أخبار السودان

الحرب على الفساد

عمر الدقير

على أحد الألواح المحفوظة عن الحضارة الهندية منذ مئات السنين، كُتب النص الآتي: “يستحيل على الإنسان ألّا يذوق طعم العسل إذا لامس لسانه، وعليه فإنه يستحيل أيضاً على من يدير أموال الملك ألّا يأخذ لنفسه منها ولو شيئاً قليلاً”، كما يُرْوَى أن الوزير إبن الفرات جَهَرَ، في خريف الدولة العباسية، بقبول الرشوة واعتبرها من أبواب تسهيل قضاء الحوائج .. فالفساد – بمعنى إساءة استخدام الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة – موجود منذ أن وجدت الحكومات حتى أصبح في العصر الحالي قضية عالمية لدرجة أن الأمم المتحدة أفردت إتفاقية خاصة لمكافحته .. وتتفاوت نسب الفساد من دولة لآخرى وفقاً للجهود التي توليها الحكومات لمواجهته والحدِّ من انتشاره، لكنَّ حقائق الحياة تثبت أن الفساد قرين الإستبداد وتوأم روحه، فكلاهما يعبر عن نزعة السطو والإستحواذ على ما يفترض أن يتشارك فيه الجميع: السلطة والثروة.

الإستبداد والفساد يتعاضدان ويتبادلان الأدوار ويوظف كلٌّ منهما الآخر لخدمته ويتساكت عن ممارساته غير السوية ويعمل على تطبيعها في الحياة العامة لتصبح من الأشياء المألوفة التي لا تستوجب الإدانة أو تثير الغضب والإحتجاج وذلك بهدف إرباك المرجعية الأخلاقية للمجتمع وتشويه نسيجه القِيَمي، حتى يصبح مجتمعاً مختل القيم تشح فيه الكوابح الأخلاقية ويفقد آليات الضبط الإجتماعي وتضعف فيه المقاومة لكل ما هو شاذ وغير سوي ويصيبه الهمود فيسهل تدجينه وتطويعه وانقياده، ولذلك إذ يبدو الإستبداد متشدداً وحاسماً تجاه معارضيه فإنه يُبدي رخاوةً وميوعةً تجاه الفساد ويتزلف إليه ويخطب وُدّهُ فيتم الزواج بين الرذلتين وتكون ثمرة هذه العلاقة الحرام منهجاً كئيباً يعادي ناموس الحياة ويشاقق الوجدان السليم ويضاد قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

خلال الأسابيع الماضية تواترت تصريحات إعلامية منسوبة لرئيس الجمهورية – وغيره من قادة نظام الإنقاذ – تعلن الحرب على الفساد، بعد أن ظلوا طوال السنوات المنسربة من مسيرة حكمهم العضوض ينكرون وجود الفساد أو يطالبون من يتحدث عنه بتقديم الدليل .. ولأن القانون في هذه البلاد مفقوء العينين ومخلوع الأضراس، وصل إنكار الفساد – أو حمايته – حد تجاهل القانون الذي سُنَّ لمكافحته بما في ذلك النص الصريح على تكوين مفوضية لمكافحة الفساد.

من المؤكد أن هذا الإعتراف المتأخر بوجود الفساد وإعلان الحرب عليه لن يكون ذا جدوى في اجتثاثه، لأنه لم يستصحب معه مخاطبة الأسباب التي أنتجت الفساد والمفسدين وفي مقدمتها نهج “التمكين” السياسي والإقتصادي الذي جعل نظام الإنقاذ أشبه بنظام الحكم الأوليغاركي في أثينا القديمة )تحالف سلطة ومال مسنود بالقمع الأمني)، ولأنه يستحيل اجتثاث غول الفساد في ظل غياب سيادة حكم القانون وغياب قواعد الشفافية والرقابة والمحاسبة والمساءلة بواسطة البرلمان المنتخب بحرية ونزاهة والقضاء المستقل والإعلام الحر والرأي العام غير المحجور عليه والمتاح له نقد المسؤول العام والمطالبة بمحاسبته، بل وإسقاطه عبر صندوق الانتخابات أو إجباره على الإستقالة كما حدث قبل أيام مع وزيرة الداخلية البريطانية التي قدمت استقالتها بعد اتهامها بتقديم معلومات مضللة للبرلمان (ما يعني اعترافها بالخطأ، واعتذارها عنه حتى لو كان دون قصد كما قالت في خطاب استقالتها)، وغادرت منصبها المرموق لتواجه المساءلة القانونية – إذا سيقت إليها – بوجهٍ مكشوفٍ عنه قناع السلطة.

لم يبتعد الفقيه القانوني مونتيسكيو عن الحقيقة حين قال: “السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة” .. والمقولة المنطقية الشهيرة “فاقد الشيء لا يعطيه” تنطبق تماماً على شعار “الحرب على الفساد” الذي ترفعه أنظمة الحكم المطلق على أسنة الرِّماح، لأن هذه الأنظمة – وإن كانت تمتلك الرِّماح ومختلف أسلحة الإبادة العضوية – تفتقر للأسلحة الأساسية اللازمة لمحاربة الفساد مثل الشفافية والنزاهة وثقافة المساءلة والمحاسبة .. ولذلك فإن الشعار المذكور الذي يتم إستدعاؤه كلما فاحت روائح الفساد وزكمت الأنوف لا يتعدى الإستهلاك الإعلامي ومحاولة امتصاص الغضب العام، وذلك بالحديث عن حالات فساد محدودة لإيهام الناس بأن ظِلَّ العصا هو العصا ذاتها، بينما لا توجد إرادة جادة لإزالة الأسباب التي جعلت من الفساد مؤسسة راسخة.

*صحيفة “أخبار الوطن” – 6 مايو 2018
تمت مصادرة العدد بواسطة جهاز الأمن
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. عليكم بهم يا ابن الدقير .. اجعلوا ليلهم نهارأ ونهارهم ليلاً.
    لقد حانت الفرصة لكنس الزبالة النتنة فلا تضيعوها.
    وفقكم الله وسدد خطاكم.

  2. الاستاذ عمر الدقير …
    سنوات من الغربة والنفس تتمنى اللقاءبكم …. عزيز المثقف الواعي الفكرة والماعون المعرفي … لك التحية وانت تكتب للاجيال لتنير الفهم الفكر والوعي العام وتصحيح الفهم الصحيح للقانون الحياتي والمعرفي …. جدا اقرأ لك وانا استفيد من طرحك النير …. وإن سمحت لي بالاضافة … الانسان لا بقيم وبلا مبادىء في الحياة يحتاج كثيرا كثيرا جدا لاعادة شخصيته وإعادة مفاهيمه كلنا نخطيء ثم نعود …. لكن ان نسلم بان الكل اخطأ وتنعدم البوصلة … فلا مناص من الوقوع في المحظور … كيف هذا القانون يتم تداوله الان وقد شرعت الحكومة فقه السترة …. وسهلت على المجرمين ان يسرقوا …. ويغتنوا ثم تقوم بمحاسبتهم …. كيف يا استاذ تسمح لي بالعبث والسرقة وبيع الضمير والذمة وتغذي مفاهيمي تجاه الفساد … ثم فجاة تقرر محاسبتي وانت من دفعني لهذا المسلك الشاذ … نحتاج كثيراً لمراجعة انفسنا والمعرفة الحقيقة بالذات يفتقدها الكثير… والوقوف مع النفس من ثوابت الايمان والاعتراف بالخطا قليلا ما نعترف باخطائنا … الفساد آفة وآفة المجتمعات السموم المعرفية من أشخاص لا دين لهم ولا علم لهم ولا ثوابت لهم خواء في خواء …. نسال الله ان يمضي كل من آذى الناس في معاشهم ولوث سلوكهم وحجر فكرهم ودمر مستقبلهم الله نسال ان ينعم علينا بوطن يسوده العدل والاحسان وطن يراعاه بنيه البررة الحادبين على امره المكتوين بناره .. السباقين لرفعته لك التحية ايها الكاتب العظيم ويقيني أن هناك الكثيرين امثالك في وطني فالغد الاتي اجمل .. فلا نامت اعين الجبناء ولا حياة للفاسدين وحتما حتما سوف ينتصر الحق يوما ما والعاقبة للمتقين والعاقبة للمصلحين شكرا للذين يبعثون فينا الامل وحب الوطن وخلق هذا التوازن النفسي شكرا اخي الفاضل … يحزنني كثيرا الصمت … والتدجين الذي يحدث كما ذكرت ومقالك فيه من التسامي وعمق المعرفة…..تحياتي ،،،

  3. عليكم بهم يا ابن الدقير .. اجعلوا ليلهم نهارأ ونهارهم ليلاً.
    لقد حانت الفرصة لكنس الزبالة النتنة فلا تضيعوها.
    وفقكم الله وسدد خطاكم.

  4. الاستاذ عمر الدقير …
    سنوات من الغربة والنفس تتمنى اللقاءبكم …. عزيز المثقف الواعي الفكرة والماعون المعرفي … لك التحية وانت تكتب للاجيال لتنير الفهم الفكر والوعي العام وتصحيح الفهم الصحيح للقانون الحياتي والمعرفي …. جدا اقرأ لك وانا استفيد من طرحك النير …. وإن سمحت لي بالاضافة … الانسان لا بقيم وبلا مبادىء في الحياة يحتاج كثيرا كثيرا جدا لاعادة شخصيته وإعادة مفاهيمه كلنا نخطيء ثم نعود …. لكن ان نسلم بان الكل اخطأ وتنعدم البوصلة … فلا مناص من الوقوع في المحظور … كيف هذا القانون يتم تداوله الان وقد شرعت الحكومة فقه السترة …. وسهلت على المجرمين ان يسرقوا …. ويغتنوا ثم تقوم بمحاسبتهم …. كيف يا استاذ تسمح لي بالعبث والسرقة وبيع الضمير والذمة وتغذي مفاهيمي تجاه الفساد … ثم فجاة تقرر محاسبتي وانت من دفعني لهذا المسلك الشاذ … نحتاج كثيراً لمراجعة انفسنا والمعرفة الحقيقة بالذات يفتقدها الكثير… والوقوف مع النفس من ثوابت الايمان والاعتراف بالخطا قليلا ما نعترف باخطائنا … الفساد آفة وآفة المجتمعات السموم المعرفية من أشخاص لا دين لهم ولا علم لهم ولا ثوابت لهم خواء في خواء …. نسال الله ان يمضي كل من آذى الناس في معاشهم ولوث سلوكهم وحجر فكرهم ودمر مستقبلهم الله نسال ان ينعم علينا بوطن يسوده العدل والاحسان وطن يراعاه بنيه البررة الحادبين على امره المكتوين بناره .. السباقين لرفعته لك التحية ايها الكاتب العظيم ويقيني أن هناك الكثيرين امثالك في وطني فالغد الاتي اجمل .. فلا نامت اعين الجبناء ولا حياة للفاسدين وحتما حتما سوف ينتصر الحق يوما ما والعاقبة للمتقين والعاقبة للمصلحين شكرا للذين يبعثون فينا الامل وحب الوطن وخلق هذا التوازن النفسي شكرا اخي الفاضل … يحزنني كثيرا الصمت … والتدجين الذي يحدث كما ذكرت ومقالك فيه من التسامي وعمق المعرفة…..تحياتي ،،،

  5. مايتم تحت شعار مكافحه الفساد هو تصفيه حسابات و صراعات تنظيميه داخل العصابه يهدف مثيريها الي تصفيه المعارضين لترشيح ود اب ذهانه فقط لا غير

  6. هل يمكن ان تبدأ بال الدقير ممن اغتنوا فى هذا العهد الانقاذى الظالم وتكون قدمت القدوة والمثال
    لو لن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها
    الكلام ساهل لكن العمل صعب جدا
    ذهابك بملف فساد ال الدقير لمفوضية مكافحة الفساد افضل من ان تريق مليون مقال صحفى لايقدم ولايؤخر

    الفساد الاخر هو فساد ابراهيم الشيخ مع اسواق ام درمان الكبرى
    هل تم ذلك بعطاء مفتوح ومنافسة شريفة ام على طريقة الانقاذييت بشغل الغمتى
    ابراهيم الشيخ ممول رئيسى لحزب المؤتمر السودانى الذى ترأسه فيجب اولا لبراء ذمتكم المالية قبل الشروع فى محاسبة الاخريين

  7. الفساد موجود والعندو دليل باب مكتبى فاتح دة الرسالة البنسمعة طولمدة 30 سنة مستحيل حرامى يخلى دليل الى الادانة وربنا عرفو بى العقل هل الموجودين فى الحكومة البيوت السا كنين فيها ورثوها هل الاموال والشركات والمزارع ورثوها هل البزخ الموجود عندهم دة الراتب الفساد موجود من اكبر الى اخر مراسلى فى الحكومة المطلوب المحاسبة لو اى وزير وقفو راتبة 3 شهور فقط كان السودان ما حصل فية كدى اصحو يا حكومة يحصل عليكم وتفقدو الكثير الان الكورة فى ملعبكم

  8. مقال جميل المخبر والمظهر
    فعلاً الفساد توأم الاستبداد
    وبالتالي لن يتم اجتثاث الفساد المالي والاداري – بل والأخلاقي – في السودان الا باجتثاث الاستبداد الذي يمثله نظام الانقاذ

  9. اولا هذا المقال ليست فيه رائحة سياسة فلماذا صودرت الجريدة؟ لانهم لا يريدون صوت الحق بل ان مافيه لا يخرج عن الاسلام الذى يلوكونه بالسنتهم ليلا و نهارا ,عليك بهم يا دقير.

    ثانيا الدجاج الالكترونى يبعد بعيد فقد ازفت الازفة و الله ناصر الشعب السودانى على لصوص الدين الاغبياء.

  10. من بربد الاستزادة عن طرح الاستاذ فعليه قراءة كتاب (( طبائع الاستبداد )) للمفكر الاسلامى عبد الرحمن الكواكبى

  11. مايتم تحت شعار مكافحه الفساد هو تصفيه حسابات و صراعات تنظيميه داخل العصابه يهدف مثيريها الي تصفيه المعارضين لترشيح ود اب ذهانه فقط لا غير

  12. هل يمكن ان تبدأ بال الدقير ممن اغتنوا فى هذا العهد الانقاذى الظالم وتكون قدمت القدوة والمثال
    لو لن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها
    الكلام ساهل لكن العمل صعب جدا
    ذهابك بملف فساد ال الدقير لمفوضية مكافحة الفساد افضل من ان تريق مليون مقال صحفى لايقدم ولايؤخر

    الفساد الاخر هو فساد ابراهيم الشيخ مع اسواق ام درمان الكبرى
    هل تم ذلك بعطاء مفتوح ومنافسة شريفة ام على طريقة الانقاذييت بشغل الغمتى
    ابراهيم الشيخ ممول رئيسى لحزب المؤتمر السودانى الذى ترأسه فيجب اولا لبراء ذمتكم المالية قبل الشروع فى محاسبة الاخريين

  13. الفساد موجود والعندو دليل باب مكتبى فاتح دة الرسالة البنسمعة طولمدة 30 سنة مستحيل حرامى يخلى دليل الى الادانة وربنا عرفو بى العقل هل الموجودين فى الحكومة البيوت السا كنين فيها ورثوها هل الاموال والشركات والمزارع ورثوها هل البزخ الموجود عندهم دة الراتب الفساد موجود من اكبر الى اخر مراسلى فى الحكومة المطلوب المحاسبة لو اى وزير وقفو راتبة 3 شهور فقط كان السودان ما حصل فية كدى اصحو يا حكومة يحصل عليكم وتفقدو الكثير الان الكورة فى ملعبكم

  14. مقال جميل المخبر والمظهر
    فعلاً الفساد توأم الاستبداد
    وبالتالي لن يتم اجتثاث الفساد المالي والاداري – بل والأخلاقي – في السودان الا باجتثاث الاستبداد الذي يمثله نظام الانقاذ

  15. اولا هذا المقال ليست فيه رائحة سياسة فلماذا صودرت الجريدة؟ لانهم لا يريدون صوت الحق بل ان مافيه لا يخرج عن الاسلام الذى يلوكونه بالسنتهم ليلا و نهارا ,عليك بهم يا دقير.

    ثانيا الدجاج الالكترونى يبعد بعيد فقد ازفت الازفة و الله ناصر الشعب السودانى على لصوص الدين الاغبياء.

  16. من بربد الاستزادة عن طرح الاستاذ فعليه قراءة كتاب (( طبائع الاستبداد )) للمفكر الاسلامى عبد الرحمن الكواكبى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..