من كان منكم بلا حب، فليرجمني بحجر، أو بياسمينة!

غادة السمان

عيد العشاق كل يوم: غداً عيد العشاق في الغرب، ومنذ أيام وباريس ترتدي قلادات من الأزهار وتزين نفسها برسوم القلوب على القمصان واقراص الحلوى والشوكولاتة المعدة بصورة قلب كما الأقراط الذهبية والماسية والأساور والميداليات. والمطاعم تستعد للاحتفال بالموسيقى والرقص طوال الليل. وتحتفل بذلك ـ بتحفظ ـ بعض الأقطار العربية، ولكن عيد العشاق حاضر كل يوم من ايام العاشق ولياليه.. والمظاهر المادية للاحتفال التي قد تغيب او تشحب في بعض عالمنا العربي لا تعني افتقارنا إلى الحب، والشعراء شهود على ذلك لأنهم يرسمون «الخط البياني» لنبض القلب على أوراق لا تحترق إلا بنار الأشواق. والشعر العربي التراثي زاخر بنبض القلب العربي العاشق وإيقاعه الجميل منذ أقدم العصور.. ولذا سأبدأ وقفتي اليوم مع الحب (في إجازة من الحرب!) بدءاً بالشعر التراثي الموزون المقفى ربما لأنني عاشقة من عشاق تراثنا.. بعد غربلته!

لماذا «روميو وجولييت» لا «قيس وليلى»؟

لن أفهم يوماً لماذا تستورد بعض الكتابات العربية نماذج غربية في الغرام وعالمنا العربي يزخر بها حتى اليوم.. ربما في حياة يومية شبه سرية.. أو شعرية علنية.
لدينا قيس وليلى وكُثيّر عزة و»ديك الجن» الحمصي الذي أحرق حبيبته حين خانته وجعل من رمادها كأساً يثمل به وهو يشرب، في اسطورة عربية جميلة، وما أكثر قصص العشاق في تراثنا في حاضرنا. قصص يعلنها الادباء العرب وبعض الاديبات وتنطلق صرخات الاعلان عن الحب ونبتهج لايقاعها وشحناتها في زمن الكراهية والأذى والقتل المجاني.. والخوف الاجتماعي. وهذه وقفة افتتحها بشعر اجدادنا التراثيين الموزون المقفى ولكن العصري بروحه ونبضه.
وبرقةٍ تلامس الشعر تؤكد بروين حبيب: نقرأ كتباً عمرها قرون ولا نشعر بعمرها أبداً ولا بعمر من كتبها ولا بجنسه، تماماً كالحب حين يرمي سهامه في قلوبنا، تنهض الحياة في كل خلية من خلايانا وتحتفل بكل شيء فينا وحولنا.

لا ذنوب للمحبوب!

يكتب «لسان الدين بن الخطيب» في لحظة غفران عاشق: إن يكونَ جار وخابَ الأمل/وفؤادُ الصبر بالشوق يذوب/فهو للنفس حبيب أول/ليس في الحب لمحبوب ذنوب..
وينتحب العباس بن الأحنف: «أبكي الذين أذاقوني مودتهم/حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا/واستنهضوني فلما قمتُ منتصباً/بثقل ما حمّلوا من ودهم قعدوا!!
ويترنح أبو نواس ثملاً وينشد: أتراه يدق عن كل وصف/لطف جسمانك المكون نوراً/ما رأينا مثال وجهك موجوداً/ولا شبهاً ولا تصويراً.
ويضيف بتحرر عصري: نضت عنها القميص لصب ماء/فورد وجهها فرط الحياء/وقابلت الهواء وقد تعرت/بمعتدل أرق من الهواء/فلما ان قضت وطراً، وهمّت/على عجل الى اخذ الرداء..
ماذا حدث وقتئذ؟ رأتْ شخص الرقيب يدنو!! والشعر (الغرامي) العربي التراثي يكاد لا يخلو من شخص (الرقيب) او (الواشي) او «العازل» وهو ما يكاد يغيب عن شعرنا المعاصر..
ويقول «الشريف الرضي»: هامت بك العين لم تتبع سواها هوى/من عَلم العين ان القلب يهواك..

الوفاء للشعر الموزون المقفى

هذا النمط من الوفاء للموزون المقفى هو فعل حب لتراثنا، يرفد الابداع، كما لدى عمر أبو ريشة وبدوي الجبل وما زال ذلك التيار يسري في الدورة الدموية الابداعية ونجده لدى الشاعر المعاصر اللبناني/البريطاني حافظ محفوظ الذي ما زال يكتب قصائده بالموزون المقفى من دون ان يخون ايقاع العصر.
لغته وشعره مثال جميل على الزواج بين الأصالة والمعاصرة..
نبدأ بروائع «بدوي الجبل» معاتباً: فما يُشتهى خداك إلا لأنني/تركت على خديك إثمي وأوزاري/وما اسكرتْ عيناكِ غلا لأنني سكبت بجفنيك الغويّين اسراري..
ونلحظ هنا أن الشاعر العربي يحاول دائماً اقناع نفسه في غمرة خيبته بالحب، انه هو أعاد خلق المحبوب على طريقة «انتيجون» وبرنارد شو والحبيبة بدونه لا احد!!
اما عمر أبو ريشة فيقول لجارة المقعد في طائرة (والمكان عصري وليس مضرب قبيلة): وحيالي غادة تلعب في /شعرها المائج غنجاً ودلالاً/طلعة ريّا، وشيء باهر/أجمال؟ جل ان يُسمى جمالاً/كل حرف زَلّ عن مرشقها/نثر الطيب يميناً وشمالاً..

النص الظريف وحافظ محفوظ

ونلتقي بحافظ محفوظ معلناً ان الحب هو اللص الظريف لا أرسين لوبين سارق المجوهرات بل السارق للقلوب.
ينشد:
قلب للحب.. إن الحب قهار/لص ظريف وكذاب وغدار/يلهو بأفئدة العشاق يُلقِمها/ناراً ويتركها تشقى وتحتار/كأنه بهلوان عازف طرباً/على المشاعر، والآهاتُ أوتارُ/ يا حب خفف على العشاق لوعتهم/وانشر حَنانكَ فالتعذيب جزار/الحب كالموت حتمي فلا أحد/منه نجا او ازيحت عنه أخطارُ»..
ولا مفر من وقفة مع «كاهن الحب» نزار قباني الذي كتب قصائد رائعة في الحب بلغة الياسمين.
يقول نزار متحسراً على زمن الشباب بمناسبة لقائه بجميلة شابة زارته في لندن مترعة بالصبا والاشواق الحارة:
آه لو كنا التقينا في دمشق الشاب يا سيدتي/حين كان الورد أستاذي/وكان الفل أستاذي/وكان الشعر أستاذي/وأستاذي بياض الياسمين/ليتني خبأتُ في خصرك ناياً عربياً/وعصافير.. وعلمتك ما لا تعلمين..
وأختم بنص لي قرر ان يدس بنفسه هنا بتواضع:
حين اكتبُ عنكَ/ارقب محبرتي بذهول/ومطر دافئ يهطل داخلها/وأرى الحبر يتحول الى بحر/وأصابعي الى قوس قزح/وأحزاني الى عصافير/وقلمي الى غصن زيتون/وورقتي الى فضاء/وجسدي الى سحابة..
وأهمس أيضاً:
الديمقراطية؟ نعم بالتأكيد/ولكن ماذا تفعل بمجنونة مثلي/تصوّت باستمرار لديكتاتورية حبك؟
إنها وقفة مختزلة اليوم في اجازة من الهم العربي!
ومن كان منكم بلا حب، فليرمني بحجر، أو بياسمينة دمشقية!

من كان منكم بلا حب، فليرجمني بحجر، أو بياسمينة!

غادة السمان
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..