جوزيف سكاتولين يقرأ التجليات الروحية في الإسلام

الخبرة الصوفية تمثل قلب الخبرة الدينية وبالتالي صميم الخبر الإنسانية ذاتها، فالتصوف ليس حديثا كلاميا مثقفا مجردا حول الله وقضاياه النظرية.

بقلم: محمد الحمامصي

إشارات وعبارات

يبحر العالم الجليل أستاذ التصوف الإسلامي بالمعهد البابوي للدراسات الإسلامية والعربية بروما أ. د. جوزيف سكاتولين بالمشاركة مع الباحث أحمد حسن أنور في سفره الضخم “التجليات الروحية في الإسلام.. نصوص صوفية عبر التاريخ” ليقدم لنا التصوف الإسلامي نشأة وتطورا وازدهارا وعرضا لمفاهيمه وقضايا الإنسانية، وذلك من خلال نصوص شيوخه الأجلاء آخذا من كتبهم وأقوالهم، بدءا من القرن الأول إلى القرن السابع الهجريين، كاشفا عن أن “التصوف الإسلامي يمثل حركة تاريخية واسعة ممتدة عبر القرون أنتجت إنتاجا دينيا وثقافيا وفنيا متميزا في جملة الحضارة الإسلامية”.

بدأت الحركة الروحية في القرن الأول الهجري مع حركة العباد والزهاد من أمثال الحسن البصري (ت 110هـ/ 728) وغيره، ثم نمت وتطورت في القرنين الثاني والثالث الهجريين مع التعمق في خبرة الحب الإلهي من أمثال رابعة العدوية البصرية (ت 185هـ / 801) ومع فكرة الفناء والبقاء من أمثال الجنيد (ت 298هـ ـ 910) وغيرها من التبصرات الروحية، فأدت هذه الحركة آخر الأمر إلى مأساة الحسين بن منصور الحلاج (ت 309هـ / 922) التي تمثل في التاريخ الإسلامي مظهرا من مظاهر التوتر بل التصادم بين حركة المتصوفة وعالم الفقهاء المتكلمين.

ويرى الباحث أحمد حسن أنور أن الحركة الروحية اتجهت بعد ذلك إلى اتجاهين، فهناك اتجاه عرف بالتصوف السني في القرنين الرابع والخامس الهجريين حيث اجتهد أصحابه من أمثال الإمام أبو حامد الغزالي (ت505هـ / 1111) وغيره في إيجاد صيغة توافق مقنع بين الخبرة الصوفية الباطنية ووظاهر الشريعة الإسلامية. وقد أنتج هذ الاتجاه كتاب “الرسالة القشيرية” لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، و”إحياء علوم الدين” لإبي حامد الغزالي.

الاتجاه الأخر توغل في مجالات أكثر نظرية وفلسفية خاصة عند أصحاب المدرسة المسماة “وحدة الوجود” في القرنين السادس والسابع الهجريين وفيما بعد عند صوفية من أمثال الشيخ محيي الدين بن العربي (ت 638هـ / 1240) وغيره، وقد اجتهد أصحاب هذه المدرسة في إيجاد صيغة توافق بين التصوف وما يسمونه باطن الشريعة الإسلامية أي معناها العميق والمقصد الأعلى منها.

ويعد ذلك منذ القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي فصاعدا، تطورت حركة التصوف وتوسعت فيما عرف بظاهرة الطرق الصوفية التي ازدهرت وانتشرت في العالم الإسلامي كله حتى أيامنا الراهنة، ويرجع الفضل لهذه الطرق في نشر الإسلام عبر القارات وفي مجالات التربية الأخلاقية لعامة الشعوب الإسلامية.

النصوص المختارة تمثل جانبا مهما أو أكثر من جانب من الفكر أو الرؤية لكل واحد من الصوفية المذكورين، وقذ أخذت من الكتب المنشورة والمتداولة للتراث الصوفي ليتابع القارئ حيوات ونصوص أبرز المتصوفة العرب منذ ذيوع فكرة الزهد وتطورها عند أبي الدرداء وسلمان الفارسي والحسن البصري ومالك بن دينار وغيرهم، وصولا إلى التصوف مستعرضا أبرز نصوصه في كتاب الراء وكتاب التنبيه على معرفة النفس والتقرب من رموز المتصوفة أمثال ذو النون المصري والبسطامي والجنيد والحلاج، وأخيرا عصر التصوف الفلسفي ممثلا في فريد الدين العطار والسهروردي وبن الفارض وبن العربي وجلال الدين الرومي وابن عطاء السكندري.

ويؤكد الباحث أحمد حسن أنور في مقدمته الطويلة أن التصوف الإسلامي لا يأتي يتيما في تاريخ البشر، إنما يأتي في انسجام واسع وتناغم عجيب مع التيارات الروحية الدينية الأخرى “يعتبر التصوف الإسلامي ثروة روحية عظمى ليس فقط على مستوى الحضارة الإسلامية بل على مستوى الحضارات العالمية جمعاء، لذلك فهو مؤهل لكي يكون مجالا مفتوحا للتلاقي بين الحضارات والأديان العالمية”.

ويشير إلى أن الخبرة الصوفية تمثل قلب الخبرة الدينية وبالتالي أيضا صميم الخبر الإنسانية ذاتها فالتصوف ليس حديثا كلاميا مثقفا مجردا حول الله وقضاياه النظرية، كما هو الأمر في العلوم الدينية الأخرى مثل علم الكلام والفقه واللاهوت.. إلخ، إنما التصوف “لقاء حي وخبرة ملموسة مع من هو الأساس الأول والغاية القصوى بل والهدف الأخير للوجود البشري ووجود الكون كله، ومن ثم فهو المعنى الحقيقي للوجود بكليته هو المطلق الله، وإزاء هذا السر المطلق يكتشف الإنسان هويته الأعمق، كما يكتشف ويخبر أن هويته هذه يشاركه فيها غيره من البشر وهي جذور الأخوة الإنسانية الأصلية”.

وانطلاقا من هذه الرؤية يرى الباحث أحمد حسن أنور أن الخبرة الصوفية يجب أن تصير الموضع المميز للحوار بين الأديان بل الأساس للحوار بين الثقافات والحضارات، وهناك عدد من المجالات المهمة ينبغي بل يجب أن يجري فيها الحوار على مستوى الروحانيات الدينية العالمية لصالح البشرية كلها منها قضية هوية الإنسان وقضية البيئة.

يذكر أن فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر د. أحمد الطيب صدر للكتاب مؤكدا أن “التجربة الصوفية في جوهرها تجربة ذاتية متفردة غير قابلة للتكرار أو الاشتراك، وأن اللغة على اتساعها كثيرا ما تعجز عن الإفصاح بمكنونات هذه التجارب وأسرارها المعقدة، ومن أئمة التصوف أنفسهم من لفتوا إلى هذا الملحظ وهم يتحدثون عن صعوبة تعريف التصوف، وقرروا أنه لا مطمع في تحديد معناه تحديدا جامعا مانعا، لتبدل أحوال الصوفي وتغير إرادته وتعدد أذواقه ومواجيده، وأن غاية ما يقال في هذا الباب إنما هو إشارات وعبارات تومئ من بعيد إلى معنى يقع خلف العبارات والإشارات:

عباراتهم شتى وحسنك واحد

وكل إلى ذلك الجمال يشير

وإذا أضفت إلى سعة الذوق الصوفي ضيق اللغة عن وصفه وشرحه أدركت عسر اللغة الصوفية، وبخاصة تلك التي تتعلق بشوارق “الحب الإلهي” عند المولهين من أهل الله، وعلمت أن ما يصدر عنهم أحيانا من عبارات قلقة أو متوترة بمقاييس الشرع إنما مردها إلى أحوال تملكهم، وليس إلى ضلالات يقترفوها عن وعي وقصد”.

ميدل ايست أونلاين

تعليق واحد

  1. معرفة الذات الالهية بحق هى الايمان الحقيقى .اذا اين الذين يقولون ان التصوف بدعه وضلال

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..