ما وجدنا عليه آباءنا

ما يزعج حقاً هو ذلك النفي القاطع للمسؤولين عند حدوث أزمة يعاني منها المجتمع هو نفي وجود الأزمة أصلاً، ونفي وجود الأزمة يعني عدم الإعداد للتصدي لها في فهم ساذج وسوء تصرف وعدم مسؤولية..!!
لفت نظري تصريح وزير الداخلية ونفيه القاطع بعدم وجود ظاهرة النيقرز في العاصمة، وهذا التصريح يدل وبشكل قاطع على انعدام المهنية لدى وزير الداخلية..!!
أية دولة في العالم يعتمد أمنها الاجتماعي على الاستعداد لمواجهة الجريمة أياً كان نوعها، فالعالم أصبح مفتوحاً، وكما تنتقل الخبرات فيه والتكنولوجيا فإن الجريمة ايضاً والأمراض تنتقل، وقد عرف السودان أمراضاً لم يعرفها من قبل كما شهد نوعاً من الجريمة جديدة على مجتمعه..!!
فالتدابير الاحترازية ضرورية ليس في مجال الأمن الاجتماعي فقط بل في المنشآت الهندسية فمثلاً عند إنشاء أي خزان يجب الأخذ في الاعتبار ظاهرة الزلازل حتى وإن كانت طبيعة المكان الذي يقوم عليه الخزان خالية من هذه الظاهرة..!!
ما الذي يجعلنا ندرس الحرب الكيميائية والبيولوجية ونحن لا نصنع هذه الأسلحة؟! وما الذي يجعل السودان يعد خبراء في هذا المجال والمعروف أنه ومنذ قيام السودان كدولة لم يحدث أن تعامل مع هذا النوع من الحروب..!!
الأمن الاجتماعي في أي بلد يعتمد على منع حدوث الجريمة والتصدي لها حال وقوعها، وكل جريمة لها طريقة للتعامل معها إن حدثت، وإستراتيجية واضحة لمنع حدوثها، وهذا يتطلب الإعداد المهني العالي للتخطيط والتنفيذ..!!
أما نفي وجود الجريمة من حيث المبدأ فيعني عدم الاستعداد لها ولمواجهتها بالحسم المطلوب، ونفي وجود نوع محدد من العصابات الإجرامية، يعني لا داعي للإعداد لمحاربتها..!!
هذاالحديث شبيه بالقول ألا مجاعة في البلد لذلك لا داعي للاحتفاظ بمخزون المواد الغذائية الإستراتيجية..! لماذا تحتفظ الدول بهذا المخزون وهي لا تعاني من مجاعة..!!
بهذا المفهوم «نفي وجود الشيء» دخل السودان أزمة اقتصادية قاتلة، ففي غضون الأزمة المالية العالمية التي عانى منها كل العالم، جاء نفي وزير المالية آنذاك.. وهو فيما أعتقد كان عوض الجاز.. أن الأزمة العالمية لن تؤثر على السودان وكأنما السودان لا يعيش على كوكب الأرض، إنما في كوكب آخر، حينها لم يتجاوز الدولار حدود الجنيهين بكثير، والآن شارف على حدود التسعة جنيهات..!!
أي تأثير أكبر من هذا؟! وكان لهذا النفي تداعياته القاتلة على الاقتصاد السوداني الذي لم يتخذ أية إجراءات احترازية فقط لأن وزير المالية نفى التأثير لذلك لا داعي للتحوطات الاقتصادية التي إن لم توقف الأثر كلياً فإن التأثير سيكون في حده الأدنى..!!
صفة يتصف بها السودانيون عموماً وهي أن الكثير من السودانيين وخاصة السياسيين ينفون وجود ما لم يروه رأي العين، وهذه الحجة هي الغالبة لدى أهل السودان إن لم ير أحدهم الشيء بأم عينيه هذا يعني ألا وجود له..!! وهذه الحجة كانت الدليل الذي استندت إليه الجاهلية في حربها على دعوة الإسلام «هذا ما وجدنا عليه آباءنا» أمر لم يروه رأي العين فانكروه جملة وتفصيلاً..!!
فهل ظاهرة عصابات النيقرز التي لم نجدها في أجيالنا السابقة ولم يجدها آباؤنا ينفي عدم وجودها، وحتى إن لم تكن ظاهرة النيقرز موجودة فعلاً، فهي تظهر في شكل آخر مع اختلاف الاسم، فالعبرة ليست في الاسم لينفيه الوزير أو يؤكده إنما العبرة في النتيجة التي بسببها يفقد المجتمع أمنه.
السيد الوزير لم يتعرض لأي عمل إجرامي من قبل هذه العصابات، فهو لا يعيش في الأماكن التي تحدث فيها، وحتى إن كان يعيش فيها فإن الحراسة التي يتمتع بها لن تدع أحداً يخاطر بالهجوم عليه سواء في الشارع أو في داخل منزله، ولهذا السبب ينفي وجود مثل هذه العصابات مستنداً إلى المبدأ الجاهلي «هذا ما وجدنا عليه آباءنا»..!!
هلاَّ اطلع السيد الوزير الناس بإحصائية دقيقة عن وجود الأجانب في السودان، وأعني اللاجئين والنازحين، وعن نوعية من يلجأ للسودان من هؤلاء؟!.. أرجو أن تقدم وزارة الداخلية هذه الإحصائية، والنوعيات التي تأتي إلى السودان، أقول دون تحفظ إن الذين يأتون إلى السودان هم من تقطعت بهم سبل العيش في بلادهم فيهم المريض الذي لا نعرف نوعية المرض الذي يحمله وفيهم المجرم الذي يدخل بجريمة جديدة علينا وفيهم المتسول، وجميعهم يتقاسم مع المواطنين الموارد غير المتيسرة..!!
المؤهل من هؤلاء يتخذ من السودان نقطة عبور «ترانزيت» إلى أمريكا وكندا وحتى إسرائيل وكثيراً ما يرجع هؤلاء للسودان أعضاء في وفود رسمية أمريكية أو عملاء للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية..!!
إن وزارة الداخلية من الوزارات التخصصية السيادية، وعلى رأسها يجب أن يكون مهنياً متخصصاً يفكر بتفكير العصر، وهو في هذه الحالة تفكير أمني خالص، لا بتفكير هذا ما وجدنا عليه آباءنا ويعيش في العصر كما يراه هو وليس ما رآه سلفه..!!
دكتور هاشم حسين بابكر
[email][email protected][/email]