انزواء الرقص النسائي الفردي..كارثة ثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم
شيخ مالكي استضافته فضائية سودانية ..تحسر على وضع الفقه في بلادنا ..باعتبار أن كل الفتاوى كانت متجانسة مع المذهب المالكي..أما الآن فيرى أن الفضائيات والفتاوى على الهواء مباشرة والتربية على المناهج الخليجية لأبناء المغتربين..قد جعلت الفقه مرقعاً بكل الألوان.. فما عادت للبلاد سمة فقهية تميزها عن غيرها..
ولا استطيع الجزم أن الشيخ ما درى أن الأمر لم يتوقف عند الفقه ..بل تغلغل في كل ثقافة الأمة ..لكن المهم فيما أرسله من قول ..هو أن أهل الفقه والدين أنفسهم ..يشعرون بغربتهم وفقدان مقدرتهم على الإبقاء على خصوصية البلاد في مجالهم..
والحال كذلك ..فإن من أكثر ما تأثر في البلاد ..هو ما له علاقة بالنساء والفنون والآداب..خاصة الغناء والرقص..حيث أن تبني ما سمي بالمشروع الحضاري عبر نظام أحادي قمعي إقصائي .. أثر عقم موروثه وخلو أدبياته في هذا المجال من شئ ذي بال…كونه مضاداً بالفطرة لها ..فبَؤس حصاده فيه.. إذ بدأ بالتجريب ..ففرض علينا الجلالات وأناشيد الدفاع الشعبي ..واستحل بالكامل ..التعدي على الحقوق الأدبية للملحنين بسرقة ألحان الأغنيات وزج كلمات المدائح وأناشيد النظام فيها – مثل يا الإنقاذ هنيئاً من دنيا الريد غريبة -.. واصبح هذا هو الفن..أما ما عداه فهو فسوق حتى الأغنيات التي سرقت منها الألحان ..ثم عند الشعور بضجر الشعب أفرج عن الأغاني بعد غربلتها من الخمر والنساء ..حتى خشي الناس على روائع مثل قم يا طرير الشباب أن تنالها قرون الثور الذي دخل مستودع الخزف..ولئن كان هذا حال الغناء ..فلا بد لحال الرقص أن يكون أسوأ..ففرضت العرضة نموذجاً واحداً لارتباطها بأغاني الحماسة..ولم يكن مستغرباً أن ترفع الكلاشات بدل السيوف والعصي في الاحتفالات عند الرقص..لكن الغريب فعلاً أن المجندات بالدفاع الشعبي كن يمارسن نفس الاسلوب..فاختفى منها الرقص النسائي الموروث.
ثم كان قانون النظام العام..الذي يحمل كل امراض المجتمع الذكوري ومعاداته لكل ما له علاقة بالمرأة وحريتها..ولا نقول الرؤية الدينية ..فقد تعايشت الرؤى المختلفة قبلاً ..وكل ينافح عن رؤيته..ويترك الآخر وشأنه.. لولا تفلتات استهجنت في حينها مثل حادثة الكرسي الشهيرة تجاه رقصة العاجكو ..والذي صار بطلها رئيساً لشورى الحركة التي أتت بالنظام ..فالغضاضة هنا ليست في وجود تيارات دينية تحمل رأياً ليس في الرقص النسائي الفردي والمشترك مع الرجال فحسب بل في الغناء من أساسه .وهؤلاء نحترم رأيهم جداً وتفسيرهم للدين ..ولكن الغضاضة في فرض الرؤية عبر السلطات الانقلابية..ثم عبر اللجان في القرى والأحياء سواء أكانت اللجان الشعبية أو لجان مساجد مددت صلاحياتها أجواء القوانين السائدة المشكِلة مظلة لحمايتها. لذلك ..لم يكن غالب من شاهدو مقطع رقص الرئيس مع زوجته وداد في زواج ابنتها مستهجنين للرقص في حد ذاته..بل في تمتعه به وتجريمه بالقانون وتحريمه على الآخرين كرقص مختلط.أما نصيب الرقص النسائي الفردي فهو أسوأ بكل تأكيد.وأول ما لاحظت ذلك ..كان عند ظهور فرق شبابية تكفلت بالابقاء على الفن النوبي بتكوين جمعية دنقلا للثقافة والفنون عبر طيبة الذكر قناة هارموني..فابداعات هؤلاء الشباب ومن سار على دربهم حتى الآن بدت لي مبتورة..ذلك لمعرفتي أن الرقص النوبي بمثل ما لا يقتصر على الصفوف المتماسكة عند الرجال ..بوجود الايقاع بالأرجل والصفقة كما يشاهد في الفضائيات ..فيه رقص نسائي فردي غاية في الجمال ..لا يقل عن رقصة الرقبة والدليب ..وكل هذه الرقصات منزوية حالياً خاصة في الفضائيات..وتركت لطفلات صغيرات في المسارح لا يمكن أن يجدنها كما الكبيرات..والمسألة هنا متعلقة بسؤال أساسي وهو : هل نحن في وضع نجعل فيه تعبير المرأة عن نفسها بالرقص أمراً له ارتباط مباشر بحريتها الشخصية قبل كل شئ ؟ أم نحن في مقام من يفرض مفاهيمنا عليها بحجر حريتها ..؟ وهو سؤال يتمدد في مجالات أخرى ليس هذا مجال الحديث فيها..
ومخطئ من يظن أن الانزواء..هنا أمر دين..بمعنى أن الفتيات قد ازددن تدينا ما جعلهن ينأين عن ذلك..فإن ما تبديه الفتيات من اهتمام بإبراز جمال وجوههن وزيادته.. ومحزق لبسهن واساليب تحياتهن لبعضهن في الأماكن العامة ..صرف النظر عن وجهة نظرنا ..لم تكن أمهاتنا لترينه إلا كفراً بواحاً يسوق إلى أبواب جهنم..ومع ذلك كانت المرأة ترقص ..وتعطي الشبال .. وكان المشهد في جملته ثقافة شعب وموروث أمة.
إذاً كيف جاز لنا وصف ما جرى بالكارثة الثقافية؟
كيف لا وقد بتر جزء عزيز من ثقافتنا..كان له دوره في اثراء وجداننا بروائع الغناء مثل حسناء السباتة ووسط الدايرة وفجولي اللشوفا المسخت عوم البتقدل في جروفا..ويا خلة شفت السمحة مالت وانتنت ..وغيرها وغيرها.. وحبيتا زنوبة..ومن الأخيرة هذه يبرز وجه آخر للكارثة..فمن الطبيعي أن تظهر الرقصة الأصلية المصاحبة لها وفق تراثنا الغني ..لكن شبابنا يتبادلون رقص الأثيوبيات في اليوتيوب على موسيقاها..أما الرقصة الأصلية فلا وجود لها..وكأننا بتدخلنا تركنا تعبير الرقص وفنه في ثقافتنا للأثيوبيات ..وما أكثر الأمثلة ..وليس أقربها مشاركة الأثيوبيات للكابلي فيما يبث على فضائياتنا .. دون سودانية واحدة.
مع ذلك ..فإن التمرد على ذلك حتمي وهو وجه من وجوه الثورة على النظام ..فكما صدع الشاعر عالم عباس ب (لا) في شعره في مناسبة رسمية ..سبقته نساء كردفان في المسرح في حفل اتحاد العمال في فعالية قصد بها الترويج لحملة الرئيس الانتخابية ..فشمخت بالغناء والرقص على سجيتها ولئن سجل لمهرجان السياحة والتسوق شئ واحد في هذا المجال فهو الليلة النوبية للعامين الأخيرين حيث أمتلأ الاستاد بكل يرقص على سجيته.. وفي تراجعه سمح النظام برقص بلا روح في المسارح ..أما مجال الغناء فمعظم الأصوات صارت نسائية ..وهو اقتلاع ذكي لحق ..ولا بد لتراثنا أن يعبر عن نفسه غير مبتور ولا محجور عليه ومحمياً بالقانون ..كما حجر عليه بقانون.
أما أن يتم ذلك في إطار نظام يعادي الثقافة بإيقاف الصحف وإلغاء تسجيل المراكز الثقافية واتحاد الأدباء ..فهو من قبيل رجاء الدم في جراد العشر.
[email][email protected][/email]