السودان.. آخر محطات التمايز بين الثورة الشعبية أو الانتحار؟

خالد الاعيسر٭

انتهت مؤخرا المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان «قطاع الشمال» في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بعد أسابيع من التداول بدون الوصول إلى وفاق (وقد كتبنا من قبل بأنها ستنتهي وكأن شيئاً لم يحدث.. وقد كان).
أديس أبابا شهدت أيضا تزامنا، لقاء سودانيا آخر أثمر اتفاقا «له ما بعده» جمع مكونات المعارضة الحية بمشاركة قوى الإجماع الوطني والجبهة الثورية وحزب الأمة ومنظمات المجتمع المدني، في ما عرف باسم «نداء السودان» الذي يهدف لإسقاط النظام بوسائل سلمية عبر انتفاضة شعبية، إذا قدر لها أن تنجح ستكون الثالثة في التاريخ السوداني بعد انتفاضتي أكتوبر/تشرين الأول 1964وأبريل/نيسان 1985.
معلوم أن الحكومة السودانية ترتب أوراقها لتزوير الانتخابات، ظنا بأن الخيار التفاوضي يؤدي الى تفكيكها.. وتلك حالة ليست جديدة، من أهم سماتها أنها تدفع الحكومة للمراوغة والسعي لكسب الوقت حتى موعد قيام الانتخابات في شهر مايو/أيار المقبل.. وقد وضحت هذه الاستراتيجية بعد خطاب الرئيس عمر البشير في 27 يناير/كانون الثاني 2014 الذي دعا عبره للحوار الوطني استنادا إلى المرتكزات الأربعة: «السلام.. الحريات والمشاركة السياسية.. الهوية.. والاقتصاد»، وتفاعلت يومها كل قوى المعارضة واستبشر به الشعب خيرا، إلا أن وعود الرئيس عمر البشير ذهبت أدراج الرياح بتعنت النافذين في حكومته، وعلى رأسهم المؤسسة الأمنية القابضة على كل ملفات الحياة السياسية السودانية.
القضية الجوهرية مع بداية أو انتهاء أي جولة تفاوض سودانية، هي أن الشعور بالإحباط عادة ما يتعمق لدى الناس بتجلياته السالبة بفعل خيبات الأمل المتكررة، الناس في السودان يريدون حلولا جذرية تقضي بخروج رجل قائد يفكك زيف التسريبات الحكومية الباطلة «التي لا يجوز أن يعتد بها قانونا ثابتا» رغم نجاحها في تخويف السودانيين وترهيبهم بأن مصيرا هالكاً ينتظرهم في حال ذهبت حكومة الإنقاذ، وهذا هو السر الذي تجعل منه الحكومة «فزاعة» وشماعة تعلق عليها جميع جرائمها وإخفاقاتها «وبلاويها».
لقد آن الأوان، ان ينتبه الناس لتلك الفزاعة الكبرى التي أطلقتها الانقاذ منذ زمن بعيد، وتصر على ترديدها عبر وسائل إعلامها والمنتفعين من بقائها.. هي أكذوبة هضمتها المعارضة.. وصدقها الشعب بمبررات تعوّل على جدية الحكومة في الحوار.. وسقط في فخها أيضا المجتمع الدولي، اعتقادا بأن السودان من الممكن أن يتشظى ويصبح مرتعا للإرهاب، كما الصومال في حال ذهبت الإنقاذ.
الحكومة وكأنما تقول للناس أن الثورة الشعبية يجب أن تبقى في الانتظار، لأن القيادة البديلة لم تولد والبلاد بحاجة الى زعيم ملهم ليقود دولة حُبلى بالتوترات والصراعات، كما هو حال السودان.. «الإنقاذ» تناست وأَنست الناس بأن الأمم الحية لا تظل تبحث عن مخلص، وإنما الأمم هي التي تصنع الزعماء وليس الزعماء هم الذين يصنعون الأمم.. علما بأن الرئيس عمر البشير ليس بمخلص ولا حتى من صنع الأمة السودانية.
من هو العميد (يومها) عمر البشير عندما قاد انقلاب 30 يونيو/حزيران 1989 وما هي مؤهلاته ليكون في ذلك التاريخ زعيما مؤهلا لحكم شعب، كما هو حال الشعب السوداني؟.. هي أسئلة بسيطة لو وجدت إجابات منطقية فلن يبقى الرئيس عمر البشير في الحكم ولو ساعة واحدة.. السودان ثري ويعج بالكفاءات التي تستطيع أن تقود البلاد في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ، التي أصبحت فيها البلاد مرتعا لكل الإخفاقات ومقومات الثورة الشعبية؛ في حالة لا مثيل لها حتى في «الربيع العربي»، كما هي الحال في تونس ومصر وليبيا واليمن.. ويكفي الرئيس عمر البشير أنه استحق وصمة عار تمزيق السودان الى دولتين قابلتين للتشظي والتفتت والانقسام، وهذا وحده كاف للاطاحة به، بالاضافة الى إخفاقاته الكبيرة في نشر الكراهية والفتن وازدراء الآخرين وتعميق النعرات القبلية وتدمير النسيج الاجتماعي السوداني، وإجبار السودانيين على التنازل عن جنسياتهم، كما أفاد جهاز شؤون السودانيين العاملين في الخارج مؤخراً.
تتجلى هذه المرة ثمرة اتفاق أطراف المعارضة في مواقف الحكومة السودانية المرتبكة، التي دفعتها لترهيب الناس، باستخدام آلتها الإعلامية الكذوب وجنودها من الإعلاميين المنتفعين، بإصدار الأحكام المسبقة على «نداء السودان» وكأنما هو اتفاق يهدف لاحتلال السودان بمساعدة قوى أجنبية وليس تحريره من قبضة أسوأ نظام حكم على مرّ التاريخ.
التكهن بقيام انتفاضة سودانية ثالثة تزامنا مع الانتخابات المقبلة في مايو 2015 يبدو أمراً منطقياً، وليس ببعيد ولا يجب أن توقفه انقسامات المعارضة ولا تفاهماتها ولا حتى الحملات القمعية التي يهدف من خلالها النظام إلى إعاقة حركة التغيير.. الثورة في السودان أضحت فرض عين على كل السودانيين، وإلا فالبلاد ستهوي الى درك سحيق ستتوارثه الأجيال. والسودان اليوم يتذيل كل قوائم السقوط الدولية؛ تارة على رأس قائمة الدول الأكثر فسادا وأخرى في قائمة الدول التي تنعدم فيها أبسط حقوق الإنسان، وليس انتهاء من إدراجه ضمن خمس دول ترعى الإرهاب.
ثمة تحديات في هذه المرحلة التي اكتملت فيها كل مقومات اندلاع الثورة الشعبية، ومن بين هذه التحديات أن بعض المعارضين يصورون القبضة الأمنية العسكرية للنظام بأنها سبب عدم حثِّهم للشعب على التظاهرات لاقتلاع النظام؛ وهذا أمر خطير ولا توجد له مبررات.. فالنظام يعيش أسوأ حالاته وأضعف أيامه، ولديه صراعات داخل أجسامه المتنافرة، كان آخرها وأهمها استقالة عدد من كبار قادته الأمنيين احتجاجا على سياسات الحكومة.
أيضا من بين هذه التحديات، جزئية مهمة وهي تسخير الحكومة لآلتها الدعائية الاعلامية، وهذا الشق يذكر بمقولة الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: «قوة الإرادة بالنسبة للعقل مثلها مثل رجل قوي أعمى يحمل على كتفيه رجلاً كسيحاً يستطيع أن يرى»، وهذه المقولة تجسدها الحكومة واقعا من خلال جيشها الإلكتروني المعني بالنشر في المواقع الاسفيرية ووسائط الإعلام الجديد «الواتساب والفيسبوك» وبعض الصحف الموجهة بكتابات بعض المنتفعين، التي تركز في الحديث على تضخيم قدرات الحكومة العسكرية والأمنية، وفشل الثورات الشعبية في ما عرف بدول «الربيع العربي»؛ بينما هذا الأمر لا علاقة له بمشكلات السودان وإنما بارتباطات تلك الدول بقضايا قومية أو دولية ذات طابع طائفي أو الحرب العالمية على الإرهاب أو خلاف ذلك من أسباب لا وجود لها أصلا في السودان. كل هذا يدلل على مدى ضعف هذه الحكومة «التي نعلم جيدا أنها أشبه بنمر من ورق».
ونحن نتحدث عن احتمالات واستنتاجات في خضم بيئة سياسية تضطرب انواؤها، وتتداخل عناصرها يجب أن لا تنسى الذاكرة السودانية أيضا أن التاريخ حافل بالبطولات، وقد أثمرت جهود الأجيال السابقة من أبناء الشعب السوداني في نجاح انتفاضتين شعبيتين.. وعليه فإنه من المنطق أن ينتقل الناس من مربع التفكير في ماذا ستفعل «الإنقاذ» بالمتظاهرين، الى مربع قطف الثمار على هدي العقيدة والدين والحق في البحث عن حياة كريمة.
الحراك المنشود هو دين مستحق على كل الناس ومسؤولية أخلاقية تتيح تقديم كل من أجرم في حق الشعب للمحاكمة؛ والموت والترهيب يجب ألا يمنعا الشعب من الخروج للشارع ليقول كلمته بعد أن أصبح الانتحار صفة ملازمة لكثير من أبناء السودان الذين شنقوا أنفسهم أو ذبحوا رقابهم، كما حدث أكثر من مرة قبل أيام في شوارع الخرطوم.. أليس الأوفق للناس شهادة لله ذودا عن مصالح الأمة بدلا من الانتحار؟ وهذا السؤال الأخير وحده كاف لأن يذهب الرهبة عن قلوب الملايين الذين يعانون كل ساعة قهرا واضطهادا وفقرا بفعل بقاء «حكومة الإنقاذ».. والأحرى كذلك بكل وطني غيور أن يشارك في هذا التغيير حتى ينعم الناس بدولة المواطنة المتساوية والعدالة والقانون، وهذه هي آخر محطات التمايز ما بين الثورة الشعبية أو الانتحار.

٭ كاتب سوداني مقيم في بريطانيا
صحيفة القدس العربي
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. اؤيد ما ذهبت اليه بشده ، ولكن ، الا تري ان وجودنا في خارج السودان ودعوتتنا للثورة الشعبية فيه شيئ من التناقض؟ اليس من الواجب تنظيم العودة ببرنامج وطني للتغيير والعمل وسط الجماهير ؟لماذ نترك الامر لكهنة السياسة السودانية الذين فشلوا حتي في اطعام انفسهم ويخرجون علينا كل يوم بميثاق جديد ، والحكومة تخرج لهم لسانها ، وتتبجح: قابلونا في الميدان ان كنتم رجال ، اين الشباب السوداني بخبراته ورجولته وحماسه ؟ تشتت في ارجاء الكوكب وانزوي ، واصبحنا ننشد من الجماهير الغلبانه ان تقوم بالثورة لتقتلع النظام ، هيهيات ذلك !
    مع ودي واحترامي

  2. نسيت تاريخك مع الكيزان وهربت لبريطانيا عامل فيها ناصح زي الأفندي. أبو القدح بيعرف يعضي أخوهو وين

  3. نبتة ستظل تتشح بالسواد..لأن أبناؤها ..حفهم الجهل ..السذاجة..والسطحية ..وقد كانوا ..استنارة الرشاد رأينا هذا المأفون ..خالد الإعيسر ..يمثل الردح ..لطم الخدود ..وشق الجيوب ..حيا على الهواء مباشرة ..على فضائية..قوون..مع الذي يماثله ..دناءة ..وخسة..هيثم كابو..رأينا سقوط القيم ..والأخلاق ..وكيف لجأ الاعيسر مستنجدا ..بجهويته ..وإنه من بارا…(سلام على بارا..وليمون بارا…ولكل من…غدا ..وراح على ..بارا) يقولون ..سادتي ..في الأثر..الفتى من يقول هانذا وليس كان أبي…،، تأملوا معي هذا التناقض الواضح في سلوكيات هذا الدعي..هو يدعو للعصبية ..والجهوية..ولمن أراد ..رؤية الردح ..وفرش الملاية اللف..فعليه بأرشيف قناة قوون الفضائية..،، تأملوا معي ..الفقرة أدناه..والتناقض ..بين ما تفوه به في ذلك البث المباشر
    وهذا دليل على خسة هذا الميكافيلي ..غايته تبرر وسيلته…
    ((ويكفي الرئيس عمر البشير أنه استحق وصمة عار تمزيق السودان الى دولتين قابلتين للتشظي والتفتت والانقسام، وهذا وحده كاف للاطاحة به، بالاضافة الى إخفاقاته الكبيرة في نشر الكراهية والفتن وازدراء الآخرين وتعميق النعرات القبلية وتدمير النسيج الاجتماعي السوداني، وإجبار السودانيين على التنازل عن جنسياتهم، كما أفاد جهاز شؤون السودانيين العاملين في الخارج مؤخراً((.
    سبحان الله ..تحول هذا الاعيسر ..360 درجة من مدير قناة النيلين ..بالتمكين..فتى الإنقاذ ..ربيب المتأسلمين
    ثم أُقيل من …من منصبه..وأنتظر التعيين..في مرفق أخر بالتمكين…وحين لم يجد فرصة بالتحصين…نعت المتأسلمين..بالمنافقين…وهو منافق صنيعة المنافقين..
    للأسف يفرد أستاذنا /عبد الباري عطوان..حيزا ..لهذا المنافق ..بالقدس العربي ..الصحيفة المحترمة..هل المقياس ..إقامة الشخص بلندن ..فيصير كاتبا ..دون الرجوع لسيرته الذاتية..ومعرفة تاريخه..نأمل من إدارة القدس العربي ..عدم فتح الباب بمصراعيه..أمام كل من هب ودب …
    نرجو من الراكوبة …روضتنا الوارفة الظلال …التي نتفيأ..ظلالها …أن تترفق بنا …وتكون دوما في مستوى
    روادها الراشدين ..المستنيرين …وليس كل ما تعرضه القدس العربي ..يواكب ..تطلعات روادها ..وخير مثال هذا المنافق ..الميكافيلي ..الوقح ..حقا أن لم تستح فأفعل ..ما تشاء..
    مع تحياتي لكل ..الرفاق من مرتادي الراكوبة..
    أدعوا معي …يا رحمن يا رحيم…ألن فؤاد ميم …أمين…أمين

  4. أبو مصطفى جيفارا، واضح من كلامك أنك من المنتفعين من الإنقاذ أو جيشها الالكتروني ومقالات الاعيسر ظاهر أنها تهددكم.
    نحنا كشعب عايز نسمع آراء واضحة والثورة قادمة

  5. وعليه فإنه من المنطق أن ينتقل الناس من مربع التفكير في ماذا ستفعل «الإنقاذ» بالمتظاهرين، الى مربع قطف الثمار
    _____

    كنتو وين.. وين انتو كنتو ؟!!

  6. مرات كتيره بحس انو السودان لسه فيهو ناس قلبها على البلد وشجعان وشكرا للاستاذ الاعيسر علي شجاعتو.
    فعلا البلد محتاجه حماسه وصراحه

  7. ألم يكن هذا خالد الأعيسر مؤتمر وطني ومسئول في قناة النيلين عندما رفض له نقل مباراة أفريقية للمريخ وحصل تضارب مصالح بينه وبين جمال الوالي ؟ أرجو أن يفيدنا ويكشف عن لونه السياسي …………..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..