الأزمة الفكرية والأخلاقية والنفسية للإخوان السودانيين

صلاح شعيب
يعايش الإخوان السودانيون ثلاث أزمات، الأولي فكرية، والثانية أخلاقية، أما الثالثة فنفسية. فالواضح أن سياستهم منذ حين كشفت عن تخوف من مصير قاتم يظنون أنهم سيواجهونه بعد الفشل في تحقيق شرعيتهم، وإنجاز الاستقرار في الدولة. وكشفت هذه السياسة الإسلاموية المستميتة أيضا عن الفشل في إقناع السواد الأعظم من المواطنين بأن النظام على حق معهم، ومع الله. مؤخراً، زاد هذا التخوف حراك الإخوان السياسي ـ المضطرب أصلا ـ تخبطا فوق تخبط. ولهذا نشدوا تجريب عدد من التكتيكات السياسية لتحقيق ما يصبون إليه، وهو الحفاظ على السلطة مع تشطير كل جسم معارض لهم إلى نصفين، أو عشرة مثلما هي حالة الحزب الاتحادي، وإلى عشرين في حالة الحركات المسلحة.
وتمثلت آخر هذه التكتيكات الإخوانية لمعالجة أزمة الحكم الاسلاموي التي تماهت مع أزمة الوطن في تدبير الوثبة التي تمت في الظلام. ولكنها حتى الآن لم تنتج إلا حقيقة أن الراحل الترابي قد كتب سريا خطابها الغامض، وفقا لتصريحات الدكتور مصطفى عثمان. ولا يتخيل المراقب المنصف أن توصيات الوثبة المزمع إذاعتها على الناس قريبا ستفك ضائقة النظام، والبلاد معا. فهي كانت، كما اتضح بعد وفاة الترابي، محاولة لإدماج جهد الشعبي في الوطني عبر حالة تأخذ الحوار المسرحي مع نثارات قوى سياسية ملكت إدعاء جهلولا بأنها تمثل السودانيين.
باختصار، الإستراتيجية التي يتبعها النظام للتعامل مع هذه التخوفات الوجودية تخلو من مجهود مفكر سياسي حصيف لم تتوفر عليه البلاد منذ تولي الإخوان السلطة. ونحن حين نستخدم كلمة “مفكر سياسي” هنا نعني بالضرورة ذلك المفكر الذي يستلهم تأملاً خلاقاً يستجيب لتحديات الواقع، ويحقق تطلعات المواطنين، ويرسخ تقدم البلاد، ويحفظ استقرارها، ويقيم أعمدة العدل والمساواة، ويسعد مواطنيها إن لم يحطهم بالرفاهية. بل إنه الأحرى لذلك المفكر أن يفجر طاقات المدن، والقري، ويستثمر ثرواتها، ويطور المتحقق من النسيج الاجتماعي، وينجز غير ذلك من لوازم الحكم الرشيد. أما أن يتم تحوير كلمة “مفكر سياسي” لدى الإسلامويين، وحصر وظيفته في تحقيق مكاسب أيديولوجية في فئة معينة فذلك هو إما نوع من التخليط في فهم وظيفة الفكر، أو شكل من أشكال الاحتيال السقيم على العامة والعقلاء معا.
فمن الجائز أن يقول كتاب الإخوان إن البلاد لم تنجب مفكرا، أو عالما بالدين، مثل الترابي. ولكن يبقى هذا النبس مجرد إنشاء لا يقوم على ساقين، أو هو بداهةً تنطع بلا وعي كافٍ. ذلك أن جهد المفكر يقاس بالثمر الذي يَيْنِعُ في شجرة فكره، وليس بالتدمير الذي يحققه لمعطيات البلاد الواعدة، ذلك مثلما لو أن الثورة تقاس بما أنجزت، لا بما سببت من إخفاقات، أو كوارث. فإذا كان الإخوان السودانيون قد حققوا نموذجا راشدا للحكم الإسلامي بعيدا عن فجورهم في الخصومة إزاء بعضهم بعضا، وإزاء الآخرين، وبعيدا عن الاستبداد، والفشل في تحقيق ثورات اجتماعية، واقتصادية، وزراعية، وصناعية، وتجارية، لحق علينا الإشادة بمفكرهم الجهبوذ وفكرهم المستنير. ولكننا في الواقع حصدنا الحنظل السياسي طيلة ربع قرن مضى مع المكابرة بأنه عين التفاح. ومن هنا نجمت الأزمة الأخلاقية التي يواجهها الإخوان في ارتباطها العضوي بالأزمة الفكرية، فيما نجم عن ذلك أيضا الانفصام النفسي، والشخصي، بين الولاء للوطن أم للأيديولوجيا، للذات أم لمصلحة التنظيم، للمصلحة الوطنية أم الفئوية، وهلم جرا.
ليس هناك أي مجال في الحياة آخر كاشف للغش مثل السياسة. ولذلك كان مصير الطغاة، دائما، النبذ في مزبلة التاريخ ولو بعد حين. فالسودانيون محاصرون اليوم بمنهج إسلاموي في الحكم، استبدادي بالمقاربة، لا يعير الأخلاق التي تعاهدوا عليها عقديا، ووضعيا، أدنى التفاتة. ولعل الذين يطبقون هذا المنهج في أوساط السودانيين مجموعة تُمارس السياسة ليس بالشكل التقليدي الذي عهدناه، وإنما بالشكل الذي يقدم مصلحة الفئة علي حساب مصلحة الغالبية السودانية. فأي إسلامي داعم للنظام اليوم يتباري مع زميل آخر له في “تجويد” الخداع، لا الإبداع في إظهار القيم السياسية المثمرة، ناهيك عن الدينية. فالسياسي الإسلاموي موكولٌ إليه، وفقا لنهج التنظيم، المساهمة في الحفاظ على استبداد النظام، وليس بناء، وتنمية، القدرات المتنوعة للمكون الوطني. وواجب الصحافيين، والكتاب، الإسلاميين يتمظهر في ترسيخ التبسيط المخل للقضايا، وتشتيت اهتمامات الجمهور في التناولات التي لا تسهم البتة في حل قضايا الناس الجوهرية. وواجب رجال الأمن يتبدى في إهانة كرامة المواطن، ومنعه من مزاولة حرياته. ووظيفة قياديي الخدمة في الجهاز الإداري للدولة صارت أدعى للتشريف وليس التكليف، بل هي البحث أتمه عن النفوذ، والثروة، والجاه.
بالنسبة للإخوان في حزب المؤتمر الشعبي، وجماعة غازي صلاح الدين، وجماعة صادق عبدالله عبد الماجد، ومجموعة الإحياء والتجديد “الوديعة”، ومنبر السلام العادل، وتيار في حركة العدل والمساواة، وجماعة ود إبراهيم ويوسف الكودة، وآخرين دونهم، فهم لا يختلفون في شئ مع المؤتمر الوطني من حيث المرجعية الفكرية، وتصور تنزيل لوازمها على أرض الواقع. فقط هناك اختلاف حول اقتراح التكنيك، والتكتيك، المتبعين لتطبيق الشريعة الاسلامية. فكل هذه التيارات الإسلاموية تهدف إلى تحقيق شئ واحد، وهو تحكيم بناء الدولة الاسلامية بصورة أخرى. أي إعادة إنتاج التجربة بشكل جديد ربما ينتهي إلى أن يكون أسوأ من الواقع الماثل، إذا وصلوا منفردين للسلطة مرة أخرى. تكتيكياً قد ينجح الإسلاميون المعارضون هنا وهناك في الدخول في تحالفات جديدة للمعارضة، ولكنهم سيصلون إلى طريق مسدود في خاتم المطاف وإن بعد أربعة عقود. ومهما بلغ تحايلهم في تجديد الخطاب الاسلاموي فإن الواقع السوداني سيهزم منطلقاتهم الأيديولوجية، وهذه الفرضية نتاج درس لا يسمح الحيز بالاستطراد حولها. والسؤال هو ماذا يريد بقية الإسلاميين الذين يصدرون من موقع المعارضة؟ تحقيق العلمانية مثلا؟ أم فصل الدين عن الدولة؟
اعتقد أنك إن سألت أي قيادي داخل هذه التيارات الاسلاموية فإنه سيقول لك بخفة متناهية إنه يروم تحقيق دولة المواطنة! وإذا سألته عن فصل الدين عن الدولة فبالغ ما يبلغه في الرد هو أنه سيقول إن ذاك أمر يحدده الشعب. أما هو فليس لديه إجابة قاطعة غير الاستذكاء عليك. إنهم يتمارون في الكتابة، وانتاج “القروبات” التي فيها يتظارفون، والمنتديات السياسية، والحوارات الصحفية، والإذاعية، والتلفزيونية. ولكنهم يستبطنون تحقيق مشروع إسلاموي آخر يظنون أنه سينجح في تربة السودان.
المشكلة العضوية التي تواجه المؤتمر الوطني، علي الدوام، وكذلك الجماعات الإسلامية التي خرجت من رحمه المتسخ، هي أن التركيبة السودانية، وظروف العصر، ستكون حجار عثرة أمام مسارهم الخادع، كما أثبتت تجربة ربع القرن الأخيرة، وقبلها تجربة تطبيق الشريعة الإسلامية في فترة مايو، وهناك تجارب فاشلة في بلدان أخرى. وإذا عدنا للوراء لوجدنا أن تجربة الدستور الإسلامي التي حاولت القوى الطائفية بالتعاون مع جبهة الميثاق تمريرها عبر البرلمان ما بعد أكتوبر تسببت، ضمن عوامل أخرى، في ولوجنا عصر الاستبداد المايوي. ربما يحتاج الإسلاموي إلى تأهيل أكاديمي لمعرفة دقائق، وأسرار “الداتا السودانية” في تشعباتها الفكرية، والأيديولوجية، والنفسية، والاجتماعية والثقافية، والفنية، عوضا عن تجريب قيادة الدراجة فوق سطح البحر.
[email][email protected][/email]
فهم وتحليل في عمق الكارثة والشخصيه الكيزانيه
It is a so perfect analysis that written with compassion and integrity. I admire you Ustaz Salah for your intellectual capacity. God helps you.
البكاء على اللبن المسكوب لا يكفي يا غندور وشوفو ليكم طريقة تنهوh بيها حياتكم قبل ما يشيعوكم باللعنة زي الترابي والذي لم يجري حول السلطة بس وبرضو حول أفراز عقدوا النفسية
سألوا مدمن لعب الميسر(القمار) عما استفاد منه طوال فترة لعبه: قال لقد تحسنت امضائاتى كثيرا عن قبل واصبحت اجيد الامضاء بسرعه وبصوره جميله . سألوه ماذا تعنى؟ قال كنت اغامر بك شئ طوال فترة حياتى وامضى فى دفتر القمار عند فقدى لشئ كتعهد منى بالدفع لاحقا,حتى لم يتبقى لى شئ امتلكه والان اصبحت مشردا بلا مأوى ولا انيس.ولكن امتلك امضاء رائع لكثرت الامضاءات التى سجلتها.
فهذه اازمة السودانيين غامروا بببلادهم ووتركوها وسلموها لدولة لكيزان 27 سنه وفى النهايه جنوا السراب واصبحوا افضل من يمتشقوا الاقلام: كتابتا وتحليلا وتفنيطا وتمحيصا لاى حقائق تحدث لوطننا (بدون ان تحرك فينا قيد انمله- كأنها ليست بلادنا). واصبحت كتاباتنا تملاء كل فراغات الدنيا ابداعا ادبيا ونثنى على بعضنا البعض كل الثناءعليها. مبروك عليكم وعلى هذاالابداع والتقدم.