناء العمومة..
مادت بهم الارض من بعده حينما افتقدوا حزمه وعزمه، كما هو الحال مع ابناء الرزيقات والمعاليا بعد افتقادهما الزعماء اصحاب الحزم والعزم.. ما انفكت المشاحنات والتحرشات تقع بينهما من حين إلى آخر، دائماً ما تخلف قتلى وجرحى من الطرفين، فاصبح الدم بارداً يكاد لا يتوقف عن التدفق.. خصوصاً في ظل الانتشار الواسع للاسلحة بين المواطنين في تلك المناطق.. المواطنون هناك يحملون اسلحتهم كما تحمل العصي في ازمان سالفة، لا يردعهم رادع، يتفوقون على الدولة بما يمتلكونه من واسلحة وسيارات ومقاتلين.
القبيلتان اليوم في حاجة الى (حارث وهرم)، ليحقنا دم القبيلتين، ويضمدان الجرح الغائر في النفوس.. كان الحارث بن عوف وهرم بن سنان قد خلدا اسميهما في اذهان الناس واصبح عصياً على النسيان، بعد ان قاما بالصلح بين (عبس وذبيان) حقنا لدماء العشيرة، في الحرب المشهورة باسم (داحس والغبراء)، واحتملا من مالهما ديات القتلى التي بلغت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين كما تقول الروايات التاريخية.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. حقن الله دماء اهلنا واهل دارفور من اله الحرب المفتعله من قبل الحكومه الهشه والتي شعارها فرق تسد فتدفع وتدعم فئه لتبيد الاخري لارقيب ولا حسيب وتحت اعينها مع ان الكل يعلم ومنذ فتره بان شي ما يدور ومتوقع حدوث هذه المجزره فدم انسان دارفور رخيص في نظرها وكل من يخالفها الراي لا وجود له في ارضه فوجود هذه الحكومه الهشه في ضعف وفرقه دارفور فالي متي ونحن كل يوم نفقد رجال تابي ارحام النساء ان تلد مثلهم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..