الجزء الثالث من السرج المقلوب

عثمان يس ود السيمت
مقترح برنامج إعادة التعمير
يشمل هذا البرنامج على:
1. مقدمة
2. تقديرات الخسائر وتصنيفها
3. خطة التعمير
1. مقدمة:
من غير المتوقع ومن غير الممكن أن يقوم تعمير ما دمرته الحرب على رأي (شخص واحد) بل ينبغي أن تكون خطة التعمير عمل تقوم به عدة لجان متخصصة، على أن يكون جهد هذه اللجان متمحوراً حول (استراتيجية) واحدة متفق عليها. وهذا ما أقدمه في هذا الجزء الأخير من سلسلة مقالاتي حول الحرب. دفعني لتقديم هذا الطرح خوفي الشديد من أن يوكل أمر التعمير لذات المؤسسات المالية الخربة التي يتغلغل فيها، بل ويقودها كادر النظام البائد فتكون النتيجة نهب (ما قد يتوفر) من تدفقات مالية وقروض فتكون النتيجة غرق البلاد في ديون لا قبل لها بها دون أن نضح حجراً على حجر.
قد تكون الحرب الأهلية التي تدور رحاها في السودان الآن من أسوأ الحروب بالنظر للنتائج الكارثية التي حدثت وتلك التي تنتظر التقييم وتلك التي لم يكشف عنها بعد. فهذه الحرب التي امتدت حتى تاريخ اليوم 22 سبتمبر 2024 قد بلغت مدتها 18 شهراً. وهي مدة كفيلة بإحداث آثار وخيمة بالنظر لانفراط عقد الادارة الحكومية وغياب مؤسسات حكومية متماسكة يمكن أن تقوم مقام الدولة. بالإضافة للشلل التام الذي أصاب المؤسسات الاقتصادية الأساسية الزراعية والصناعية والتجارية. وبناءً على ذلك إنقطعت الرواتب عن كل العاملين بالدولة والقطاع الخاص في بلد كان غالب مواطنيه تحت خط الفقر بالرغم من الراتب أو المعاش الذي يتلقونه ولا يسد من إحتياجات الأسرة غير أيام قليلة من الشهر.
كما أن هذه الحرب بدأت منذ الرصاصة الأولى فيها كحرب مدن واستمرت كذلك مما أدى لفرار المواطنين بعدتكرار الوفيات والإصابات نتيجة الطلقات والدانات الطائشة. ومن أشد ما فاقم عملية الفرار والنزوح تعمد طرفي النزاع التعدي على أملاك المواطنين خاصة مساكنهم ومقتنياتهم مما أفقدهم كل مدخراتهم فأصبحوا معدمين بين ليلة وضحاها. وقد أدت عمليات تكرار النزوح لنفس الأسر أكثر من مرة نتيجة توالي سقوط المدن التي ينزحون إليها إلى حالة من العدم والإفقار غير مسبوقة، ذلك بالإضافة إلى أن المدن والقرى التي ينزحون إليها داخل السودان غير مهيأة لاستقبال تلك الأعداد الكبيرة من النازحين مع تفشي ظاهرة غلاء إيجار المساكن المتاحة فيها.
لقد أصاب الخروج المبكر لمنظومة الخدمات عن الخدمة لتفاقم مشكلة المواطن، فالخدمات الصحية لم تصمد لأيام قليلة بعد بداية الحرب وتعطلت خدمات الكهرباء وتبعتها خدمات مياه الشرب وبذلك عمت حالة من الموت المفاجئ لجميع مقومات الحياة بالمدن والكثير من القرى خاصة العاصمة وما جاورها ثم تبعتها بقية المدن دون توقف. وبالرغم من أن الكثير من المواطنين النازحين يعتمدون على تحويلات أقربائهم المغتربين ـإلا أن فشل منظومة الخدمات المصرفية والتحويلات الإليكترونية وفشل الشبكات العنكبوتية أدى لتعطل هذا المورد أيضاً فأصبح اللجوء للخارج أمراً حتمياً بالرغم عن تعذر الحصول على تأشيرات الدخول لدول الجوار خاصة مصر وأثيوبيا ودول الخليج وبقية الدول المجاورة. أدى ذلك لسلوك اللاجئين طرقاً غير آمنة للجوء فقدت خلالها أرواح كثيرة.
إن أكثر المجموعات التي عانت من كارثة الحرب هم كبار السن ومرضى الأمراض المزمنة الذين فقدوا علاجاتهم تماماً مثل مرضى السكري والضغط والسرطان وما بعد زراعة الأعضاء. كما أن العناية بالحوامل قد توقفت تماماً وتوقف برنامج التحصين للأطفال مما يهدد بعودة أمراض تمت السيطرة عليها مثل شلل الأطفال والحصبة وتفشي السل الرئوي نتيجة سوء التغذية والتكدس في المأوى ووسائل النقل. وقد فتكت لدغات الحشرات السامة والزواحف بعدد كبير من النازحين في ظل غياب تام للأمصال والعلاجات. لا أحد حتى الآن يتنبأ بما حدث لمئات أو آلاف الأطفال المبتسرين الذين فقدوا الحضانات التي كانوا يعيشون داخلها ، وآلاف مرضى العناية المكثفة الذين خرجت غرف العناية المركزة التي كانوا بها منذ الوهلة الأولى للحرب نتيجة إنقطاع التيار الكهربائي ونفاد مخزون الجازولين للمولدات الإحتياطية. لا يمكن التنبوء أيضاً بعدد المرضى الذين فقدوا حياتهم نتيجة تعطل خدمات الجراحة الطارئة والمبرمجة (الباردة).
لقد ضربت هذه الحرب النسيج الاجتماعي للسودانيين في مقتل. فقد برزت سلوكيات أخلاقية واجتماعية لم تكن متوقعة. تفشت السرقات والتعدي على أملاك الغير ونهب الممتلكات العامة والخاصة حتى طال النهب المصانع وآلياتها غير المفيدة عملياً لمن يأخذها وطال النهب المصارف ومؤسسات الدولة ومتاحفها ومؤسساتها التعليمية والخدمية وسياراتها ومنقولاتها حتى الآليات الزراعية للمشاريع الكبرى والمصانع الكبرى كمصانع السكر والنسيج، فما لم يجدوا فائدة في موجوداته تم حرقه وتدميره وكأن أعداءً غير سودانيين يقومون بتدمير بلد أجنبي.
إن التعدي على حقوق الانسان وإهدار قيمتها في هذه الحرب بلغ قدراً غير مسبوق على المستوى الوطني والإقليمي: فحالات الإغتصاب وهتك الأعراض أصبحت من يوميات الحرب التي يتحدث بها فاعلوها في وسائط التواصل الاجتماعي دون خوف أو خجل وحالات بيع النساء (السبايا) رجع بنا لقرون خلت . ومعاملة الأسرى لا يمكن أن توصف بأنها تنتمي للقرن الواحد والعشرين. وأسوأ ما حدث هو القتل والتمثيل بالجثث وقطع الرؤوس وبقر البطون وأشياء أخرى يندى لها الجبين.
ولكي تستمر هذه الحرب لجأ طرفا النزاع للتجارة بكل ما هو متاح محللاً ومحرماً وباعوا كل موجودات البلد بما فيها الآثار والتراث والوثائق ولم تسلم أي موجودات وطنية من البيع. ولقد طال البيع حتى مواد الإغاثة الضئيلة التي سمحوا بمرورها وكان المقصود بها المواطن. وعندما تنقشع هذه الحرب سيتبين حقيقة ما تم بيعه من أرض وممتلكات السودان نتيجة صفقات الأسلحة والمسيرات.
بعد مرور عام على اندلاعها في جنوب العاصمة الخرطوم، صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023، خلفت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع نحو 21 ألف قتيل، وأحدثت دمارا اقتصاديا قدرت خسائره بمليارات الدولارات، وأوجدت وضعا إنسانيا وصف بالأكثر مأساوية في العالم حيث شردت الملايين من منازلهم وأدخلت 25 مليونا في دائرة الجوع، وسط مخاوف من تحولها إلى حرب أهلية شاملة، بحسب أحدث تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات (سكاي نيوز عربية)
ورسم تقرير صدر الأحد عن الأمم المتحدة صورة قاتمة عن الأوضاع الإنسانية في البلاد. وقال التقرير إن السودان يواجه واحدة من أسرع الأزمات التي تتكشف على مستوى العالم، حيث يحتاج نحو 25 مليون شخص – منهم أكثر من 14 مليون طفل – إلى المساعدة والدعم الإنساني.
ووفقا للتقرير فإن 17.7 مليون شخص – أكثر من ثلث سكان البلاد – يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد، من بينهم 4.9 مليون شخص على حافة المجاعة. وأشار التقرير إلى فرار أكثر من 8.6 مليون شخص – حوالي 16 بالمئة من إجمالي سكان البلاد – من منازلهم منذ بدء النزاع. (كان هذا تقرير بمناسبة مرور عام على الحرب). فقد قدر الخبير الاقتصادي وائل فهمي قيمة خسائر الأصول التي دمرتها الحرب حتى ذلك الوقت، بما بين 500 إلى 700 مليار دولار، محذرا من أن يؤدي استمرار الحرب إلى المزيد من الانكماش في قواعد الإنتاج الوطنية وربما انهيار كلي في إيرادات المالية العامة مما يرفع الخسائر بشكل أكبر بكثير من التقديرات السابقة. (تقرير صدر بنهاية السنة الأولى للحرب)
وأشار فهمي إلى أن القطاع الصناعي هو الأكثر تأثرا حيث تشير التقديرات إلى فقدان نحو 75 بالمئة من وحداته الإنتاجية يليه قطاع الخدمات بنسبة 70 بالمئة فالقطاع الزراعي بنسبة 65 بالمئة.
وإلى جانب المجهود الحربي وتدمير الترسانة العسكرية، فقد شملت خسائر الحرب بنيات أساسية مادية كالجسور والسدود وشبكات نقل الكهرباء والمياهوالوقود والاتصالات والمنشآت الصحية والتعليمية والمباني العامة والقطاعات الإنتاجية والصناعية والأسواق، إضافة إلى دمار منازل وممتلكات المواطنين، وتكلفة التدهور والتلوث البيئي.
وبسبب الحرب انكمش الناتج القومي باكثر من 40 بالمئة، وتقلصت الايرادات العامة بنحو 80 بالمئة لتعتمد على طباعة النقود مع غياب التمويل الدولي، في ظل انهيار المصارف والمشاريع الانتاجية التي يعتمد عليها الاقتصاد المحلي في تمويل الايرادات.
وتجاوزت معدلات التضخم 520 بالمئة، ودخل اكثر من 40 بالمئة في دائرة البطالة بعد الحرب نتيجة لفقدان مصادر دخلهم في ظل إغلاق معظم مؤسسات الدولة والقطاع الخاص.
وتضاعفت السلع الغذائية الرئيسية بأكثر من ثلاث مرات بسبب توقف سلاسل الإمداد وانخفاض قيمة الجنيه السوداني؛ حيث يجري حاليا تداول الدولار الواحد عند 1400 جنيها، مقارنة مع 600 جنيها قبل اندلاع الحرب.
وتعرضت البنية الصناعية في البلاد؛ إلى دمار وتخريب كامل، فبالتزامن مع العمليات القتالية؛ انتشر المئات من اللصوص والمتفلتين في المناطق الصناعية ونهبوا كل شيء بما في ذلك الماكينات وأجزاؤها والمواد الخام والمخزون الإنتاجي وحتى أسقف المباني واجهزة التكييف والإضاءة.
2. تقديرات الخسائر وتصنيفها:
حتى هذه اللحظة يصعب جداً حصر الخسائر بصورة دقيقة حصراً يصلح لأن يكون إطاراً ينبني عليه برنامج دقيق للتعمير. لكن يمكن تصنيف الخسائر وتقديرها بناءً على حجم الدمار المشاهد على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
سنتبع في تصنيف الخسائر منهجاً مبنياً على الحجم المتوقع للضرر والقيمة المادية للضرر والأثر الناتج من الضرر على المواطن:
1. المؤسسات الصناعية.
2. المؤسسات الزراعية.
3. المؤسسات العامة ـ الاقتصادية والادارية للدولة.
4. الخدمات العامة:
أ. المؤسسات الصحية وصحة البيئة
ب. الكهرباء والطاقة والشبكات الناقلة.
ت. المياه.
ث. البنية التحتية مثل الطرق والجسور.
5. ممتلكات المواطنين
6. المؤسسات الأمنية.
7. المطارات والموانئ
8. الآثار الاجتماعية والنفسية للحرب.
سنحاول استعراض الضرر الواقع على كل قطاع ونسقط ذلك الضرر على أهمية إستعادة وتعمير ذلك القطاع على عودة المواطن وممارسة حياته الطبيعية:
1. المؤسسات الصناعية: قطاع الصناعة:
من الواضح أن قطاع الصناعة هو القطاع الأكثر توفيراً للوظائف للمواطنين والمقيمين، فهذا القطاع وما يتبعه من مؤسسات تجارية وخدمية ملحقة به وداعمة له يوفر القدر الأكبر من فرص العمل خاصة في المدن. ففي الخرطوم بحري (وفق صحيفة التحريرالأحد 11 أغسطس 2024) أكثر من الفي مصنع لا توجد إحصائية دقيقة لعدد العاملين بها . ويبلغ عدد العمال بالورش والصناعات الصغيرة الملحقة بالمنطقة الصناعية بحري بعشرين ألف عامل. وقدرت صحيفة الراكوبة في عدد 11 ديسمبر 2023 عدد العمال الذين تم تشريدهم من القطاع الصناعي بالعاصمة بمليون ونصف المليون عامل. وحسب نفس المصدر أنه بنهاية الشهر الثامن للحرب تم تدمير 90% من القطاع الصناعي بالبلاد وفق تصريح وزيرة الصناعة المكلفة محاسن يعقوب. وأكدت (إرم نيوز) أن خسائر القطاع الصناعي بالبلاد 50 مليار دولار وفقدان 600 ألف عامل لوظائفهم. وقدر الخبير الاقتصادي أحمد حمدان أن خسائر القطاع الصناعي في الخرطوم وبعض مناطق كردفان ودارفور بلغ ما بين 30 إلى 40 مليار دولار وقد قدر عبدالمنعم محمد محمود الأمين العام للإتحاد العربي للصادرات خسائر القطاع الصناعي بما لا يقل عن 200 مليار دولار وفي تصريحه لصحيفة العربي الجديد أن 550 مصنعاً في بحري و193 بأم درمان دمرت. وصرح عدد من الخبراء الاقتصاديين أن بعض المصانع قد نقلت نشاطها خارج السودان. ووفقاً للجزيرة نت بمناسبة مرور عام على الحرب فقد انهار قطاع الصناعة أيضًا بشكل كامل في أنحاء البلاد، ودُمِّر وتوقف 9 آلاف مصنع في ولايتي الخرطوم والجزيرة وحدهما. وانهار قطاع الصناعة بشكل كامل في أنحاء البلاد، وكانت مساهمة الصناعة في الناتج الإجمالي المحلي 21%، بينما يسهم القطاع الزراعي بنسبة 32.7%،
2. المؤسسات الزراعية:
الخراب والتدمير الذي طال القطاع الزراعي لا يتركز في بنية القطاع والقوة العاملة الفنية والادارية فقط كما هو الحال في القطاع الصناعي، وإنما يمتد ويتغلغل داخل (إرث) من الممارسة لمهنة الزراعة ويمكن تلخيصها فيما يلي:
أ. القوى العاملة الزراعية الماهرة غالبيتهم هجروا العمل لتوقف دورة الانتاج ومصدر رزقهم.
ب. الفلاحون والعمال الزراعيون الثابتون والموسميون والذين هجروا العمل لتوقف دخلهم.
ت. اللاداريون وحتى هذه اللحظة لا توجد معلومات كافية عن أماكن تواجدهم بعد توقف العمل.
ث. المزارعون، وبرغم تمسكهك بالأرض إلا أن ظروف الحرب إضطرت غالبيتهم للنزوح لأماكن آمنة خاصة وأن العمليات الحربية ضربت الولايات الزراعية الأكثر إعتماداً على الزراعة خاصة ولايات الجزيرة وسنار وغيرها.
ج. نهب وتدمير الآليات الزراعية في غالبية المشاريع الزراعية في مناطق العمليات.
ح. نهب وتدمير مخزون البذور المحسنة والتي كانت معدة للموسم الزراعي ويحتاج تعويضها لجهد علمي وزمني ومادي.
خ. نهب مخزون الأسمدة والمخصبات ومواد مكافحة الآفات الزراعية.
د. نهب وتدمير القوى اللوجستية للمشاريع الكبرى من وسائل نقل وطرق وغيرها.
ذ. نهب وتدمير محالج القطن ومعاصر الزيوت ومطاحن الغلال ومخازنها.
ر. تدمير البنية التحتية للري بالإهمال وعدم الصيانة.
ز. فقدان وتآكل فائض الإدخار الذي كان يعتمد عليه المزارع للإستعداد للموسم الزراعي.
س. فقدنا أسواقنا الخارجية والمحلية بعد أن عجزنا عن تلبية إحتياجاتها لموسمين زراعيين.
3. المؤسسات العامة ـ الاقتصادية والادارية للدولة.:
وعلى صعيد الدولة ومؤسساتها، توقف أداء دواوين الحكومة، ومؤسساتها وأجهزتها وغيرها. ولا توجد الآن حكومة فعلية تمارس صلاحياتها وسلطاتها بالكامل، وخرجت عدد من الولايات من سيطرة الدولة، وهي؛ غرب ووسط وجنوب وشرق دارفور، وجنوب كردفان وولاية الجزيرة وسنار وأجزاء من شمال كردفان والنيل الأزرق والقضارف وكل ولاية الخرطوم، وتقطعت أوصال الخدمة العامة بالبلاد، ولم تعد الوزارات في الحكومة الاتحادية ذات تواصل مع الولايات الأخرى، ولا ينساب نسق العمل الوظيفي للدولة في كثير من أرجاء السودان؛ لغياب جهاز الخدمة العامة، والشرطة، والقضاء والنيابة العامة، وإدارات التعليم، والصحة، والجمارك، والضرائب، وغيرها.وتقدر بعض المصادر أن الدمار لحق أكثر من 17 ألفًا من مباني الدولة الحكومية والخدمية.
4. الخدمات العامة:
أ. المؤسسات الصحية وصحة البيئة:
يعتبر الخراب والدمار الذي لحق بالمؤسسات الصحية نموذجاً لعمق الدمار الذي خلفته هذه الحرب حتى الآن. فبالرغم من أهمية المؤسسات الصحية في أي بلد يمر بنفس ظروف السودان في زمن الحرب إلا أن المتفق أو المتعارف عليه ضمناً أن الأطراف المتحاربة تبقي على المؤسسات الصحية بعيدة عن الاستهداف حيث أن الأطراف المتحاربة نفسها قد تلجأ إليها للعلاج. كما أن استهداف هذه المؤسسات لا يعتبر من المكاسب الميدانية التي تحتسب عند تقييم من انتصر ومن خسر. إلا أن الحرب في السودان خالفت كل ذلك وتم نهب ممنهج وتدمير وتعطيل كامل لتلك المؤسسات. كما أن خروج مؤسسات الدولة الأخرى الداعمة للقطاع الصحي قد أجهز على بقية المؤسسات الصحية حتى تلك البعيدة عن ميادين المواجهة. فالخروج المبكر لمخازن الامدادات الطبية وسلاسل التبريد وعملية الاستيراد للأدوية الحيوية والمنقذة للحياة ولوازم الجراحة والعمليات. والنزوح القسري للطواقم الطبية، كل ذلك أدى لتوقف المؤسسات الصحية عن القيام بدورها. ومن ناحية التقديرات المادية ، فبعد مرور 12 شهراً من بداية الحرب فقد طال الدمار الواسع 75% من المستشفيات والخدمات الطبية بما يكلف 15 مليار دولار، كما صرح وزير الصحة.
ب. الكهرباء والطاقة والشبكات الناقلة:
الخسائر في هذا القطاع بالغة الحيوية ولا يمكن تقديرها بدقة إلا بعد توقف الحرب تماماً. فالتوليد المائي والحراري وكافة المحطات التي تمد الشبكة القومية بالكهرباء تأثرت إما بالدمار أو الإهمال وعدم الصيانة، كما أن الشبكات الناقلة تضررت ضرراً بليغاً يحتاج لتقييم دقيق قبل أن يتم حساب الخسائر النهائية. حتى إتفاقياتنا مع دول الجوار فيما يخص الطاقة الكهربائية تعطل تماماً وقريباً ستسعى تلك الدول لتوفير سوق بديل لفوائض الكهرباء لديها. وأي محاولة لتقدير الخسائر في قطاع الطاقة والكهرباء سيكون مجرد تقديرات قد لا تقارب الحقيقة. فتدمير مصفاة الجيلي وحده عمل يتطلب إعادة تشغيله لمعجزة، وقد يكون القرار الأصوب وقتها إنشاء مصفاة جديدة وتكون التكلفة أقل. كما أننا كنا ملزمين باتفاقية تصدير نفط الجنوب عبر أراضينا وتوقف ذلك تماما، فماذا لو طالبنا الجنوب بدفع الخسائر، وهو بالتأكيد يبحث عن ممر آمن لتصدير نفطه وهذه خسارة أخرى وفقدان لمصدر للعملات الصعبة. وقد شرع الجنوب فعلاً ببناء خط ينتهي في الكاميرون.
ت. المياه:
خلال هذه الحرب فقد من تبقى من المواطنين إمدادات مياه الشرب ، وهي على شحها وعدم انتظامها قبل الحرب فقد تدهور الأمر لمستوى من عدم التوفر وعدم صلاحية ما يجلب بالتناكر لم يحدث من قبل في السودان. ومع اعتماد كثير من الآبار على الطاقة الكهربائية فقد خرجت كثير من مصادر المياه من الخدمة.
ث. البنية التحتية مثل الطرق والجسور:
لم تكن الطرق قبل الحرب في حالة مرضية سواءً أكانت الطرق داخل المدن أو الطرق القومية . إلاأن هذه الحرب قد عصفت تماماً بما تبقى منها. فالآحمال المعتمدة لتلك الطرق لم تكن مخصصة لمرور آليات عسكرية ثقيلة ولمدة طويلة . كما أن توقف القدر اليسير من الصيانة التي كانت قائمة قبل الحرب قد أتى على ما تبقى من تلك الطرق. أما الجسور فقد تم تدمير الكثير منها باستهداف مباشر كجزء من العمل العسكري كما حدث لكوبري شمبات والحلفاية وبعض جسور مدني، وهذا عمل باهظ التكلفة وتعتبر آثاره الاقتصادية والاجتماعية أسوأ.
5. ممتلكات المواطنين:
المواطن المتأثر بالحرب فقد:
• بيته.
• موجوداته من أثاث ومفروشات.
• مدخراته.
• ذكرياته.
• صلته النفسية والتاريخية ببيته
وهذه أشياء يصعب تقدير قيمتها ويستحيل استرجاعها، فصورة الوالد أو الوالدة أو الأجداد المعلقة بالجدران ولحقها التدمير، وبندقية الأسلاف التأريخية التي ربما قاوموا بها في حروب السودان ومحاولات غزوه ، والهدايا المحتفى بها معلقة على الجدران كتذكار وعبث بها من استحلوا حرمات البيوت ، كل ذلك لن يعود. حتى محاولة تقدير خسائر المباني ستبقى عملية بالغة الصعوبة للجان تقدير الخسائر. هناك عمل شبه مستحيل ينتظر الناس في هذا المجال بعد الحرب.
6. المؤسسات الأمنية:
باختصار شديد الناتج الواضح والملموس أننا فقدنا مؤسساتنا الأمنية. فلا شرطة لا أجهزة أمن ولا حتى الجيش السوداني بوضعه الذي عرف به. كل ذلك يحتاج لإعادة تكوين تامة كما لو أنه لم يكن موجوداً.
7. المطارات والموانئ:
مطار الخرطوم خرج عن الخدمة ونهبت كل أجهزته وأثاثه وموجوداته ، حتى ورش صيانة الطائرات ومستودعات قطع الغيار ومستودعات تموين الطائرات، كل ذلك لم يعد صالحاً للعمل. كما توقفت كل مطارات السودان الأخرى عن العمل، وأغلق المجال الجوي السوداني، ولا تعمل إلا مطارات بورتسودان وكسلا ومروي ودنقلا والدمازين وكادوقلي.
8. الآثار الاجتماعية والنفسية للحرب:
تقديرات الآثار النفسية والاجتماعية للحرب لا يمكن تفصيلها في مثل هذا التقرير حيث أنها تحتاج لدراسات الحالات كنماذج وتحتاج لدراسة إحصائية لا يمكن أن تتوفر حالياً.
لقد تحدثت تقارير كثيرة ومقالات في الصحف وبعد تقارير المنظمات الدولية عن حجم الخسائر، إلا أن ذلك كله يبقى كتقديرات تلزمه الدراسة الميدانية، وهذا لن يكون متاحاً قبل انتهاء الحرب. إلا أنني رأيت أن أقتطف بعض تلك التقارير علها تبرز ما نحتاجه من دراسات لتقييم هذه الكارثة:
هذه الحرب كانت إرهاصاتها شاخصة للأعين قبل انطلاق شرارتها، وها نحن اليوم إزاء فتات دولة انهارت مؤسساتها، وشُرد مواطنوها، وضاعت طمأنينتها، وضُيعت سلامة ترابها، واخترقت حتى النخاع، وغزاها مرتزِقة من كل فجٍ وملةٍ ونحلةٍ ولون، وإلى جانب خسائرها البشرية (قتلًا، وإصابة، واعتداء، وتهجيرًا) ، ودُمر أو نهب ما يفوق الـ85٪ من منازل المواطنين في العاصمة، وولاية الجزيرة، وولايات دارفور، وأكثر من 120 بنكًا في تلك الولايات.
ويقول مراقبون؛ إن السودان يحتاج في حال توقف القتال، إلى معجزة تعيد إليه تشغيل المرافق الحيوية والخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه، والصحة، والتعليم، والطرق، والمطارات، خلال عامين من العمل المكثف وخسر قطاع الطاقة ما يقارب الـ 12 مليار دولار، وبلغت خسائر البنية التحتية في 8 أشهر من الحرب نحو 60 مليار دولار، حسب تقديرات وزير المالية. ويجري إحصاء خسائر قطاعي التعليم العام والعالي اللذين توقفت مؤسساتهما بالكامل عن العمل، فنهبت الجامعات، وتحول كثير من المدارس في الولايات الآمنة إلى مراكز لإيواء النازحين، ودُمر نحو 65٪ من مدارس الخرطوم.
لم تنجُ قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية والتعدين من ذلك، فقد أدى توقف الإنتاج إلى تراجع الناتج الإجمالي القومي من 34 مليار دولار قبل الحرب إلى بضعة مليارات بعد عام من اندلاعها، وتوقع صندوق النقد أن يتجاوز انخفاض الناتج القومي الإجمالي للعام 2024 معدل 18.3%، وذلك مع تراجع عوائد التعدين وتصدير الذهب، وتوقف إنتاج النفط (أقل من عشرين ألف برميل يوميًا).
يقول صندوق النقد الدولي؛ إن الاقتصاد السوداني يواجه انكماشًا كارثيًا بنسبة تتجاوز 12% بعد تدمير رأس المال البشري، وقدرات الدولة، وتوقف الإنتاج، وانهيار القطاعات الخدمية التجارية والمالية، وتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، وفيما سبق كان القطاع الخدمي يسهم بنسبة تزيد على 40% في إجمالي الناتج المحلي.
فيما واجه السودانيون شبح العزلة عن العالم؛ بالاعتداء على المواقع الهندسية لشركات الاتصالات، وتوقفت خدمات الإنترنت والاتصال لما يقارب الشهرين في كثير من الولايات، بينما فقد قطاع النقل كل مقوماته، وتوقفت حركة النقل بنسبة 90% في كل أرجاء البلاد.
3. خطة التعمير:
تبنى خطة التعمير على الثوابت الآتية:
1. التعمير لن يكون هبة من الدولة ويجب أن يشارك فيه المواطن.
2. خطة التعمير ستتبع أولويات ضرورية.
3. سيراعى المنفعة العامة والصالح العام أكثر من المنفعة الشخصية.
4. تعمير المؤسسات العامة والخاصة سيكون عبر الجهات التي تحددها الدولة للتمويل ولن يسمح بالتمويل عن طريق الاستدانة المباشرة من مؤسسات غير سودانية أو مشتركة ولن يسمح برهن أي مؤسسة سودانية مقابل التمويل.
5. ستدعم مؤسسات وطنية سودانية بعد إعادة هيكلتها وتنظيم إداراتها خاصة في المستويات العليا والوسيطة، وتوضع لها قواعد واضحة للعمل والتمويل والضمانات.
6. قطاعات التعمير المقترحة كالآتي:
أ. القطاع الصناعي.
ب. القطاع الزراعي.
ت. قطاع البنية التحتية.
ث. قطاع الخدمات ويقصد به الصحة والتعليم فقط.
ج. القطاع السكني.
الجهات التي سيوكل إليها تنفيذ خطة التعمير:
أ. القطاع الصناعي:
سيعهد للبنك الصناعي السوداني بالقيام بتنفيذ خطة تعمير القطاع الصناعي وفق ضوابط ولوائح صارمة ودقيقة أهمها:
1) هيكلة البنك بإجراء تغيير شامل لكل الإدارة العليا والإدارات الوسيطة.
2) فرض رقابة من قبل مؤسسات مصرفية من الدول التي تقدم أعلى مساهمات إعادة التعمير.
3) تفتح ستة فروع للبنك بالأقاليم الستة الرئيسية .
4) تكون لجنة بإشراف البنك للقيام بتقدير الخسائر والأضرار بالقطاع الصناعي.
5) توفر للجنة الكوادر المناسبة برئاسة أجنبية منتدبة.
6) يقدم البنك قروض إعادة التعمير وفق الضوابط التالية وهي التي تحدد أولوية التمويل:
1. حجم مساهمة أصحاب المصنع أو الموسسة.
2. حجم العمالة وفرص العمل التي يوفرها المصنع.
3. عدد الورديات ، والأولوية لعدد الورديات.
4. حجم التمويل المطلوب ومرونة وسرعة السداد.
5. مدى أهمية الإنتاج ومساهمته المتوقعة في السداد وفي توفير متطلبات السوق والعملات الأجنبية.
ب. القطاع الزراعي:
يتولى البنك الزراعي السوداني هذا الدور ويتبع القطاع الزراعي نفس قواعد القطاع الصناعي مع وضع خاص للمشاريع الحكومية أو المشتركة. على أن تتولى الدولة القيام بتهيئة وسائل الري وتوفير الأسمدة والبذور وتهيئة المخازن والصوامع ووسائل النقل للدورة الزراعية الأولى.
ت. قطاع البنية التحتية.:
يتبع القواعد العامة أعلاه وتقع عملية إعادة تعميره على عاتق الدولة وبتمويل مختلف ينشأ له (صندوق إعادة تعمير البنية التحتية) وتقوم الإدارة المعنية بأولوة التعمير وفق الأهمية الإقتصادية.
ث. قطاع الخدمات ويقصد به الصحة والتعليم فقط.:
ينشأ صندوق إعادة تعمير الخدمات وتودع فيه التدفقات النقدية والتبرعات . وتقوم خطة التعمير على تدارك الخدمة الأوسع للناس . في السنوات الأولى للخطة سيكون العلاج والتعليم مقابل ( رسوم تعمير) معقولة تصب في صندوق تعمير القطاع.
ج. القطاع السكني.:
1. يعتمد التعمير في هذا القطاع على مجهودات المواطنين.
2. ينشأ بنك الإسكان، بنفس قواعد البنوك أعلاه.
3. تنشأ لجان (من بنك الإسكان) لتقييم وتقدير الخسائر.
4. للبنك الحق في أخذ الضمانات المصرفية الروتينية.
هذه الخطة تعتبر قواعد عامة تبنى عليها خطة التعمير وقابلة للتعديلات الضرورية من قبل الخبراء في كل مجال.