العقوبات على السودان أغنت الأقوياء على حساب الضعفاء، ومكنت المستشفيات الخاصة من تفادي التدقيق وتحقيق العقود التي استفادت منها نخبة الأمة

سيمونا فولتين

فرضت الولايات المتحدة قبل عشرين عاما حظرا تجاريا صارما على السودان، وذلك لأن الدولة الواقعة في شرق أفريقيا كانت ملاذا آمنا لأسامة بن لادن الذي عاش هناك لمدة خمس سنوات قبل طرده في عام 1996. وفي عام 2009، أصبح الرئيس عمر البشير أول رئيس دولة في سدة الرئاسة تتهمه المحكمة الجنائية الدولية، بسبب الفظائع التي ارتكبت في دارفور، حيث تقول الأمم المتحدة إن ما يصل إلى 300،000 شخص يحتمل أن يكونوا لقوا حتفهم، إضافة لتشريد الملايين منذ عام 2003، ولضمان استمرار العقوبات بفترة طويلة بعد أن ادارت البلاد ظهرها للمتطرفين.

والآن، وبعد عقدين من العزلة الاقتصادية، سمح للسودان بالانضمام مرة أخرى إلى الاقتصاد العالمي، ففي 6 أكتوبر اعلنت ادارة ترامب إنهاء العقوبات الأمريكية ضد السودان وهو تغيير في السياسة أوصت به إدارة أوباما في الأيام الأخيرة، مشيرة إلى تعاون السودان في مكافحة الإرهاب وإنهاء الصراعات الداخلية، وتأمل الإدارة الحالية في أن يشجع تطبيع العلاقات على إجراء المزيد من الاصلاحات. ومنذ ذلك الحين، أثارت وزارة الخارجية إمكانية إزالة البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولكي تفعل ذلك فإنه سيكون عليها أن تتخطى كتلة حزبية عريضة في الكونغرس الذي دعا إلى موقف متشدد نحو الخرطوم.

وكان للجزاءات نتائج متباينة، ففي حين أنها قلصت من دعم النظام للإرهاب، إلا أنها أخفقت إلى حد كبير في هدفها الآخر، وهو معاقبة وعزل نخب البلاد المسؤولة عن انتهاكات حقوق الإنسان.

وكثيرا ما ينتقد الحظر التجاري الشامل المفروض على التجارة الخارجية كأداة ساسة فجة لأنها لا تضر بأولئك الذين في السلطة، وتؤدي إلى معاناة المواطنين العاديين. وهذا ما حدث بالتأكيد في السودان. حيث استهدفت العقوبات العديد من الوكالات التي تمولها الحكومة والتي كانت توفر خدمات عامة أساسية، مثل شركة السكك الحديدية السودانية، الهيئة القومية للكهرباء، والمؤسسة العامة للبريد والبرق، وشركة الأقطان السودانية.

وفي نفس الوقت، أنشأ أعضاء الحزب الحاكم أو الأجهزة الأمنية شركات خاصة وجدت طرقا للالتفاف على العقوبات. وبفضل الوصول التفضيلي إلى العملة الصعبة، والإعفاءات الضريبية، والعقود، دفعت هذه الشركات بالشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم إلى هامش الاقتصاد، مما وسع الفوارق في الدخل ودفع المزيد من السودانيين إلى الفقر. وقال الدكتور صابر حسن، وهو اقتصادي سوداني شغل منصب محافظ البنك المركزي السوداني: “تمكنت الحكومة والكيانات المستهدفة من المناورة والالتفاف”. “ولكن الرجال والشركات الصغيرة، لا يعرفون كيفية المناورة.”

ويقدم قطاع الصحة مثالا صارخا لذلك، حيث جعلت العقوبات من الصعب أو المستحيل على مستشفى السرطان الرئيس في السودان، مركز الإشعاع والنظائر الخرطوم (مستشفى الذرة)، شراء قطع الغيار لإصلاح معدات الإشعاع، ومعظمها تم صنعها في الولايات المتحدة أو أوروبا، وعلى الرغم من أن الصفقات التي تتضمن الأجهزة الطبية معفاة من العقوبات. يقول مدراء المستشفيات أنهم كافحوا للحصول على التراخيص اللازمة من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية. مما دفعهم إلى اللجوء إلى عملاء غير رسميين، والذين بدورهم فرضوا رسوما باهظة. يقول د.الطيب وقيع الله، نائب المدير العام لمستشفى الذرة: “علينا أن نمر عبر الكثير من الوسطاء. “وهذا سيكلفنا ليس فقط المال ولكن أيضا الوقت. ويستغرق الأمر عدة أشهر لجلب قطع الغيار، في الوقت نفسه الذي يموت فيه الناس “.

ومنذ فرض الحظر، ظهرت في جميع أنحاء العاصمة الخرطوم مستشفيات خاصة، يمتلكها العديد من أفراد الجيش والشرطة والأمن القومي وحزب المؤتمر الوطني الحاكم،. ووفقا للمقابلات التي أجريت مع العشرات من الأطباء ومديري المستشفيات والمرضى والموردين، فإن هذه المؤسسات لا توفر إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية لنخبة السودان فحسب، بل توفر أيضا مصدرا للدخل لأصحابها. وبما أن الجهات الفاعلة الخاصة، وبعيدا عن التدقيق الذي فرض على الشركات المملوكة للدولة، تمكن الموالون للنظام من استيراد المعدات الطبية من شركات غربية مثل جنرال الكتريك وإلكتا وفيليبس، وجميعها حصلت على تراخيص من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية.

يقول بريان أوتوول، الذي عمل حتى وقت قريب كمستشار في مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية ، إن المكتب يفتقر إلى الموارد لمنع التراخيص من أن يستفيد منها الأشخاص الخطأ. ويضيف: “من الصعب على أوفاك المواكبة لأن من السهل تشكيل مثل هذه الشركات”. في عام 2016، تلقت أوفاك 10،000 طلب ترخيص، ولكن كان لديها فقط حوالي 30 شخصا لمعالجتها. يقول أوتول، وهو الآن زميل غير مقيم في مجلس الأطلسي: “ليس هناك ما يكفي من الناس للقيام بذلك”.

عند النظر في الترخيص، يقول أوتول، يسعى مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية للتأكد من أن المستفيدين من الترخيص ليس لديهم روابط بقائمة المواطنين المحظورين. وتضمنت القائمة عند رفع العقوبات في أكتوبر، أكثر من 200 كيان سوداني. لكن مصادر مطلعة على قطاع الأعمال في السودان تقول إن العديد من الشركات المدرجة في القائمة لم تعد نشطة، وهو ما يشير إلى أن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية كافح من أجل مواكبة التحديث في السودان.

وقال متحدث باسم وزارة الخزانة إن “وزارة الخزانة لديها” إجراءات معمول بها لمراجعة طلبات الترخيص والنظر فيها قبل اتخاذ قرار بالسماح بعمليات أخرى محظورة “.

وقال ريتشارد نيفو، وهو باحث بارز في جامعة كولومبيا، إن السودان لم يكن أولوية عليا بالنسبة للولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بإنفاذ العقوبات. “كوريا الشمالية وإيران تحصلان على المزيد من الاهتمام لأنها قضايا أكبر”.

وتشير البيانات المتاحة للجمهور إلى أن وزارة الخزانة الأمريكية قد منحت ما بين عامي 2000 و 2011 ما لا يقل عن 81 ترخيصا من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية إلى 14 شركة رعاية صحية أمريكية وأوروبية لإرسال الأجهزة الطبية إلى السودان. وردا على طلب قانون حرية المعلومات الصادر في كانون الثاني / يناير 2017 بشأن أسماء المستشفيات التي كانت طرفا في هذه المعاملات، قالت وزارة الخزانة إن هذه التفاصيل لا يمكن الإفراج عنها دون إذن لأنها قد تسبب ضررا تنافسيا.

وبدون هذه البيانات، يصعب تحديد عدد هذه التراخيص التي استفادت منها المؤسسات المرتبطة بالنخب الحاكمة في السودان، ولكن الوثائق التي حصلت عليها بلومبرغ تشير إلى أنه ليس من غير المألوف حدوث مثل ذلك، ففي عام 2008، وفقا لوثيقة واحدة، منحت شركة جنرال إلكتريك للرعاية الصحية ترخيص توريد لمستشفى الأمل، الذي يملكه جهاز الأمن الوطني، وفقا لتقارير وسائل الاعلام وأكد من قبل اثنين من الموزعين الذين يزودون المستشفى . وفي العام نفسه، حصلت شركة جنرال إلكتريك للرعاية الصحية على ترخيص لتزويد الصندوق الوطني لتعزيز الخدمات الطبية، وهي منشأة تديرها وزارة الدفاع، كما وردت شركة فيليبس لمستشفى الأمل مع معدات الأشعة. وأكد متحدث باسم شركة فيليبس هذه الصفقة، مضيفا أن الصفقة نفذت “بموجب الترخيص المناسب وعملية العناية الواجبة” وأن فيليبس لم تكن على علم بالارتباط المزعوم لهذا المستشفى مع المخابرات الوطنية والأمن السوداني في ذلك الوقت. ”

ومن الأمثلة الصارخة على هفوات مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية في السودان هو المستشفى العالمي الجديد، وهو مرفق ملمع من ستة طوابق تم الانتهاء منه مؤخرا على ضفاف نهر النيل في الخرطوم بحري. و المستشفى مشروع سوداني تركي مشترك تديره مجموعة من جهاز الامن والمخابرات المتقاعدين، وفقا لما ذكره الموردون ومسؤول بوزارة الصحة الولائية بالخرطوم. أظهرت مراجعة للقائمة الفنية لمناقصة توريد معدات الأورام إلى المستشفى الجديد أسماء الرشيد عثمان وعبد القادر يوسف، وكلاهما من ضباط جهاز الأمن والمخابرات المتقاعدين، كأعضاء في مجلس الإدارة.
وتظهر وثيقة أخرى حصلت عليها بلومبرغ أن شركة جنرال إلكتريك للرعاية الصحية قدمت عرضا في مارس 2016 لتوفير 25 مليون دولار من أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي وأجهزة التصوير المقطعي وغيرها من المعدات إلى مستشفى يونيفرسال. ولم ترد شركة جنرال إلكتريك على سؤال عما إذا كانت على علم بصلات المستشفى بالنخبة الحاكمة في السودان. ويقول متحدث باسم جنرال إلكتريك إن هذه المعاملات تمت الموافقة عليها من قبل الحكومة الأمريكية وتعكس “السياسة الأمريكية التي طال أمدها لدعم الصادرات الإنسانية بما يتسق مع المبدأ الدولي الأساسي الذي يقضي بوجوب حصول جميع الناس – بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في بلدان تخضع للعقوبات الأمريكية – على الرعاية الصحية. ”

كما وقعت شركة اليكتا، وهى شركة سويدية لتصنيع المعدات الطبية، عقدا لتوريد معدات العلاج الإشعاعي لقسم الأورام التابع لمستشفى يونيفرسال. وفي رسالة بالبريد الإلكتروني، أكد متحدث باسم شركة إليكتا أن الشركة تلقت ترخيصين من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية للتوريد لمستشفى يونيفرسال، وقالت إنها لم تكن على دراية بعلاقة المستشفى مع جهاز الأمن والمخابرات الوطني.

وزير الصحة لولاية الخرطوم، مأمون حميدة، وهو عضو بارز في الحزب الحاكم، يمتلك منشأة أخرى تسمى مستشفى الزيتونة التخصصي وقد تم تجهيزه بأحدث المعدات اليابانية والسويسرية. وأكد الموظفون خلال زيارة قام بها في ديسمبر / كانون الأول 2016 أن المستشفى دفع مقابل التعامل مع الخدمات التشخيصية للمستشفيات العامة القريبة التي تفتقر إلى المعدات اللازمة. وهكذا فإن وزير الصحة يستفيد فعليا من تدهور الرعاية الصحية العامة. لم يرد مأمون حميدة على طلبات التعليق.

ويقول الاطباء في العديد من المستشفيات العامة إنهم لا يملكون أموالا كافية لدفع تكاليف التشغيل والرواتب التنافسية للطبيب، وهى شكوى مشتركة في بلد ينفق فيه 70 % من ميزانية الدولة على الأمن. يقول الدكتور علي عربي الذي يدير مستشفى جعفر ابن عوف، مستشفى الأطفال العام في الخرطوم، والتي تتناثر حوله المعدات الغربية التالفة: “الفجوة بين المستشفيات العامة والخاصة تزداد”. وبسبب عدم القدرة على الحصول على قطع الغيار والإحباط بسبب البدائل الصينية الرخيصة والمعيبة، قام المستشفى بالتعاقد من الباطن لخدماته التشخيصية مع مؤسسات خاصة مجهزة بشكل أفضل وأكثر تكلفة مثل مستشفى الزيتونة.

وقد تخلت الولايات المتحدة عن فرض حظر تجاري شامل لصالح فرض عقوبات أكثر تحديدا، مثل تلك التي استخدمتها في جنوب السودان، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات على ثلاثة مسؤولين حكوميين حاليين وسابقين متهمين بالفظائع والفساد. وقد هددت وزارة الخارجية الامريكية بنشر مثل هذه الإجراءات ضد الكيانات السودانية إذا تراجعت البلاد عن التقدم الذي أحرزته. ويقول محللون إن ذلك سيتطلب بذل المزيد من الجهود لمراقبة الأنشطة التجارية للأهداف، وهو أمر لا يستطيع مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك) في الخزانة الامريكية القيام به بمستوى موارده الحالي.
++++

bloomberg

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..