مأساة الدموع

في ما أري

مأساة الدموع

عادل الباز

استمتعت بالأمس بحوار الأستاذ باقان أموم الذي أجراه الصحفي المميز فتح الرحمن الشبارقة بالغراء الرأى العام. هذا الحوار هو من أفضل الحوارات التي أجريت مع باقان منذ نيفاشا، وفى تقديري أن السبب الأساس في ذلك هو مهارة المحاور، وهدوء نفس باقان، بعد إفلاته من التوتر اليومي الذي تفرضة أجواء وصحافة الخرطوم على الحركة السياسية في العاصمة.
كشف باقان في الحوار أنه يستمع للكابلي ووردي ومحمد الأمين ولم يذكر فنانا جنوبيا واحد!!. ذاكرة باقان وغيره من مثقفي الجنوب كونها الشمال بثقافته وعاداته وتقاليده ولن تمحوها تغيرات الجغرافيا، فالثقافة عابرة الحدود، وليس ممكنا صنع مصدات ضد حركتها في التاريخ والبشر.
باقان بدا متفائلا بأن الانفصال سيفضي لجوار أخوي حال انتهت المشاحنات بين الشمال والجنوب. والسؤال يطرح هنا على السيد باقان: إذا كان ذلك ممكنا فبقليل من الحكمة يمكن تجاوز المشاحنات والملاسنات. لقد استطاع الشمال والجنوب طي ملف الحرب مرتين في تاريخهما في سبعينات القرن الماضي (أديس أبابا 1972) وباتفاقية نيفاشا (2005) فإذا كان طي الحرب ممكنا فمن الممكن أيضا طي صفحة المشاحنات ومواصلة العيش المشترك.
أجمل إجابات باقان جاءت على خلفية سؤال ذكي للشبارقة يقول (أنت تدمع، ونافع يبكي، وقبلكما غندور، وإخلاص قرنق، وآخرون. كيف تنظر سيد باقان لقصة الدموع الجارية هذه الأيام؟)
أجاب باقان (السودان يمر بلحظة دقيقة في تاريخه، وهي لحظة انتقال. وفى هذه اللحظات هنالك من يبكي على الأطلال وآخرون يبكون على حلم تحقق، وآخرون يبكون على حلم ضاع، وآخرون يبكون على حلم في طريقه للتحقق).
الإجابة التي لم نحصل عليها من خلال هذه الإفادة هي أي حلم يبكيه باقان من بين تلك الأحلام يا ترى؟ أم أن باقان يذرف دموعه على شواطئ كل تلك الأحلام؟. هل يبكي داخله كل تلك الأحلام؟.
حلُم باقان بمشروع دولة السودان الجديد وخرجَ من جامعة الخرطوم كما قال في العام 1982 ثائرا ينشد تحقيق حلم، وتراءت له حقائق تلك الأحلام مع أستاذه قرنق. حلم كبير ببناء سودان جديد مغاير. فكافح من أجله عشرين عاما، ثم جاء يحمل هذا الحلم بعد نيفاشا حين ارتفعت سقوف الآمال إلى عِنان السماء، قبل أن تهوي الأحلام وتتحطم مع طائرة قرنق. من يومها قبر حلم السودان الجديد. ولا بد أن باقان ذرف دمعا عزيزا على أطلال ذاك الحلم الذي عاشه صحوة ومناما، عاشه لعشرين عاماً.
الآن بلا شك أيضا فإن باقان يبكي على حلم قيد التحقق، وهو حلم الدولة الجديدة. فليس من عادة السياسيين الوقوف كثيرا والبكاء على الأطلال، فهم ليسو متصوفة محبين، ولا شعراء هائمين. فما أن يقبر حلم حتى ينسجوا أشرعة أحلام جديدة من ثوب يحيكه الواقع، وتطرز حواشيه الوقائع الحاضرة، وليست الآمال المهدرة.
طفرت من عيني باقان دمعتان أثناء استماعه لنشيد الدولة الجديدة ذات الكلمات المفعمة بالمرارة والأسى، فحركت وجدانه، فبكى حلماً قيد التحقق، حلماً بوطن جديد، حلماً بنشيد وجاه وصولجان، رغم أن ذلك لم يكن حلما له ولا لقرنق، بل كان ذات يوم كابوسا. لم تكن أحلام باقان ولا أحلام أستاذه دولة مغلقة، ولا دولة بلا تاريخ عريق، ولا دولة متحجرة، كما كان يقول قرنق (راجع منصور خالد.. السودان.. أهوال الحرب.. وطموحات السلام.. قصة بلدين).
باقان يبكي ماضياً ظللته الأحلام الوردية، والثقة بالنفس، وزانته الآمال الكبيرة. هو يبكي حاضراً مؤلماً، حاصرته الصراعات وتفشت فيه الألاعيب الصغيرة، فانتهى إلى ما انتهى إليه، صفوف هزيلة، من أجسام نحيلة، تحمل بيديها أوراقاً مهترئة تقذف بها في جوف (صندوق أجنبي) فتبعثر الوطن شظايا!!.
المأساة يا سيد باقان أننا جميعا سنبكي عند، التاسع من يناير 2011، بكاءً مراً، وليست تلك هي المأساة، ولكن ستكون المأساة أننا لن ندرك كنه تلك الدموع، ومن أي ينابيع الأسى تدفقت، ومن أي زاوية من زوايا الخذلان هطلت، ولا أين هي تلك الأغوار البعيدة التي تقذف بحممها على مآقينا.. تلك هي المأساة يا باقان!!.

الاحداث

تعليق واحد

  1. أقول للأخ الأستاذ كاتب المقال الرائع و للأستاذ باقان مدبر الإنفصال الغير رائع ! "لا وقت للدموع" فقد حان زفاف الشرذمة التي سوف لني يتحكم فيها باقان أو مؤتمر أو سلفا أو ترابي أو عبد الواحد ، ميناوي أو خليل "يا خليل يا خليل خليلك وين!" يا شعبي !!! سوف لن يتمكن حت مبيكي من التحكم أيضاً فالتحكم صهيوني أولاً و أخيراً بلوا رؤوسكم للحلاقة ألم تشاهدوا صلعة العراق !!!! علماً بأني لست متشائم بل متفائل لدرجة التصدير ! لكن وا حسرتاه وقعنا في فخ التخلف و الإختلاف الذي يفتح ثغرة دخول قط الإستعمار الجديد الذي يقضي على جميع الفئران المختلفة المتخلفة (ربما تحدث سحابة توريت) و لله في خلقه شئون و شئون و الحمد لله .

  2. يا سيدي عادل الباز.. تحياتي..
    خيار الانفصال لم يأت بسبب المشاحنات، كما تفضلت وقلت، وانما بسبب نظام خازوق استن سنة جديدة في الحرب الاهلية وهي تحويلها لجهاد وبالتالي كانت النتيجة كارثية للشمال والجنوب وكارثية للجنوب اكثر لانه فقد اكثر من اثنين مليون قتيل وحوالي خمسة ملايين مشردين.. واكثر كارثية للسودان لانها ادت الى تشظي البلد فانشطر عنه الجنوب فانفتح الباب واسعا للاقاليم المهمشة للمطالبة بنفس هذا المطلب والسعي الدوءب له ..واعتقد ان دارفور ستكون هي القادمة ان لم تساس الامور بصورة جيدة..
    اعتقد ان حديث باقان اموم كان واضحا.. ان حكومة المؤتمر الوطني هي اول من القى بحجر تقرير المصير في بركة المفاوضات، وان عدم الوصول الى صيغة حكم ترضي الجنوبيين وتحسسهم بانهم مواطنين كاملي المواطنة هو السبب الاساسي لانفصال الجنوب وليس المشاحنات.. اكرر ليس المشاحنات.. المصارين في البطن بتتخانق، ناهيك عن البشر.. اما الدونية فليس لها علاج سوى البحث عن آلية لتحقيق المساواة والوقوف بندية .. وقد كان… فإن مهمشي الامس اصبحوا سادة في دولتهم الجديدة.. انتم ككتاب وصحفيين مطالبين برؤية الاشياء بمنظور اوسع من ذلك.. منظور يبصر الساسة والحكام الى المنزلقات التي يقودون اليها الوطن.. وليس التمليس والطبطبة على جروح متقيحة، ان اوان فتحها ومعالجتها معالجة جذرية..المثل السوداني يقول: يجري الكضب يوم.. يلحقه الصِح في ضحوة..
    تقديري

  3. غدا سنبكي على فراق دارفور و جنوب كردفان و النيل الازرق ولن يبقى بين يدينا الا مثلث حمدي او ما يتبقى منه.

  4. اهدي رائعة ترباس :

    1 – ياعيني ماتبك

    2 – طبيعة الدنيا زي الموج …تشيل وتودي …وما تهتموا للايام

    اهديها لكل الذين بكوا …والذين بعد شوية سيبكون

  5. المأساة ياسيد عادل ليست الدموع المأساة وطن ضائع وليس لة وجيع والمستقبل أسواء مما تتصور نحن شعب الحكومة بتتعامل معة كقطيع الاغنام ليس لة راي الا راي الحكومة وانت كصحفي عند توقيع نيفاشا اظن انك سالت علي عثمان من الذي فوضك لتتخذ قرار واظن انة لم يرد عليك 0

  6. دعنى اجبك يا ابو احمدعن سؤال من الذى فوضك…
    والاجابه….على عثمان فوض نفسه لما بحركه قرديه ابعد غازى العتبانى والاثنين واحد متعوس والثانى خايب رجا…لانه عايز ينفذ الاجنده اللى فى راسه وهى انفصال البلاد…وانا شخصيا ما عندى ادنى شك فى هذا…لذلك انا بعتبر على عثمان شخصيا هو المسؤل عن الحاصل وهو اللى فوض نفسه…وانا بقول ليهو الله يرحم حى الصحافه

  7. لقد ظل شعب السودان يبكي لاكثر من عشرين عام و الآن يبكي اكثر ذرف الشعب دموعا و دما … و يبدو ايضا ان هنالك المزيد من البكاء حين ينفصل الجنوب و " يستفرد " الجماعة باهل الشمال الذين لا يملكون سلاحا و لا يملكون غابات و ليس لهم حركة شعبية….. القادم اسوأ حين تنفرد السلطة بالشمال دون " منغصات" لتنفذ شريعة قراقوش و "تعيد صياغة" الانسان السوداني بمزاجها!
    الاسوأ قادم حين يتنفس الطيب مصطفي و زمرته الصعداء و يخلفون رجل علي رجل و يقولون لجماهير الوطن الفضل و الشعب الفضل " الآن فضينا ليكم"!!!!
    حينها فقط ستعرفون البكاء الحقيقي!

  8. أيها المتأسلمون وكل من شايعهم من الكيانات الأخرى ، أقول لكم:

    إبكو يا أشباه النساء وطنا لم تحافظو عليه كالرجال…

  9. المأساة يا استاذ الباز .. في ان يقّدر لبلادنا ان يقّرر مصيرها بعض (الغير مفوضين ) من حملة السلاح ، بعضهم خرج عليها من الغابة والبعض الآخر جاءها على ظهر دبابة ..
    في القوقت الذي تّم اقصاء اصحاب الشأن و (الوجعة) و(الدموع الحقيقية) .. وهم الاغلبية ، يحدث ذلك لاول مرة في تاريخ السودان ..

    اي (مأساة) افجع من ذلك واي (وجع) اقسى من هذا ..

  10. لك التحية والتجلة استاذنا الباز اتفق تماماً مع الأخت فاطمة فيما ذهبت اليه وهو واقع حالنا وكبد الحقيقة التي يتهرب منها الجميع والسودان وطن كبير الا انه لم يسع اهله جميعاً بسوء السياسات التي اتى بها نظام الانقاذ وعدم الرضاء بالآخر والمعاملة الدونية لكثير من فئات هذا الشعب الأبي ولكننا في الواقع ندفن رؤوسنا في الرمال والاعلام بكل مواعينه المناط بها تناول القضايا التي تهم الشعب بكل فئاته ومقدراته ووضع الحلول عبر اناس مختصين لم يتحركوا في هذا الاتجاه ولم تتطرح القضايا بصدق وشفافية وكما ذكرت المعلقة الاخت فاطمة طبطبة الاعلام على الجروح المتقيحة دون معالجتها جذرياً واقول ان السياسات الرعناء للحزب الحاكم هي ما اوصلتنا للحال الماثل وشعب الجنوب عبر ابنائه آمنوا تماماً بقضيتهم وقاتلوا من اجلها وهي التحرر من قبضة الشمال الذي ينظر اليهم بدونية وهذه حقيقة لا ينكرها الا منافق ورؤيتهم الاستراتيجية لقضيتهم هي انفصال الجنوب حتى يرتاحوا من الذل والاستعمار الحديث فأنا اول المهنئين للاخوة الجنوبين بنيلهم استقلالهم وحريتهم بعد نضال طويل قدموا فيه الملايين من ابنائهم … وفي التجربة الجنوبية مثال عظيم لكل من يرى من ابناء هذا الشعب انه يعيش تحت وطأة الاستعمار الحديث من بنو جلدتنا ويعمل بجد وصدق حسب رؤيته واستراتيجيته المناسبة لتحقيق التحرر والاستقلال والطريق الآن مفتوح للجميع ان لم يتراجع المستعمر عن سياساته الاستعمارية التحية للمناضلين الجنوبيين وعلى رأسهم الاستاذ باقان اموم .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..