أخبار السودان

السيد الرئيس يؤمن بالتعددية في الحب!

أوقد السيد الرئيس شمعة لأن الكهرباء إنقطعت فجأة ثم أحضر بقية زجاجة خمر محلي، كان يقتصد في شرابها بسبب ضيق ذات اليد. ثم تذكر أنه يحتفل اليوم بعيد ميلاده الستين. خلال العام الأخير تغيرت أشياء كثيرة، سيحتفل هذه المرة لوحده بعيد ميلاده، بعكس إحتفال العام الماضي بالقرب من حدود بلاده. لقد أطفأ شمعة عيد ميلاده وسط دوي أصوات المدافع. كانت تلك آخر معركة يقودها رجاله، قبل أن يتفرقوا أيدي سبأ، يتعفنون في المنافي الرطبة. يتجرعون سموم الخمور الرخيصة، التي يخفف من كآبة شربها، فوضى ضجيج أكورديونات الفرق العابرة عبر الحدود، التي تتصاعد من غابة المانجو في خمول قيلولة ما قبل هطول المطر. وغناء العمال السكارى العابرين الى مواسم الحصاد. ويموتون دون عزاء في أكواخهم المعتمة في أحضان العاهرات الفقيرات، لا يبقى لهم من عزاء سوى صور عظمتهم المشكوك فيها، التي يثبتونها بمسامير إصلاح الأحذية على الجدران، يظهرون فيها وهم يضعون حجر أساس مشروعات منسية من أجل تطوير البنية التحتية، أو وهم يفتتحون مصانع للمياه الغازية، أو يخاطبون الجماهير في أعياد الثورة. الثورة التي ضاعت تفاصيلها في النسيان، بعد أن تم محوها من الكتب المدرسية والأفلام الوثائقية التي كانت تعدها وزارة الإعلام لعرضها في مهرجانات السينما المتجولة، وقبل عروض الأفلام على إمتداد الوطن. في دور العرض التي يتعين فيها حمل مظلات محلية مصنوعة من جوالات البلاستيك للوقاية من المطر الاستوائي الذي يهطل دائما في أصعب لحظات المشاهد العاطفية، أو تلك التي يواجه فيها بطل الفلم الهندي الخائن الذي دمّر حياته. في إحتفال عيد ميلاده الأخير، شاركت في إحياء الحفل الصاخب فرقة موسيقية مكونة من ثلاثين رجلا وغرقت الأرض في أنهار من الخمور المحلية والمستوردة.
في العام الماضي كان الاحتفال بحضور عدد كبير من الاصدقاء ورجال حركته . لكن كل شئ تغير هذا العام، لقد وقّعت الدولة التي تستضيفه إتفاقية سلام مع دولته توقف على إثرها الدعم الذي كان يحصل عليه طوال سنوات من الدولة المضيفة .
أيقظته في الصباح طرقات على الباب. وجد ضابطا في إنتظاره خارج الكوخ، دعاه للدخول لتناول القهوة لكنه إعتذر عن الدخول بدعوى أنه مشغول بأمر ما، أوضح أنه مكلف بتسليم سعادته رسالة من القيادة، لم يوضح أي قيادة يقصد، قيادة الجيش أم قيادة هذا البلد الذي يعيش فيه منذ سنوات، منذ أن إحتضنته حكومته وأمدته بالمال والسلاح لإسقاط الحكومة القائمة في بلده بسبب دعمها لتنظيمات معارضة لسلطة البلد الذي يستضيفه. تم تعيينه رئيسا في الانتظار في إحتفال رسمي، إرتدى فيه ملابس عسكرية كاملة ووضعت فيه على رأسه قبعة عسكرية مزينة بريش النعام الملون، وحين وصوله لمكان الاحتفال تفقد مع الرئيس المضيف حرس الشرف. لقد أمضى ثلاث سنوات يتصرف كرئيس دولة. يصدر القرارات الجمهورية بترقية ضباطه وبتعيين مبعوثين شخصيين له . خاضت جيوشه معارك خسرت معظمها، لكن ذلك لم يؤثر على معنوياته أو يغير شيئا من الواقع. فالحرب نفسها أصبحت مهنة. وأعباء الرئاسة الحقيقية لن تكون سهلة حتى يتعجلها، وفي كل الأحوال فهو يواصل في ممارسة سلطته الغيابية من البيت الذي منحته له الحكومة كمقر مؤقت له ولسلطته.

في مقر اقامته كانت السلطة تستمر يوميا حتى الثالثة بعد الظهر، يخلد بعدها السيد الرئيس للقيلولة، غارقا في عرقه في قيظ الساعة الثالثة بعد الظهر الذي لا تخفف مروحة السقف العتيقة شيئا من ضراوته. وان كانت تخفف قليلا من ضربات البعوض الذي يتسلل من فتحات سلك النملية الذي يغطي النوافذ.

الساعة الخامسة بعد الظهر يبدأ البيت في التحول إلى خلية نحل، يحضر أولا ضباط حركته، من قدامى المحاربين، مرهقين من وعثاء الهزائم، لم يكسبوا طوال حياتهم حربا ولا حتى على طاولة دومينو. تبدو على وجوههم إمارات ورع مزيف يتبدد مع أول خيوط الظلام. يتحدثون دائما بأصوات عالية أو يبدون في حالة انهماك مزيف في النقاش، كأن صمتهم يفضح همس الشائعات التي تطاردهم حول الأسلحة التي يبيعونها دون أن تطلق طلقة واحدة. وتجارتهم الحدودية في كل شئ من الملابس العسكرية إلى زجاجات الويسكي والأدوية المنشطة جنسيا. اذا حاول أحدهم التحدث حول الموقف العسكري يوقفه بإشارة من سبابته: ممنوع ممارسة الحرب مساء! يتم تجريد الجميع مؤقتا من رتبهم العسكرية، يحتفظ هو فقط بلقبه الخالد: السيد الرئيس. الحقيقة أنه بمضي الزمن، كان يصبح عمليا ممنوعا ممارسة الحرب نهارا أيضا. حتى في أوج نشاط البيت الرئاسي نهارا كان عساكره يهربون الى أية جهة تدفع رواتبهم كمرتزقة، وكان أفضل ضباطه يتعفنون في وهدة إنتظار دون أمل. ينهش البعوض أجسادهم في ليالي السافنا القائظة، حين يستحيل حتى التنفس في الهواء الراكد في ساعات ما قبل هطول المطر.
يحضر أصدقائه من ندماء الشراب القدامى، بعضهم يحملون جنسية البلدين بسبب إنتمائهم لقبائل حدودية مشتركة. ينسون حين تستعر نار الشراب إلى أي وطن ينتمون، يقول احدهم مشيرا إلى جركان الخمر المحلية: هذا هو الوطن! ثم يوضح: يكون جيدا أحيانا فيسكرك قبل إن تشرب منه، ويكون سيئا في أحيان أخرى، مغشوش بالماء فلا يحرك فيك ساكنا! لكننا لا نستطيع تركه، فهو الوطن!

ثم يحضر الطباخون ، يقومون يوميا بذبح ثلاثة خراف، لا ينس أحد جنرالاته أن يعلق يوميا بالقول حين يرى الخراف مذبوحة تنزف آخر قطرات دمائها قبل تعليقها للسلخ:

هذا هو الدم الوحيد الذي نجحنا في إراقته منذ أشهر!

يعلقونها في الفناء وبعد سلخها يستخرجون المعدة والامعاء لطبخها ثم يشوون بقية الخروف كاملا، وكأن تصاعد رائحة الشواء هو الاشارة التي تظهر على اثرها الفرقة الموسيقية مع الراقصات الحبشيات. يبدأ الغناء بعد أن تتناول الفرقة الموسيقية العشاء في صخب إستوائي.

حين توشك السهرة على الانتهاء عند بدء إنبلاج ضوء الصباح يقف السيد الرئيس متأبطا يد الراقصة الأفضل أداء تلك الليلة وكأنه عريس على وشك السفر مع عروسه لقضاء شهر العسل بعد إنتهاء مراسم زواجه، يشكر الجميع على حضورهم راجيا أن يكون الاحتفال قريبا في الوطن بعد تحريره من الطغمة الفاشية التي سرقت موارده وسلمته للشركات الأجنبية .
يؤمن بالتعددية فقط في فراشه. تقبض الراقصة التي تقضي الليل معه حسابها صباحا من الحرّاس وتغادر البيت قبل أن يستيقظ هو من نومه الرئاسي. وأحلامه الوطنية، يرى الوطن مثل سفينة تبحر دون هدف الى المجهول. دون قبطان، ودون بوصلة. لا يستطيع أن يرى او يعترف ان الحياة تمضي، حتى بدونه، أن سفينة الوطن كانت تشق طريقها وأن النوائب التي كانت تعترضها أحيانا لم تكن بسبب غيابه بقدر ما كانت نتاج سياساته الهوجاء التي ظل الوطن يدفع ثمنها، فيما يتدحرج هو الى النسيان وتختفي صوره من كل مكان في الوطن، لا بفعل فاعل لأن من خانوه كانوا يريدون غسل منجزات عهده من ذاكرة الوطن، كما مضى يرّوج وسط ضباطه ومساعديه في المنفى، بل بسبب عوامل التعرية والرياح الموسمية الممطرة التي إكتسحت حزام الجفاف في مملكته معلنة بدء دوران الفصول والتاريخ. فتغيرت بفضل الرياح معالم صوره المعلقة على جدران الوطن، وتماثيله التي غطى ملامحها سلح طيور الوطن والطيور المهاجرة من أقصى الأرض بحثا عن الدفء والغذاء في المملكة الشاسعة التي كان يحكمها. حيث رنين أجراس الكنائس أيام الآحاد، والأذان في أيام الجمع.
لاتترك فيه نساء الليل العابرات أثرا يذكر، إمرأة واحدة تركت أثرا كارثيا على أسطورة تعددية الحب التي يؤمن بها. كانت قد شاركت بالغناء والرقص في الليلة السابقة، رغم أن الخمر المحلية التي شربها كانت تحجب عنه روائح العالم لكنه إشتم في هذه المغنية الراقصة رائحة زلزلت ذاكرته. رائحة زهور شجرة البونسيانا ، يا للكارثة! إنها رائحة قصره الجمهوري السابق! الذي كانت تغص حديقته الضخمة بأشجار البونسيانا الملكية. رائحة زمن الأمجاد المنسية!، الزمن الذي صدّق فيه ان وجود الوطن نفسه كان مرهونا بوجوده هو، ان كل شئ كان يعمل بإشارة من يده، تهب الرياح ويهطل المطر ويدور بندول الساعة بإشارة من يده. يقول مستشاروه: حين تخلد للنوم سيدي الرئيس، تتوقف الحياة في العالم، تتجمد حتى الحياة في بحيرة فكتوريا. الآن لا يأبه احد لنومه أو إستيقاظه، يستمر كل شئ أثناء نومه، يتعالى لغط العامة في الأحياء المنسية الفقيرة، وترتفع أصوات الآت موسيقية صدئة مع رائحة الخمر الرخيص. حتى انه كان يفتح نافذة غرفته في بيت الضيافة أحيانا ليصرخ في سائقي عربات الأجرة الذين يلعبون ورق الكوتشينة طوال الليل، ليتوقفوا عن العراك حين يسرق أحدهم إحدى الأوراق ويخرجها من كمه حين تستعر حمى اللعب مثل ساحر.
ليلا في حمى الجماع، حين إختلطت موسيقى الجاز برائحة العرق ونيران إحتراق شظايا الرغبة في قاع الجسد. مع دخان الجسد تصاعدت رائحة زهور شجرة البونسيانا، رأى نفسه وهو ضائع في متاهة الجسد البونسيانا يفتش حرس الشرف في رذاذ مطر سبتمبر مع رئيس ضيف كان يزور بلاده، نظر في وجه الرئيس الضيف، وفجأة إنتهي كل شئ، أطفأت المياه الدافئة في ذروة الحب نيران الجسد، إنفصل بجسده بعيدا قبل أن تقفز صورة الرئيس الضيف الذي إستعرض معه حرس الشرف بين أشجار البونسيانا الملكية. فصرخ قائلا:
اللعنة، إنه بل كلينتون!
في الصباح حين إستيقظ من نومه، بحث عن المرأة، عن وردة البونسيانا كما صار يدعوها، فلم يعثر لها على أثر، حاول إقتفاء رائحتها داخل البيت فلم يعثر على شئ، كأنها سحبت معها رائحتها المميزة من كل مكان في البيت قبل أن تغادر. خرج الى الحرّاس وهو لا يزال بملابس النوم، يسأل عنها، عرف أنها تقاضت أجرها وغادرت البيت مبكرا! يا للكارثة، أصدر أمرا جمهوريا ألا يغادر أحد البيت قبل الحصول على إذنه!
أوضح أحد الحرّاس: لكن هذه ليست المرة الأولى سيدي الرئيس!
قال بثقة رسمية: بل هي المرة الأولى!
أصدر أمرا للحرس بالبحث عنها وإحضارها. لكنهم لم يعثروا عليها أبدا حتى فقد هو سلطة البهجة وسلطة الحب التعددي. وغادر الى المجهول حيث الموت الذي أدمن الهروب منه، يحوّم في كل مكان مثل كلب ضال في ساعات الهجير. أصدر أمرا جمهوريا بتعيينها ملكة على أشجار البونسيانا، وجائزة ضخمة، وترقية إستثنائية لمن يستطيع العثور عليها وإحضارها، حتى وإن كان مدنيا لم يستخدم من قبل ولا حتى بندقية لعب. بحث الحراس عنها في كل مكان في المدينة الكولونيالية القديمة الغارقة في الرذاذ، وفي كل مكان زاروه كان يسمعون أن موكب فرقتها غادر لإحياء حفل في مكان ما ربما خارج الحدود.
كان يبدو حزينا تحت تأثير وهم أنه لن يستطيع إستعادة عرش سلطته الضائعة ما لم يستطيع اولا إستعادة ملكة البونسيانا. تعزى في غيابها بمواصلة الحب التعددي أملا في أن القدر الذي وضع ملكة البونسيانا في طريقه، سيفعلها مرة أخرى، وسوف لن يستحيل أن يعثر على بديل برائحة زهور البونسيانا.
ذات مساء بعد أن إنصرف الجميع، حين دخل الى غرفته برفقة الراقصة الأخيرة، وجد إمرأة في فراشه وقد وضعت فوق جسدها ثوبا خفيفا لحماية نفسها من لسعات البعوض. كانت تفوح منها روائح عطور قوية، للوهلة الأولى حسب السيد الرئيس أنها هي، وأنه بمجهود قليل سيميز رائحة زهور البونسيانا من طوفان الروائح التي أغرقها فيها الحرس الرئاسي الطامع في المكافأة. كانت تشبهها فعلا، أمر الجنرال الحرّاس بإعطاء الفتاة الأخرى أجرها وصرفها فورا، عرف بخبرته أن إستعادة السلطة، ستكون أكثر صعوبة من الإحتفاظ بها، تناول قرصا منشطا، ثم توقف قليلا ريثما يعطي جسده فرصة إستعداد كامل لمعركة مصيرية ، تأكد أن قلبه يمكنه الصمود في معركة إستعادة العرش الضائع في روائح بونسيانا الذاكرة. شاعرا أنه سيحتاج الى أنفه أكثر من قلبه في هذه المعركة الفاصلة. حين بدأ في التعري لاحظ للمرة الأولى أن بطنه قد كبرت كثيرا في الآونة الأخيرة، حتى أنه لا يستطيع رؤية عضوه الذكري، تذكر نصيحة طبيبه بأن يمارس رياضة المشي يوميا لبعض الوقت، قال له الطبيب، صحتك قوية سيدي الجنرال، هذه إحدى ميزات الحياة العسكرية، ضغط الدم طبيعي، وكل شئ يبدو جيدا، لكننا يجب أن نحترس، كلما تقدم الانسان في السن، قال الطبيب، تقل حركته، وتصبح إحتمالات زيادة الوزن كنتيجة لذلك كبيرة. لا يعرف الطبيب أنه منذ عقود لم يمارس أية تمارين عسكرية او مدنية! أطول مدة مشاها بقدميه، كانت حين يستعرض حرس الشرف في حفلات إستقبال السفراء أو الرؤساء الزوار. أو في عيد الثورة، حين شعر أنه يستعيد إمكانية تركيز حواسه كلها وهو عار تماما، لم يشتم رائحة أشجار البونسيانا لكنه رآها! شعر بالدهشة! كيف يرى الانسان بأنفه! رأى سحابة العطر الخالدة تعبر أمام عينيه وتجتاز سلك النملية المثبت فوق النافذة الى فراغ القيظ الاستوائي في الخارج. وسمع صوت غناء وصوت محرّك سيارة قديمة عبرت في تلك اللحظة، فيما جلست جوار السائق، ملكة البونسيانا الحقيقية!
نسي بسرعة الرائحة التي رآها، وحاول أن يركز في معركة أستعادة العرش، أغمض عينيه وأشرع مدفعه الوحيد الذي بقي يعمل، وبدأ هجومه الصاعق. ما كاد يبدأ حتى إكتشف ان رفيقته تملك حضورا طاغيا في الحب، إجتاز كل المراحل أملا في ظهور رائحة زهور البونسيانا، طفق يبحث في دواخلها دون جدوى، عثر على زهور ذابلة، سلاحف ميتة، ومقبرة آلات موسيقية مدفونة كلها ولا تبرز منها سوى اليد التي تحمل الأوتار! فجأة عثر على قارورة عطر منسية ففتحها ونثر محتوياتها في الهواء، فإندلعت رائحة حيوان الظربان! تغرق المكان، قفز من الفراش واندفع هاربا من الغرفة.
يستعيد البيت الرئاسي وقاره صباحا. يستحيل التصديق انه نفس عرين فوضى الحب والبهجة المسائية، يصبح الكلام في ردهاته همسا بين المستشارين المتعجلين والوفود الحكومية التي تنسق مع ضباطه للهجمات الجديدة على قوات بلاده.

لم ينتبه في الفترة الأخيرة لبدء تناقص عدد المندوبين الحكوميين. عزا ذلك لإنشغال حكومة البلد المضيف بمشاكلها الكثيرة. حتى لاحظ تناقص الدعم المالي الذي يتلقاه شهريا، مع رسالة إعتذار بسبب الضائقة الاقتصادية التي يعاني منها البلد المضيف. لقد تعين عقد مجلس حرب مع ضباطه لدراسة التغيرات الجديدة. كشف ضباطه انهم لاحظوا أيضا مضايقات في الحصول على الذخيرة وحتى الاسلحة التي يقومون بشرائها من جهات خارجية أصبحت تواجه مصاعب في السماح بإدخالها بل إن حكومة البلد المضيف صادرت قبل أيام شحنة أسلحة كانت قادمة لقواته بحجة إن الاسلحة تخالف المواصفات المتفق عليها . علق قائلا: يبدو إن شيئا ما يحدث من خلف ظهورنا! في الماضي كان بإمكاننا ادخال دبابة برخصة إستيراد كلاشنكوف!

أوضح أحد ضباطه: سمعت خبرا غير مؤكد يقول إن حكومة البلد المضيف تفاوض حكومتنا سرا!

يا للكارثة! شعر كأن العالم ينهار من حوله، لماذا لا يخطروننا بذلك؟ تساءل السيد الرئيس محاولا إن يخفي جزع صوته الواضح بتركيز نظره في فراغ النافذة، لم يقل ضباطه شيئا ، لكن طيف ابتسامة عبر في وجوههم جميعا قبل أن يتلاشى أمام هيبة فزع السلطة المسائية.

إقترح أحد الضباط تعليق العمليات العسكرية حتى يتضح الموقف، قبل أن يردف مبتسما : وحتى لا نضطر بعتادنا القليل أن نحارب في جبهتين!

وجد السيد الرئيس الإقتراح جيدا خاصة والميزانية الجديدة لن تكفي لتغطية تكلفة حرب النهار ومعارك البهجة ليلا.

بعد إستلام ميزانية الشهر التالي تعين إتخاذ قرار جمهوري لتخفيض تكلفة معركة البهجة المسائية. بدلا من ذبح ثلاثة خراف يوميا تناقص العدد إلى خروفين ثم تناقص في الشهر الثالث إلى خروف واحد ، علق بأسف مساء وهو يستقبل ضباطه:
من المحزن أن نخفض الصرف على المعركة الوحيدة التي نكسبها كل ليلة!
جلس السيد الرئيس في مقعده بعد أن فتح النافذة ليستطيع قراءة الرسالة في ضوء الصباح. فسمع صوت غناء العصافير فوق أشجار الغابة القريبة، بدا له تغريد العصافير غريبا كأنه قادم من أزمان أخرى، أزمان لم يعد ممكنا مداراتها في النسيان. كانت تلك هي الرسالة الرسمية الثانية التي يتلقاها خلال عدة شهور، في الرسالة الأولى طلب منه إخلاء بيت الضيافة الذي كان يقيم فيه لدواعي الصيانة كما أوضحت الرسالة، ليقيم منذ ذلك الوقت في كوخ صغير لكنه مريح نسبيا خاصة مع تناقص الأصدقاء الذين كانت تجذبهم البهجة الدموية. لم يعد يرى أحدا في معظم الأيام سوى إمرأة عجوز كانت تحضر كل ثلاثة أيام لنظافة البيت الصغير. نظر للرسالة بخوف من يقين إنه إن كانت الرسالة الاولى أخرجته من بيت السلطة فلابد إن هذه الرسالة ستخرجه إلى المجهول من هذا العالم الذي لا يعرف لوطنه بديلا غيره.

كانت الرسالة من قيادة الجيش تبلغه بعبارات واضحة وحاسمة انه بحسب نصوص معاهدة السلام مع حكومة بلده فإنه لم يعد بإمكانه القيام بأية نشاط عسكري ضد جيش بلاده.وأن الدعم الذي كان يتلقاه من الجيش والحكومة سيتوقف منذ تلك اللحظة، وان أية خرق للاتفاقية سيجبر الحكومة على إتخاذ قرار بإبعاده مع بقية قواته إلى خارج حدود الوطن.

وضع السيد الرئيس الرسالة على المنضدة بجانبه وأشعل سيجارة وطفق يرقب سحب الدخان وهي تهرب بسرعة عبر النافذة، أبتسم بحزن وهو يجتر مثل سم كلمات الرسالة، إبعاده مع بقية قواته، لابد أنهم يمزحون، هم أول من يعلم أن قواته تفرقت كلها منذ أشهر منذ أن تسربت أخبار معاهدة السلام مع بلده.
بعض جنوده خلعوا بزاتهم العسكرية وعادوا إلى الوطن مع قوافل التجار والحجاج. بعد ان إستبدلوا هوياتهم القديمة بهويّات جديدة إشتروها من الحدود. بعض ضباطه إستسلموا للنسيان في بيوت الشراب في ضواحي المدن البعيدة القريبة من حدود بلاده. لم يعد فيهم من يذكر شيئا، من أمجاد الحروب الخاسرة السابقة، حين يستعيدون وعيهم في أصابيح أشجار الأبنوس.
ظل معتكفا لعدة أشهر في كوخه، لا يعرف ما يجب عليه ان يفعله، يفكر في البحث عن بعض ضباطه وجنوده القدامى والتوجه بعهم خارج الحدود الى أية دولة اخرى يشن منها حربا ضارية على حكومة بلاده، يتذكر كلام احد ضباطه: يبدو أننا خسرنا كل شئ سيدي الرئيس. ضباط الجيش الذين ساندوا الانتفاضة على حكومتك سيدي الرئيس قاموا بإجراء إنتخابات تزعم كل المنظمات الدولية التي قامت بمراقبتها انها إنتخابات حرة ونزيهة. يقولون أن الحكومة الجديدة عقدت إتفاقيات سلام مع كل دول الجوار، قاموا بمصالحة الجميع عدا نحن! قالوا أن الحكومة الجديدة لن تصدر عفوا عن رموز السلطة القديمة الا بعد ان يقدموا انفسهم الى المحكمة التي ستقرر مصيرهم بعد البت في تهم الفساد وإنتهاك حقوق الانسان الموجهة ضدنا سيدي الرئيس! يا للمهزلة! يا لجحود الوطن سيدي الرئيس! الوطن الذي حملناه في عيوننا وقضينا زهرة شبابنا نحارب المستعمر حتى أجليناه من أرض الوطن! وكنا نقضي ليال كاملة في الخنادق، ليس لنا من ساتر من المطر والبعوض ورصاص العدو، سوى إيماننا بعدالة قضية وطننا، وحين أجلينا المستعمر، بقينا سنوات نكافح في الملاريا وحركات التمرد التى أنشأها المستعمر حتى يجعلنا ننشغل بمشاكلنا مدى الحياة. نحارب الجفاف، وفي السنة التي تلي موجة الجفاف نحارب طوفان فيضانات الأنهار الموسمية التي تخرج عن السيطرة، سرق المستعمر بلادنا، وبخل علينا ببناء سد واحد يهدئ من جنون الأنهار الموسمية. سرقوا النحاس واليورانيوم، والكولتان، حتى قضبان السكة الحديد التي بنوها لنا، لم يتركوها، شحنوها مع الحديد الخردة في بواخرهم الضخمة التي وصل بها جنودهم حين غزوا وطننا، قاموا بتفكيك الوطن كله وشحنه في تلك البواخر الضخمة، فككوا حتى الجسور القديمة التي شيدوها من حديد وطننا، وفككوا حتى تاريخنا، سرقوا تماثيل عظمائنا الغابرة وتركونا دون تاريخ، يقرأه الأطفال في المدارس، حتى إضطررنا للاستعانة بكبار السن من المعمرين لإعادة تدوين تاريخنا! سرقوا تمثال ديوغو سيرو، وتمثال إله الأرز، وإله الحرب وصانع المطر، وتمثال الملكة أورا بوكو ، ولم يتركوا لنا سوى السمتنقعات والملاريا. قمنا ببناء كل شئ، وكنا ندفع من جيوبنا لتدور عجلة الحياة، وبعد سنوات حين بدأت الحياة تزدهر، وتحركت القاطرات الجديدة التي اشتريناها بالتقسيط من الصين، والبواخر الروسية، وإستعادت المؤسسات التعليمية قوتها، وبمجرد تخرج أول دفعة من الجامعات التي أنشأناها، حتى قاد هؤلاء المتعلمون الجدد، دون خبرة ودون أخلاق، الثورة ضدنا، الكتب التي إستوردناها لهم من وراء البحار ليتعلموا الكيمياء والهندسة، ليساعدونا في إعادة الحياة الى جثة الوطن، بدلا من قراءة العلوم المفيدة، تكالب الجيل الجديد على الاشتغال بالسياسة، حتى تحولت الجامعات الى ساحات للخطابة، كأننا في الهايد بارك سيدي الرئيس! تركوا الدراسة في الجامعات التي بنيناها بعرق الكد والصبر وقروض صندوق النقد، وتفرغوا لشتمنا في أركان النقاش! ثم تآمروا مع ضباط الكلية الحربية الجدد، ممن لم يطلقوا ولا طلقة رصاص واحدة طوال حياتهم ولا حتى في رحلة صيد، ليتهموننا بالفساد! يترصدوننا حتى ونحن في المنافي بعد ان تركنا حتى ملابسنا الداخلية في الوطن! لنعيش على إعانات المحسنين في كل مكان!
إستيقظ ذات صباح ونفض خيوط عنكبوت الصباح التي غطت حتى وجهه، ثم خرج الى المدينة، لم يتذكره أحد حين عبر وسط السوق القديم، في الزمن الغابر كان يتسابق الباعة نحوه مجرد دخوله الى السوق، كان حرّاسه يحولون بينه وبين إزعاج الباعة. وكانت النسوة بائعات خبز الذرة المحلي، الزلابية، والبيض والخضروات يغنين له أغنية محلية تم تعديلها لتتناسب مع عظمته، كانت الأغنية تصف حتى طريقة مشيته، الشبيهة بمشية الطاؤوس، وتصف وجهه المضئ بعد ان تزيل منه التجاعيد ورهق الشيخوخة. حين سقط قناع السلطة الزائفة، رأى نفسه في مرآة لا مبالاة العالم، مجرد عجوز منسي، لا يعرفه أحد. يصعب الجزم بأنه موجود على قيد الحياة حتى في أوج لحظاته تألقا وحضورا. رأى نفسه يموت بسبب الوحدة دون أنيس سوى صوت نقرات المطر على سقف قطيته، فقرر أن يغادر البلدة بمجرد حلول فصل الجفاف. قرّر أن يتجه الى الحدود الشرقية، لا يعرف لم إختار تلك المنطقة تحديدا لكنه يستطيع تفسير ذلك بمجرد شعور بالحنين، قبل سنوات أقام في تلك المنطقة لعدة أشهر أشرف فيها على تدريب قواته داخل الحامية العسكرية التابعة للبلد المضيف. كان مفروضا ان يتم اقامة معسكر لقواته في تلك المنطقة لكن تغيرت الخطة لاحقا وتقرر اقامة المعسكر في المنطقة الاستوائية القريبة من حدود بلاده. شعر لاحقا أن قراره بالرحيل لتلك المنطقة أملته ضرورة ملحة أخرى: تشتيت خطوات الموت الذي يتبعه، إغراق رائحته المميزة: رائحة عجوز أدمن إنتظار المجهول، التي يجدّ الموت في أثرها، في روائح الحياة وزخمها في تلك المنطقة الغنية بالحياة والناس، لاجئون من حروب لا تنتهي، عمال من جهات العالم الأربعة تجتذبهم مشاريع الزراعة المطرية الضخمة، روائح حقول السمسم والذرة، مهرجانات الحصاد وبداية المواسم، ليالي السمر في بيوت الشراب. دون ان تسعفه حاسة الموت السادسة التي أنقذته من الموت عدة مرات في السابق، حين تعرّض لعدة محاولات إغتيال نجا منها جميعا، بسبب عدم إلتزامه بأية برامج أو إجراءات بروتوكولية. ذات مرة فتح بعض المتمردون على سلطته النار على إحتفال رسمي، كان مفروضا أن يلقى فيه كلمة بمناسبة عيد العمّال، لكنه في اللحظات التي دمّرت فيها طلقات الرصاص المنصة التي كان سيلقي خطابه منها، كان يرقص شبه عاريا على أنغام موسيقى الماريمبا، كانت تعزفها فرقة من الهواة من جنوب القارة شاركت في مهرجان وطني للموسيقى والتراث، كان الحفل الخاص في بيت سري، كان يقضي فيه معظم سهراته الليلية السرية مع بعض المقربين منه.
حين قررأن يتجه شرقا، أملا في أن يستعيد حياته، يهزم الشعور بالعزلة، بعد تساقط آخر ورقة توت تستر عورة رغبته في إستعادة عرش تسلطه، حتى لو كان ذلك عبر أوهام البونسيانا، وروائح حمى الحب الداعر. يبدد خطواته التي يقتيفها الموت، في حمى الترحال وزحام الوجوه الجديدة وتفاصيل عالم مختلف، في القرى المتناثرة بحذاء الجبال الغارقة في الرذاذ، دون أن تنبهه حواسه القديمة الى خطوات الموت التي باتت تسبق خطواته، تقوده خلفها، مثل كلب أليف، بسلسلة الوحدة والفراغ، وحنين أشجار البونسيانا، تضبط خطاه على إيقاع صور يتم وضعها خلسة إثناء نومه في تلافيف ذاكرته، فلا يستطيع تمييزها من صور ذكرياته التالفة. عرف أنه لن يحتاج الى إذن من السلطات كي يسافر. لو أنه ذهب الى إحدى إدارات الجيش، التي كان يستقبل فيها مثل رئيس دولة، ليطلب إذنا بالسفر، لنظر إليه المسئول بدهشة، بسبب وجود هذا الغريب الذي يرتدي ملابس مدنية في إحدى منشأت الجيش. قبل أن يعتذر له في النهاية لأنه لا يستطيع أن يجد أية معلومات عنه في الملفات الرسمية!

للحصول على نسخة بي دي إف، من رواية سبعة غرباء في المدينة
[url]http://www.4shared.com/office/AYjLqNlGce/___.html[/url]

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..