غريم الوالي

*(يموت الجبناء مرّاتٍ عديدة قبل أن يأتي
أجلهم، أمّا الشجعان فيذوقون الموت مرّةً واحدة..).
– وليام شكسبير-
.. قالت الجدّة: زعموا في ولاية بعيدة، وفي دهرٍ حاضر، انتشى الوالي وقال: فلنشربْ نخب الانتصار.
نهدأً جميعاً، نلتفّ حولها، ونصغي للحكاية، فتتابع الجدّة:
طفحت كؤوس الندامى ولبّت النداء، بعد أن امتلأت البطون بأطايب الطعام، ورفع غندور من الغلمان الستار، فعُزِفَتْ الألحان، وأشرقت القاعة بوجوه القيان… كُرِعَتْ الخمرة على أنغام رقصة لجوار جئن من الحبشة وقندهار، بلغن البدور في الحسن والكمال، لديهن من الفنون ما يثلج الفؤاد، ويتطيبن بعطر يُسكر الألباب، يلبسن شفوفاً يبرز مفاتن الأجساد، ويدغدغ الغرائز..
ثمل الندامى، دارت الرؤوس مع الكؤوس، وتفوّهت بأقاويل رخيصة حتى دبّ الوهن في المفاصل، وأثقل الأجفان…
يشعر الوالي بالفرح، طابت نفسه، وقرّت عينه، فرجاله جابوا الآفاق، مشطوا الضياع، سبرت عيونهم أصغر الأكواخ، كشفوا الأسرار، وباتت تخشى بطشهم الديار، أرعبوا الكبير والصغير، خاف منهم القريب، وهابهم البعيد، نالوا الإتاوة من الأرامل والأيتام، ومن الباحثين عن كسرة خبز تقذفها القصور، فتشوا ساري الليل وسابل النهار، فجوا لحاء الشجر، وأحشاء الطوب الأحمر، وكانوا على استعداد لنبش القبور إنْ وشى بها أحد.
أعانه كبار التجار، ففتح أمامهم دروب الإثراء، ومدّ شيخهم بقوافل تتاجر بقوت العباد.
دعا له رجال الدين في المعابد، فضاعف لهم الهبات، وخصص لهم الخدم والحشم.
وسكت القضاة أمام الخلع والهدايا، صدقوا شاهد الزور والشاهد المأجور، ولم ينظروا بعدلٍ في مظالم العامة، وفرّق بين القبائل والعشائر، فضَعُفت ورضختْ…
وهب الأملاك للقادة الأعيان، ولم يبخل على أعوانه الذين أرسوا دعائم حكمه، ودبروا مكيدة أطاحت بالوالي السابق ومن والاه، وسيّر الدروب بالزمرد والياقوت للسلطان في الخرطوم.
أغرق مادحيه بالنعم، وادخر مافاض من خزائنه للنوائب، ولم يهتم حين رفعت العامة أيديها بالتضرع والدعاء ليصرف الإله عنها الجوع والظلم والبلاء، ويردّ من فرّ بجلده إلى الأهل والأحباب.
وسكن للنوم سعيداً، فقد ملك العبيد والزرع والضرع والمال والجواهر وعساكر غبارها يطمر البلاد، وامتدّت أحلامه إلى الولايات المجاورة، سيبسط نفوذه عليها، ويفعل بها ما يشاء، حالما يحين الوقت المناسب، ويُتخم خزائنه، حينها يفكر في الإنجاب، ويكون ولده والي الولاة، إن زُلزلت الأرض يوقفها بخبطة من قدمه، وتتكوّم النجوم تحت قدميه، إنْ أمرها بذلك ويكون عزّه بلا زوال وبقاؤه بلا فناء، وفي منتصف الليل، وخلال نومه العميق رأى رجلاً طويل القامة، أفطح الأنف، في خده الأيمن نُدبة زرقاء، يتقدّم بسيفه المسلول يريد قتله، تبهره المباغتة فهو سيد الولاية، ولا يوجد في الرعية من يرفع عينيه نحوه!..
يسأله بجرأة محنّطة: من أنت؟!
ولماذا تشهر سيفك؟!..
لا يجيب الرجل، يبقى رأسه مخشوشباً، يهمهم الوالي:
سمات هذا الرجل مألوفة لديّ، ونفسه ليس غريباً عليّ، وسيفه بقبضته المذهبة قريباً إليّ… لقد رأيته، ولكن أين؟
يمضي الرجل نحوه، وفي وجهه علامات الجد والحزم، فيفزع الوالي، ينتفض قائلاً:
ـ قفْ في مكانك، فأنت تجابه الوالي يا هذا؟
يقهقه الرجل:
لن توقف نملة، فأنت الآن بلا سلطان..
يصرخ الوالي مستنجداً، يستيقظ، يلعن هذا الحلم الكابوسي، ويهجره الكرى حتى الصباح، ومارس مهامه في النهار، أمر ونهى، عزل وعيّن، عاقب وكافأ، وكنز أثقالاً جديدة من الذهب.
وعند المساء سهر كعادته، عقد المجالس، عاشر الحسان، وجرع من الصهباء بعد شِواء الضأن، ونام هانئ البال، فتكرر الحلم، وبالتفاصيل نفسها، ففزّ، وهو يتخيّل أشباحاً إنسية وجنية تتراقص حوله هازئة، وجافاه النوم رغم المهدئات المنوّمات التي وفّرها له أطباء القصر، واستقبل النهار مرهقاً بهمهمة وعينين محمرتين، وقلب خائف، وجوانح هلعة، وذهن نهشه اختلاط الأمور، فلم يعد يميّز ماحدث، هل هو حلم أم حقيقة؟ وإنْ كان نبوءة أو رؤيا صادقة، أيقتل في فراشه بلا معارك وقتال!؟
وجدد أجهزة الحماية والإنذار لتبعد عنه الخطر القادم، واختار مراقباً يثق به، كلفه بالسهر عند باب حجرته، وأصدر أمره بأن تدخل الرعية إلى المهاجع مبكرة فالليل خلق للسكينة والسبات، والنهار خلق للحركة والمعاش، ونام بعد أن أجل مجالس السمر، ودنا من الاطمئنان والرقاد الطويل، فالمراقب من خاصته، ومن خيرة الكيزان الشجعان، يتربص حوله متشحاً بسلاحه يسترق السمع، يرتدي بزة الميدان، ويتحفز للنزال، يرصد ماهو ساكن أو متحرك حول باب الحجرة، وأبواب القصر مغلقة، والجند تطوق الأسوار، والعسس تلتقط الأخبار، ولا يعكر الهدوء سوى صوت الريح المشبعة بالرطوبة والنعاس..
وفي منتصف الليل، وخلال نومه العميق تكرر الحلم نفسه، وبالتفاصيل نفسها، ففزّ مذعوراً: أيها المراقب..
وثب المراقب المتيقظ ناطقاً: أمرك مولاي.
ـ أكنت نائماً؟
ـ لا..
ـ إذاً رأيت غريمي، ولم تتصرف..
ـ لم يمر كائن أمامي، أقسم على ذلك يا مولاي..
ـ أنت كاذب.
وركله الوالي على قفاه..
اتهمه بالتآمر، وأمر بسجنه واستبداله في الحال.
وترك مفسرو الأحلام والمنجمون الفُرش الناعمة والأحضان الدافئة، وحضروا بين يديه.
تحّدث عن حلمه وهو يرتجف، فلم ينجح في جعل حركاته عادية.
استغربوا، فصفات رجل الحلم تنطبق على الوالي نفسه، أرادوا إعلامه، خافوا غضبه، ففسروا الحلم تفسيرات لم يقنع بها، فسخر منهم قائلاً:
كنت أظن أنّ عقولكم تكشف الغيب، وتقرأ المجهول، يبدو أنّ حياة النعيم حجّرت عقولكم فامتنعت عن التفكير…
وأمهلهم سويعات لتحديد الخطر الذي يحسّ به، وإلاّ فمصيرهم كمصير المراقب.
فتشاوروا، ربطوا بين تكرر الرؤيا وصدقها، فالرؤيا الصادقة كرامة للصالحين، وإنْ كذبوا رؤياه سيدفنهم أحياء، فأجمعوا على وجود رجل في الولاية يحمل الصفات التي ذكرها الوالي، يريد قتله والاستيلاء على مركزه..
ارتاح الوالي لهذا التفسير، فهو يُرضي ظنونه، وأحضر قائد الجند:
ـ أيها القائد ، الولاية في خطر…
ـ عفوك مولاي، تقارير رجالنا لم تسجل حادثة تزعزع الأمان!
بعصبية أطلعه على المستجدات.
استغرب القائد، فهو المتتبع لسكان الولاية، من أهالي الوبر إلى أهالي المدر والمطارد للخارجين على القانون من متمردين ولصوص وشذاذ ورُعاع وقطّاع طرق وفارين من الجندية، ولم يجد رجلاً بالصفات المذكورة سوى الوالي نفسه، لكنه خشي أن يخبره بما يجول في خاطره، وهو العارف بغلظة طباعه، وهيجانه لأتفه الأسباب، سيسيء الظن به، ويعزله.
وجمع القائد الأعوان والأعيان لتعبئة الطاقات وفوجئت الجند بصفات الغريم، لكنها آثرت الصمت والسلامة، ووعدت بتمزيق الغريم إرباً إرباً…
ودارت تفتش عنه، تسأل عابري السبيل، تتفحّص الوجوه، تراقب المعابر، والوافدين، سلكت سُبل التوبيخ والمراوغة والتعنيف مع العامة… انتهكت المحرمات، لم تفرق بين مومس وبتول، وبين حبلى ومرضعة، وعاثت فساداً..
بألم ابتلعت العامة مرارة الإهانة.
ترحّمت على الوالي السابق، ودعت له بطيب الثرى وسعة المغفرة، وجالت في خلدها ظنون حول تلك الصفات، إنْ أظهرتها سلخت الجند جلدها، وقد خبرت قسوتها أيام المهدية العصيبة وحملات السوق إلى الجندية والتفتيش عن الميرة وتجميع حصص الوالي..
عادت الجند منكسة البيارق..
بدت عليها علامات الجهد والإعياء…
غضب القائد، جرد معاونيه من النياشين والأوسمة، لم يبيضوا وجهه، صرخ بهم:
كنت أظن أنكم أبصر من هدهد
ـ بلغ الوالي من الغضب عتياً،اهتز كمحموم يصاول رجفة، وقال:
لبس الحرير واللعب بالدنانير قضى على مهارتكم الحربية.
وأمر بقطع أرزاق الجند، وأعلن عن جائزة لمن يجد غريمه، أكياس تتكدس فيها الجينهات الذهبية الكيزانية..
دار مناديه يبشر بها في الساحات والأزقة والأسواق!
خطبت الأعيان في العامة، تحمّست حتى بحّ صوتها، لم ينتقل من حماسها للعامة سوى القليل القليل..
استهلّت وجوه العامة، وتعالت في صدورها خفقات تبشر بزوال الكروب.
ونام الوالي غاضباً، وتكرر الحلم، ففزّ صائحاً، يتفصّد العرق من جبينه، وعلى صوته برق سلاح المراقب، وانتصب أمامه:
ـ أين الغريم يا مولاي.؟
ـ إذاً رأيته أيها المراقب؟!
ـ لا..
ـ كنت شارداً أيها السافل؟!
ـ عفوك مولاي لم أشردْ ولم أغفل..
وصفعه، وألحقه بسابقه.
في اجتماع طارئ، جمع أعوانه، والحاجة إلى النوم تنهكه، تفضح قوته، فلم تكن قوته إلاّ قشراً يغلّف باطنه المهزوز، أمطر الاجتماع عجزاً وخيبة، فغيّر الجائزة، وقال:
ـ سأعين من يمسك غريمي خازناً للمال والغِلال..
تُشحن مخاوفه بخوف جديد!..
أيقن أنّ تلك الأحداث طلق لمخاضٍ آتٍ بجريمة عاجلة، وامتزجت في ذهنه خيالات ورؤى تدفعه إلى مسالك الجنون.
وفي كهف مهجور انتظمت لقاءات، قال المنظمّ فيها لشباب سئموا من حياة العفونة والركود.
ـ أبشروا، انهياره سيختصر المراحل..
وقيل الكثير الكثير..
وفي جو مصحوب بالترقب والخوف جاء المساء، اقترب موعد الحلم، ارتبك الوالي بخوفٍ متعاظم، فالمنايا تترصّده!…
ربما هو عمل سحر، ولن يفلَّ السحر إلا السِّحر.
وملأ السحرة المكان، أعملوا قدراتهم، لم يجدوا أثراً لعفريت أو لسحر.
وبخّر رجال الدين والكجور غرف القصر، واستعانوا من شر ما في الأرض، وما يخرج منها ومن شر ما يدبّ عليها.
أحاط مخدعه بالحرس، يرأسهم آمريودّه، خوّله بقطع عنق من يجده يحوم حوله..
وخمدت حياة اللهو في القصر، فلا جوارٍ ولا قيان، ولا شراب ولا لذيذ طعام، لا أفراح ولا ساعات ملاح، الأضواء، وحدها ساطعة لتفضح النشاز.
الأرق سيف بتّار يُشحذ أمامه، يجعله يراجع سنيناً مضت بمآسٍ ودم لحبش وبدو وقرعان، نهب وسطو وتواريخ مرعبة، سواد ومنكرات قربته من السلطان وهزت ملائكة السماء.
ارتجف، وقرر أن يفعل شيئاً في الصباح.
بيأس تساءلت زوجته، وهي ترى شحوبه:
أين دواء هذا الداء؟!
يصمت الأطباء، وتجزم عيونهم:
مرض الوهم ليس له دواء..
وفي منتصف الليل، تكرر الحلم، يقترب الرجل شاهراً سيفه، يتشجع الوالي يسأله:
من أنت؟!
يقهقه الرجل بسخرية:
قه قه قه….
ويرعد:
الآثام شوشت دماغك، فنسيتني، لن أسكت عنك بعد الآن..
ويتقدم لفصل رأسه برائحة نتنة، يتوسل الوالي خائفاً…
دعْ حياتي، وخذْ ملكي كله..
يشتعل الرجل غضباً، يضع السيف على عنق الوالي، تصميم هائج مقابل استسلام خانع في لحظة تداهرت، يبتلع الوالي فيها لعابه، يحاول الكلام، يضغط السيف على عنقه أكثر، تضيق أنفاسه، فيفز من نومه مذعوراً، يترك مخدعه، يخرج إلى البهو، تواجهه مرآة القصر الكبيرة يرى فيها رجلاً بديناً طويل القامة، أفطح الأنف، على خده الأيمن ندبة زرقاء، يتخذ الوالي موقع دفاع عن النفس، ويحدق فيه، يتخذ الرجل الموقع نفسه، ويحدق في الوالي، يفتح الوالي فمه مستنجداً، يفتح الرجل فمه، فيبتعد الوالي خشية تلقي ضربة منه، يصرخ يا آمر الحرس، الغريم هنا…
وبين غمضة عين وأختها يترك آمر الحرس مكمنه، يقدّم رجْلاً ويؤخر أخرى:
إنها مؤامرة.. ولن يشبعها رأس الوالي، ستلتهم رؤوس علية القوم!
وصرخ بالحرس: الغريم في البهو، فاقتلوه…
يهرع الحرس بين نائم ومستيقظ، يقتحم البهو في بربرة رعناء، يجد رجلاً بالصفات التي ذكرها الآمر، ينقضّ عليه بسرعة كلمح البرق، ويخرج معلناً للآمر:
ـ أرديناه قتيلاً يا سيدي..
يهدأ الآمر يتقدمّ نحو مكان القتيل، يجده مزقاً وأشلاء، رؤيتها تحقن الناظر بالألم، يرسل الخبر إلى قائد الجند مفتخراً.
وهمس حارس في أذن رفيقه، والشك يتشعّب في داخله:
أرأيت الشبه الكبير بين الوالي والغريم.
يجيبه بقناعة مفتعلة:
يخلق أربعيناً من الشبه.
يصمتا لمجيء قائد الجند، ودخوله البهو مرفوع الرأس، يسرع ليبشّر الوالي بما جرى، لم يجد الوالي.
بحث عنه، في الغرف الداخلية، وفي سراديب وممرات القصر، لم يجده!
أعلن اختفاءه، نصب نفسه والياً، ريثما يعود الوالي المفقود…
وتوقفت الجدّة عن الكلام، قلنا بصوت واحد:
وماذا جرى بعد أيتها الجدة؟!!..
قالت الجدّة بتثاؤب:
ـ سأسكت عن الكلام، وأترككم للنوم والأحلام.
وهجعنا نحاول حل ألغاز الحكاية.
[email][email protected][/email]
يموت الكتاب المغمورين ذيك يا دكطور مرّاتٍ عديدة قبل أن يأتي أجلهم، أمّا الكتاب فيذوقون الموت مرّةً واحدة..).
– سميره دنيا-