خسران بداية انقلاب الإنقاذ المبين .. أو ترق كل الدماء ..!!

في رائعته الخالدة ( مائة عام من العزلة ) يروي الكولومبي ( جبرائيل جارسيا ماركيز) قصة أهل قرية ماكوندو المنعزلة عندما دخلوا لأول مرة السينما التي أسسها أحد الوافدين . ففي تلك الليلة قام البطل بتضحيات وأعمال بطولية خارقة حتى قتل في آخر الفيلم . فخرج أهل ماكوندو و ظلوا يبكونه طوال الليل . وفي الليلة التالية لذلك ذهبوا الى السينما و لكن ما أن بدأ العرض حتى أطل عليهم البطل الذي قتل في الليلة السابقة بابتسامة عذبة . لم يتمالك الاهالي اعصابهم فهاجوا وحطموا اثاث السينما بحجة انهم في غنى عن تلك المهزلة . فلديهم ما يكفي من المآسي والشجون وليسوا بحاجة الى اهدار عواطفهم في مآسي الآخرين . خاصة اذا كانت تلك المآسي وهمية ومجرد العوبة خبيثة . في مطلع تسعينات القرن الماضي فوجئنا ذات ضحى بمجموعة من الطلاب الهائجين من زملائنا بمدرسة خورطقت الثانوية يقومون بتحطيم مجموعة التماثيل الجميلة التي تنتشر في أماكن متفرقة من المدرسة المترامية الأطراف . كانوا يحملون سيوفاً ومعاول كثيرة ويهللون ويكبرون خلف أستاذ للكيمياء يدعى أستاذ ( علي ) . في ذلك الوقت كانت الفنون مادة تدرس بشكل رسمي ضمن المقررات الدراسية وكانت لها قاعات واسعة محتشدة بكل المعينات والأدوات الضرورية لتدريسها وصقل مواهب الفنانين من الطلاب . وكان بالمدرسة معلمين على درجة عالية من التأهيل الاكاديمي والاخلاقي والخيالي والنفسي يدرسون الفنون والموسيقا ويشحذون مخيلات الطلاب ويحلّقون بهم عالياً في سماوات ليوناردو دافنشي ومايكل انجلو وبابلو بيكاسو وسلفادور دالي. فبينما كانت المقررات الدراسية الأخرى تعمل على حشو ادمغة الطلاب بالمعلومات التي كانت نتاج خيال وتفكير الآخرين كانت الفنون والموسيقا تحفز دواخل الطلاب وتحاول قذفهم في مدارات الخيال الذي لا نهاية له . ذلك الخيال الذي ينتج الأفكار وينظر الى نتاج أفكار الآخرين بعين الشك والنقد ولا ينظر إليها كمسلمات مقدسة يجب حفظها وترديدها وتقديسها فقط . فكما يقول آلبرت اينشتاين : ( المؤشر الصحيح للذكاء ليس المعرفة بل الخيال ) . و مصدر الهام اينشتاين نفسه كان مجرد مقطوعة موسيقية عندما انتهى عازفها من أدائها ذهب اليه اينشتاين وهنأه قائلاً : ( الآن فقط تأكدت أن الله موجود . فلا يمكن أن يحدث كل هذا الجمال والتناغم صدفة ما لم يكن هناك خالق يدبر الأمور ويزنها ) .
منذ واقعة ذات التماثيل تلك بدأ النشاط الثقافي والأدبي والفني في اضمحلال بمدرسة خورطقت . يبست الكثير من مواهب الطلاب وجفت ينابيع الابداع بداخلهم . انقسم الطلاب الى ( أمنجية ) و ( أنتجية ) وسفهاء وأنصار سنة وأنصار البهجة والمسرة و أنصار لا شيء من أهل الله الساذجين . ثم بدأت تغزو عقول الطلاب الغضة ثقافة وقيم جديدة لتحل محل القيم القديمة التي بارت ولم يعد لها ثمن في سوق ( الله أكبر ) .
صار ينظر الى الغناء والرسم والعزف بمنظار العيب وتعاطيهما بمنظار الخطيئة . وصارت المدرسة أقرب الى معسكر للجنود منه الى دار للعلم . بدأت الأناشيد الجهادية تحل محل الليالي الثقافية . اناشيد واهازيج على شاكلة ( أو ترق كل الدماء ). ولذلك عندما قامت الحرب في الخليج كان الجو النفسي بالمدرسة مهيأ لترديد هتافات عندما اتذكرها الآن اعجب من تلك التركيبة النفسية التي أوحت الى مؤلفيها بتأليفها وحقنها فى أدمغة الطلاب . كما أعجب من الدوافع الغريبة التي كانت تدفع أولئك الغرباء لتحريض الطلاب للخروج في مظاهرات لتأييد أفعال ( صدام حسين ) الخرقاء الإجرامية باحتلاله الكويت وإطلاقه صواريخ اسكوت السوفيتية على الرياض وآبار البترول السعودية . كانت بعض الهتافات تطلب صراحة من صدام ضرب مصالح وبنى تحتية لدول شقيقة وصديقة معظم مواطنيها من عباد الله المسلمين . حدث تحول كيميائي كبير بنفوس الناس وخاصة الطلاب اليافعين . وحلت عواطف بديلة محل عواطفهم النبيلة . كنا ننتظر اخبار العاشرة بالتلفزيون على أحر من الجمر . كان المذيع عندما يخبر أن صاروخاً اطلق من العراق صوب المملكة العربية السعودية تنفرج أسارير الحضور. ويصاب الناس بخيبة أمل عندما يضيف المذيع قائلاً بأن بطاريات صواريخ باتريوت قد فجرت الصاروخ في السماء .
استبيحت دواخل الآخرين ومساحاتهم الخاصة بلا رأفة أو رحمة وتركت نهباً للعواصف والتعامل بردود الأفعال فصاروا يعتقدون أن الاشياء هي الاشياء وفق الصورة الذهنية الجديدة الممنتجة. وردود الأفعال ومظاهر السلوك صارت هي العنوان والجواز الذي يقبل أو يرفض من قبل ممثلي العناية الإلهية الجدد على أرض السودان . الصيام الجماعي والليالي الجهادية وصلاة التهجد كانت هي جوازات المرور التى تصعد بالمرء الى مراقي ارتقى إليها بعضهم منذ ذلك الزمان ولم ينزلوا الى يوم الناس هذا .
وما حدث بمدرسة خورطقت الثانوية من تفاعلات وتناقضات وتحولات اجتماعية وثقافية هائلة منذ ذلك الحين يمكن أن يكون مثالاً لما حدث في كل المؤسسات الأخرى والكيانات التي تضم أصنافاً كثيرة من الناس . لقد تسارعت الأحداث في البلاد منذ ذلك الحين بصورة دراماتيكية حتى أن أكثر المتشائمين لم يكن يتصور أن تصير الحال الى ما هي عليه اليوم . ولا يستطيع أعتى المحللين والمراقبين التنبؤ بما سيصير عليه الحال غداً أو بعد غد. والسبب في كل ذلك هو الاعتقاد بأن قراراً ما أو تكتيكاً معيناً يمكن ان يعدل من سير الأمور ويغير مجرى التاريخ أو يوقف تدفق نهره. ننسى دائماً الاسقاطات النفسية للشعارات والسياسات العامة في يوم ما على عباد الله المواطنين . فالهدر النفسي والاستلاب العاطفي الذي تمارسه مغامرات التجريب الخاطئة وغير الحكيمة هو الذي يحدد مسار المجتمعات ومصائرها . لأن الناس الذين يشعرون ويحبون ويكرهون هم الذين يعملون ويبدعون وبالتالي ينتجون .
فالحضارة هي حضارة الأمم والتقدم هو تقدم الشعوب والانجازات هي مخرجات ابداع الناس وليس الساسة . الناس الذين يسعون في الأرض ويتعاملون انطلاقاً من منظومة معقدة من التفاعلات الداخلية النفسية والتراكمات العاطفية التي تختزن في الرأس وتشكل الكثير من الخرائط خاصة بالأشياء والحقائق كما ينبغي أن تكون . وهكذا فإن توجهات البشر وسلوكياتهم تنبثق من تلك الخرائط فتكون الطريقة التي يرون بها الأشياء هي المصدر للطريقة التي يفكرون بها ويتصرفون . ولذلك فاليوم عندما نرى شخصاً أو جهة ما تقوم بالاعتذار عن تصرف أو حادثة حدثت قبل مائة عام فالغرض من ذلك ليس المحاسبة أو العقاب أو التوبة بل الهدف هو تغيير الآثار النفسية والسلوكية والتوجهات التي ترتبت عليها خرائط الأشياء في دواخل المعتذر إليهم فتشوهت مصادر تفكيرهم ورؤيتهم للأمور .

مصعب الريح رشاش
التيار

تعليق واحد

  1. إعادة صياغة … الإنسان السوداني …. وفق رؤية أصحاب الشقيقة النفسية … والعين… الواحدة …….. فعلت بهذا الوطن … مافعلت … وهوت به في درك سحيق … وأرثته هذه الكم من المآسي الماثلة أمامنا عيان بيان ……. وهى نتاج طبيعى لساسة … غرباء عن هذا الوطن فهما …وقيم وموروث …….

    ولكن كن يقينا … هذه الأمة كطائر فينيق … ستقوم من ركامها وخطامها رغم أنف خطرفات .. وهلوسات هؤلاء القوم فقط يبقى الفجر أسير التماسك والإتفعال رغم سياسة البكاء التى بدأت واضحة في تصرفات هؤلاء الحاكمين…. بعد هذه السنين الحالكة من ظلمهم وغيهم

  2. من اغرب الاشياء ان من تفوهوا بهذه الكلمات الخبيثة كانوا يرددون شعار (هي لله هي لله ) وقد تشابهت قلوبهم بقلوب )الخوارج الذين خرجوا علي باب مدينة العلم كرم الله وجهه … فقد قال اسلافهم ( لاحكم الا لله )وقد نجح اسلافهم الخوارج في اغتيال سيدنا الامام علي ابن ابي طالب رضي الله عنه ورغم كل الاحاديث التي تثبت ان قاتله هو اشقي الاخرين وثاني اشقي خلق الله بعد عاقر ناقة سيدنا صالح عليه السلام .ان الاسلامويين للمتابع لهم في كل احاديثهم وافكارهم يجد انهم لايؤمنون بالحوار ولا بتقبل الراي وتكفير كل من يخالفهم واستباحة دمه … ويدل ذلك علي جهلهم بالدين الاسلامي ومذاهبه وهم اصلا لايعتدون بمذهب الا مذهب الضرورة الذي يطبقونه في كل شيء وهو يشبه مذهب التقية لدي الشيعة فالاثنان من مصدر واحد هو التعصب والرعونة الفكرية والاستبداد .يتباكب اهل المؤتمر الوطني بالعروبة والاسلام وقد نسيوا كل الكلمات الخبيثة التي كان يطلقها (كلب الثورة النباح ) يونس محمود هههههه ابتسمت عندما كتبت اسمه (يونس ومحمود) فهل كان له من اسمه نصيب )

    يونس صاحب الحوت . والمحمود من الله والبشر هو سيد الخلق صلي الله عليه وسلم لم يلفظ بذاءة قط في حياته رغم كل ما راي من عذاب تهول منه الجبال وقد مدحه رب العوة جل جلاله( وانك لعلي خلق عظيم) ان صغار الاسنان سفاء الحلام يعتبرون الدين شعارا يرفع فقط وان نية رفع الشعار خير من العمل وان بالنية فقط لن تحاسب يوم الدين.لقد اساؤوا لرجل كان بكلمة واحدة منه لوجد ثاني يوم كل ابناء السودان في الخليج ينامون في شوارع الخرطوم وهم واسرهم التي تعد بالملايين هو المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله . لقد اساؤوا لكل بلدان الخليج حقدا وحسدا لما انعم الله بهم عليه . لقد كان المرحوم عبد الله السريع ابنا من ابناء السودان البررة وهو السفير الكويتي بالخرطوم شيد وبني وفرح وحزن مع ابناء الشعب السوداني فما كان جزاءه من احفاد ابن سلول وقطرئ بن الفجأة غير السب واللعن له ولدولته . ماذا كان نصيب بلد استاذهم ومربيهم حسن البناء وسيد قطب وابو الاعلاي المودودي مصر التي نهلوا منها العلم والفكر الخبيث مصر التي دعمهم اخوانها المتاسلمين فصار كبيرها فرعون هذا العصر وقد اسأؤوا اليه ابلغ الاساءات وحاولوا اغتياله لان حياته سبب تدمير الامة الاسلامية ولنفرض انه سيئا فهل الرد هو السد العالي وضرب القاهرة بالكيماوي كم اسلاميا تضم القاهرة كم ارهابيا اخا لهم يقطن قاهرة المعز . وهل يعتقدون ان صدام حسين كان مهدي الزمان المنتظر ام هو الحقد الدفين للنجاح .

  3. الاخ مصعب الريح …..أكثر من ثلثى دويلة الكويت حاليا تحت الاحتلال الأمريكي ….قال الراحل صدام حسين رحمه الله : اذا ذهب العراق ذهبت المنطقة ….والآن منطقة الخليج العربي مهددة من الفرس في ايران (الامارات والبحرين والمنطقة الشرقية من السعودية وما أحداث اليمن ببعيدة عن أيادي هؤلاء الفرس ) فالمنطقة الآن سيتم تقسيمها بين الولايات المتحدة ودولة الفرس في ايران …..فليتحمل مشايخ الخليج نتيجة تآمرهم على الجبل (العراق ) الذى كان يحميهم من الرياح المجوسية الصفراء القادمة من قم وطهران
    في بلاد فارس ……ولننظر الآن بعين التفحص والنظرة الثاقبة للأمور وما يحدث حاليا في منطقة الخليج العربي من هو الذي أفعاله اجرامية وخرقاء يا أخ مصعب ؟…..لقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ;( اللهم اجعل بيننا وبين الفرس جبلا من نار لا يصلوا الينا ولا نصل اليهم ) ….لقد كان العراق بقوته بمثابة الجبل الذي يمنع الفرس من التطاول على العرب والتجاوز عليهم ……فليعض أمراء الخليج أصابعهم من الندم فلن يدافع عنهم أحد حتى هم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم………

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..