الابعاد السياسية والثقافية لمحاكمة الرئيس مبارك

د. يوسف نور عوض
تقوم الدول الحديثة على ثلاثة أسس رئيسية، أولا هناك السلطة التنفيذية وهي في الدولة الحديثة يمثلها مجلس الوزراء الذي يتكون عادة من ممثلي الشعب في البرلمان المنتخب، ويعاون هذه السلطة التنفيذية جهاز مدني متقدم يقوم بتنفيذ السياسات، أما الأساس الثاني الذي تقوم عليه الدولة الحديثة فهو المجلس التشريعي أو البرلمان وهو سلطة منتخبة من الشعب مهمتها أن تقوم بوضع التشريعات التي تلتزم بها السلطتان التنفيذية والقانونية، وأما الأساس الثالث فهو السلطة القانونية التي على الرغم من أنها تطبق القوانين والتشريعات التي تصدر من البرلمان فهي في أساس تكوينها سلطة فوق الجميع لا تتدخل في إجراءاتها أي جهة من الجهات توخيا للعدالة. وبصفة عامة نلاحظ أن مثل هذا النظام غائب في معظم الدول العربية التي تحكم حكما شموليا، وذلك ما يستدعينا هنا أن نفسر المقصود بالحكم الشمولي، ذلك أن الكثيرين ما زالوا يماهون بين هذا النوع من الحكم والحكم العسكري، لكن على الرغم من أن العسكر في العالم العربي يدعمون أنظمة الحكم الشمولية فلا يمكن أن توصف معظم تلك الأنظمة بأنها أنظمة عسكرية، أما السبب الذي يدعونا إلى هذا القول فهو ما يلي:
أولا: نعترف أن معظم أنظمة الحكم الشمولية وصلت إلى الحكم بدعم من الجيوش، ولكن دور الجيوش ينتهي عادة بمجرد أن يصل الحكام إلى السلطة، وفي تلك المرحلة تخصص الدولة امتيازات مغرية للضباط من حيث المكافآت والسكن والمواصلات بشرط أن يبقوا بعيدا عن سلطة الحكم، على الرغم من أن السلطة قد تلجأ لهم من جديد كما حدث في انتفاضة الإسلاميين في مصر في عهد الرئيس مبارك وتمرد جنود الأمن المركزي الذين اشتكوا من سوء أوضاعهم المعيشية
ثانيا: تستعيض معظم أنظمة الحكم الشمولية بالشرطة لإقامة نظام بوليسي يحكم بواسطة المخابرات وقوانين الطوارىء، وتكون قوات الشرطة في معظم الأحيان هي السند الرئيسي للنظام.
ثالثا: إذا سألنا عن طبيعة النظام ذاته فسيتأكد لنا أن القوى الحقيقية التي تدعم مثل هذه النظم الشمولية هي القوى الاقتصادية ورجال الأعمال الذين يتغلغلون في داخل النظام من أجل تحقيق المكاسب الخاصة، في وقت لا يقيمون فيه اعتبارا حقيقيا للمصالح الشعبية أو الوطنية التي ينهبها هؤلاء وترسل إلى خارج الدولة لتنتفع بها اقتصادات دول أخرى.
هذا هو الواقع الذي تعيش فيه معظم الدول الشمولية في العالم العربي، وهي الدول التي تواجه في الوقت الحاضر انتفاضات شعبية، آثر البعض أن يطلق عليها ثورات، ولاشك أن كلمة ثورة نفسها لا تعتبر من الكلمات المستحبة، لأن مفهوم الثورة يحمل في ذاته دلالة انقلابية، وما هو مطلوب في العالم العربي الآن ليس هو الانقلاب، بل التغيير الحقيقي في نظم الدولة، ولا نقبل هنا قول الذين يقولون إن هذا يحتاج إلى طريق طويل من التطور قبل أن يتمكن الناس من تحقيق هذا النظام، ذلك أن الناس في العالم العربي لا يسيرون في طريق تطور، كما أن هيكلية الدولة الحديثة أصبحت واضحة وهي لا تحتاج إلى تطور بقدر ما تحتاج إلى تغيير، وهو تغيير لا يحدث بالثورات كما يعتقد الكثيرون لأننا شهدنا ثورة غيرت نظام الحكم في تونس وأخرى في مصر ومع ذلك لم نر نظاما جديدا ينبثق من هذه الثورات بل رأينا سلطات عسكرية تعيد الكرة من جديد إلى مربعها الأول وفي هذا الإطار تأتي محا كمة الرئيس السابق حسني مبارك ونجليه بتهم ليس من الصعوبة توجيهها لأي رئيس في أي دولة من دول الشرق الأوسط سواء كان ذلك في مجال الفساد المالي أو إهدار إمكانات الدولة أو ارتكاب بعض الجرائم ضد المواطنين، ولا شك أن تقديم الرؤساء إلى المحاكمة كما يحدث في محاكمة الرئيس حسني مبارك قد يشفي غليل كثير من المواطنين سواء من الذين تعرضوا لأذى من نظام الحكم أو من الذين يبهجهم أن يروا الرئيس يقف في قفص الاتهام مثل أي مواطن عادي، لكن من الخطأ أن تفسر مثل هذه المحاكمات على أنها تطور في النظام العدلي أو على أنها ثورة حقيقية لتغيير نظم الحكم، أولا، لأن أي رئيس في السلطة يمكن أن يواجه بمثل هذه الاتهامات حتى لو لم تكن له أياد مباشرة في ارتكاب الجرائم، وليس من العدل أن ينسب كل ما يقع في الدولة على أنه من مسؤولية الرئيس، خاصة إذا كان نظام الدولة الرئيسي غير موجود أصلا. ولا ننسى أن الاستمرار في هذا النوع من المحاكمات قد يصرف الناس عن التفكير في مجالات التغيير الحقيقي، بكون المطلوب ليس هو محاكمة فرد أو مجموعة من الأفراد ارتكبوا جرائم أو مخالفات في وقت يتجاهل فيه الناس طبيعة النظام الذي يعيش فيه الناس، ويبدو في ضوء ذلك أن التركيز على محاكمة الرئيس حسني مبارك ونجليه قد يقدم للناس صورة غير مكتملة عن طبيعة المشكلة التي تعاني منها مصر وغيرها من دول العالم العربي، لأن المشكلة الحقيقية تكمن في نظام الدولة الذي لن يتحقق إلا بإحداث تغيير شامل في الرؤية التي تدار بها الدول في العالم العربي.
ولا يعني ما ذهبت إليه ألا يحمل حسني مبارك أو غيره مسؤولية المخالفات التي ارتكبها وإنما يعني فقط ألا تساعد الدولة في إدخال الناس في وهم أن الوصول إلى محاكمة الرئيس يعني تغيرا حقيقيا في نظام الدولة، لأننا رأينا في محاكمة الرئيس حسني مبارك أن كثيرا من الشامتين كانوا من اتجاهات وتيارات سياسية لها مصلحة في زوال حسني مبارك أكثر من رغبتها في تحقيق العدالة من خلال مثل هذه المحاكمة.
وهنا لا بد أن نعترف أن العالم العربي يحتاج إلى تغيير حقيقي ولكن هذا التغيير لا يتحقق بمحاكمة المسؤولين أو إزالتهم من السلطة فقط بل يتحقق التغيير من خلال إدراك الجميع أن الدولة هي نظام مشترك، تتحقق فيه المصلحة للجميع وإذا توصل المواطنون إلى هذا الفهم لن يعودوا بحاجة إلى استغلال ثروات الدولة وإمكاناتها لمصالحهم الخاصة وتحويلها إلى الاقتصادات الأجنبية، وقد شرحت هذه النقطة في كثير من مقالاتي السابقة، إذ قلت ان تحقيق الكسب غير المشروع والاعتقاد بأن ضمان استمرارية هذا الكسب يكمن في إرسال الأموال إلى خارج البلاد هو خطأ كبير لأن إرسال أموال الدولة إلى الخارج يعني خروجها من الدورة الاقتصادية وإدخالها في دورة بلد آخر وفي هذا ضرر كبير بمصالح المواطنين ولا يحدث هذا في معظم الدول الغربية لأنه حتى لو قام أي فرد هناك باستغلال إمكانات الدولة لمصلحته فإن ذلك لن يؤثر على مصالح المواطنين، بكون هذا الشخص سيحتفظ بأمواله داخل الدورة الاقتصادية الوطنية وبالتالي سيستفيد جميع الناس مما جمعه، ولن تجد من تمتلىء نفسه بالحقد ضد مثل هذا الرجل، ولا يعني ذلك أن يفسح المجال للمفسدين ذلك أن ما هدفت إليه هو القول بأن العالم العربي بحاجة إلى تغيير نظم الحكم لتصبح نظم دولة، وأن يبتعد الناس عن الاعتقاد بأن محاكمة الحكام بعد الثورات هي التي تحقق العدالة للمواطنين، لأن ذلك غير صحيح إذ قد تؤدي مثل هذه المحاكمات إلى أضرار أكبر، فالذي نعرفه أو يقال هو أن الرئيس مبارك حول مليارات الدولارات إلى خارج وطنه، فكيف يمكن للدولة أن تستعيد هذه المليارات إذا اكتفت بمحاكمة الرئيس أو ساعدت في تدهور حالته الصحية وموته، يجب أن ندرك أن معظم الأموال التي حولها الرؤساء أو المسؤولون إلى الخارج يمكن أن تضيع إذا لم تلتزم الشعوب الحكمة في التعامل مع هؤلاء السارقين.
ومؤدى قولي هو أن المشكلة التي يواجهها العالم العربي هي في الأساس مشكلة ثقافية وما لم يتغير العقل العربي ثقافيا ليعرف ما هو المطلوب من أجل إقامة نظام الدولة الحديثة فسيظل يدور في حلقات مفرغة لن تحقق في نهاية الأمر ما تصبو إليه الشعوب.
‘ كاتب من السودان
القدس العربي