جهود رسمية وأهلية للحد من ظاهرة الرق الحديث في السودان

صلاح الدين مصطفى
أثار تقريرأعده خبراء في الأمم المتحدة موضوع الرق الحديث. حيث كشف التقرير أن الملايين في العالم وبينهم عدد كبير من الأطفال هم ضحايا الرق والاستعباد في العصر الحديث، ودخل السودان ضمن أكثر عشر دول تعاني من هذا الأمر. وبحسب الدراسة يخضع نحو 1.1 في المئة من سكان السودان أي ما يقدر بنحو 429 ألف شخص للعبودية.
ووقع ممثلون عن عدة ديانات من بينها الإسلام، إعلانا في الأسبوع الماضي في الفتيكان من أجل استئصال الرق الحديث.
وتشمل العبودية الحديثة «العبودية التقليدية والعمل القسري في المنازل والاستغلال والزواج القسري للفتيات والاستغلال الجنسي، والتجنيد القسري للأطفال لاستخدامهم في النزاعات المسلحة».
وتتضمن العبودية المعاصرة في السودان بحسب التقرير استغلال النساء والأطفال في الأعمال المنزلية واستغلالهن في تجارة الجنس وتزويج الأطفال قسرا.
التعذيب مقابل المال
ووردت تقارير متزايدة عن بيع طالبي اللجوء واللاجئين من اريتريا لمهربين مصريين من قبل جماعات سودانية، ويقول التقرير إن المهربين كثيرا ما يعذبون ضحاياهم للحصول على مبالغ كبيرة من المال من أقارب الضحايا.
الحديث والجدل حول الرق بمفهومه التقليدي في السودان لم يتوقف رغم عدم وجود هذه الظاهرة بشكل واضح الآن. ويعزي كثير من السودانيين إنفصال جنوب السودان إلى شعور المواطنين الجنوبيين بالإضطهاد في وطنهم وتصنيفهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وظهر هذا الشعور في مقولات عديدة للقادة الجنوبيين، الأمر الذي أدى لأن يصّوت أبناء جنوب السودان للإنفصال بنسبة كبيرة أدت في نهاية الأمر لفقدان البلد لثلث مساحتها.
يقول الشاعر والكاتب فضيلي جماع في مقال له نشره قبل فترة على صفحته في الفيسبوك وتناقلته المواقع وشبكات التواصل الإجتماعي:»أكاد أجزم أنّ الرق في مفهومه العام عند الكثيرين موجود في هذا البلد، استبدلت آليات ممارسته فقط بأساليب أخرى جديدة. الرق ما زال طافحاً، ورائحته المنتنة تزكم الأنوف في تصرفات الكثيرين وبخاصة النخبة المتعلمة، وتقود لعبة الرق دولة الإسلامويين المسماة جزافاً بالإنقاذ وهي التي حفرت لمصير هذا البلد وما تزال تحفر له حفرة ستكون قبراً لها».
ويعود جماع للتاريخ الحديث للسودان ليؤكد وجهة نظره حيث يقول:»في غمرة سعي السودانيين لنيل استقلالهم من بريطانيا، وقد ارتفعت أصوات الأحرار إبان وبعد الحربين العظميين في العالم كله بالقضاء على منظومة الرق كتب زعماء الطوائف الدينية الثلاث في السودان: علي الميرغني والشريف الهندي وعبد الرحمن المهدي عريضة للحاكم العام يطالبون فيها بريطانيا بعدولها عن فكرة إعطاء الأرقاء من بني جلدتهم حقهم في أن يكونوا بشراً أحراراً. وساقوا ذرائع وأسباب لا تقنع طفلاً ناهيك أن تقنع ممثل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والتي كان برلمانها آنذاك يكتظ بالمنادين بمحاربة الرق في العالم كله».
وأصدر القيادي والمفكر الراحل وسكرتير الحزب الشيوعي السابق محمد إبراهيم نقد كتابا عن هذا الموضوع بعنوان «علاقات الرق في المجتمع السوداني» صدرت طبعته الأولى في العام 1995. وأثار جدلا بين مؤيد لما جاء فيه ومشكك ورافض للظاهرة من الأساس.
ووفقا لإحصاءات حكومية حديثة، فإن الأطفال العاملين في السوق تقدر نسبتهم بـ 5٪ وذلك بسبب الضغوط الاقتصادية، وهي النسبة المعتمدة وفق آخر إحصائيات تمت للأمر في العام 2013. وورد في إحصاءات المجلس القومي لرعاية الطفولة بالخطة الخمسية الثانية في 2012، أن نسبة الأطفال العاملين للفئة العمرية (10-14) سنة وصلت 22,6 ٪ من إجمالي العاملين في السودان، بينما بلغت نسبة الأطفال العاملين في الفئة ما بين (15 ـ 19) سنة إلى أكثر من ثلاثين في المئة.
ثلاث دول عربية ضمن العشر
الأسوأ في عمالة الأطفال
وفي العام الماضي وضع تقرير صادر عن مؤسسة «مابلكروفت» ثلاث دول عربية ضمن قائمة الدول العشر الأكثر سوءا لناحية عمالة الأطفال واستخدامهم في مهن خطيرة وصعبة، وهي الصومال والسودان واليمن، مشيرا إلى أن الفقر هو الدافع الرئيسي خلف قرار العائلات بإرسال الأطفال إلى تلك المهن لتأمين مورد رزق إضافي.
وتبذل جهود رسمية وأهلية في السودان للحد من هذه الظاهرة ولا يمضي شهر حتى تقام ورشة عمل أو مؤتمر لتسليط الضوء عليها وبضغط المنظمات الأهلية حدث تطور في القوانين.
وصادق السودان على اتفاقيتي العمل رقم 138 الخاصة بالسن الأدنى للإستخدام لعام 1973 واتفاقية العمل رقم 182 لسنة 1999 المتعلقة بأسوأ أشكال عمل الأطفال، كما صادق السودان على اتفاقية الطفل عام 1990.
لكن رغم ذلك تنتشر عمالة الأطفال لأسباب متعلقة بثقافة وتقاليد المجتمع الذي يعتبر العمل للطفل تدريبا له وتدرجا في تحمل المسؤولية، حيث يعمل تلاميذ المدارس في العطلة، كما تجبر الظروف الإقتصادية العديد من الأسر لجعل أبنائها يعملون.
وفي تعليقه على هذا التقرير، يرى ساطع الحاج وهو محام وناشط أن مثل هذه التقارير تكون في الغالب غير دقيقـــة ولا تأخذ في الإعتبار ثقافة البلد المعين وقيمه الدينية والإقتصادية والإجتماعية وتتقاطع فيها الأجندات.
ويقول إن الســـودان والدول العربية والإسلامية عموما تختلف عن الدول الأوروبيـــة، وبالنســـبة لعـــمالة الأطفال- مثلا- فإن معظم العـــمالة الموجـــودة في السودان لا تصــل إلى مرحـــلة الظاهـــرة، كما أن تعريف الطفل في الشريعـــة الإسلامــية يخـــتلف عن القـــانون، وربما يكون من بلغ الرابعة عشرة من عمره ليس طفلا من وجهـــة نظر الإسلام.
ويعتقد ساطع الحاج أن موضوع عمالة الأطفال في السودان لا يشكل هاجسا بالنظر إلى الظروف الإقتصادية والإجتماعية التي يمر بها الناس هنا ويرى أن الموضوع يجب النظر إليه من خلال هذا الإطار.
وبالنسبة لزواج الأطفال فقد كشفت دراسة عن إرتفاع ملحوظ في نسب هذه الظاهرة في السودان، مما تسبب في فقدان ما بين 60٪ و70٪ من البنات فرصهن في التعليم في عدد من ولايات السودان، وأن مفهوم زواج البنت مبكراً من أجل سترها هو الطاغي لدى معظم المجتمعات التي شملتها الدراسة.
الدراسة التي أجراها المجلس القومي لرعاية الطفولة في السودان وهو منظمة حكومية، كانت في الفترة من تموز/يوليو 2012 إلى كانون الثاني/يناير 2013، وهي تمثل جزءاً من دراسة عالمية تمولها اليونيسيف بهدف فهم الأعراف الاجتماعية حول زواج الأطفال.
تزايد زواج الأطفال
وأوضحت الدراسة أن زواج الأطفال في السودان شهد زيادة في الفترة من 2006 إلى 2010 مما حد من فرص التعلم للبنات بنسبة 58٪ في جنوب دارفور و61٪ في ولاية الخرطوم و71٪ في شرق دارفور.
وشملت الدراسة ست ولايات في السودان هي الخرطوم، والقضارف، وجنوب وغرب وشرق ووسط دارفور.
وأثارت هيئة علماء السودان جدلا كثيفا في هذا الموضوع عندما دعا أمينها العام البروفيسور محمد عثمان صالح إلى عدم منع زواج القاصرات باعتباره يحقق منافع كثيرة، وقال إن الإسلام لا يمنع زواج الصغيرة وإنه مباح. وأشار إلى أن الإسلام يحث الشباب على الزواج لصونه من الانحراف وأي مخاطر تنجم من العزوبية وتحقيقاً للسعادة وحفظاً للنسل. وأوضح أن الإسلام يعتبر الطفولة دون بلوغ الحلم، والمسؤولية تأتي ببلوغ سن الرجولة للصبيان والأنوثة للمرأة، مؤكداً أن زواج الصغيرات فيه كثير من المخاطر وفيه منافع أيضاً.
وقوبلت هذه الأقوال بجدل ورفض من الناشطين ضد الظاهرة.
وتقول الدكتورة ناهد محمد الحسن المتخصصة في علم النفس والناشطة في هذا المجال إن الإشكالات التي يتسبّب فيها زواج القصّر أكثر من أن تعرّف وأشمل من أن تقتصر على المرأة وحدها، وأعقد من أن يشملها بحث وحيد مع كل هذه التقاطعات التي يجتمع فيها الديني بالثقافي بالاجتماعي بالاقتصادي.
وترى إن الّذين يتحدّثون عن جاهزيّة الفتاة للزواج بعد البلوغ باعتبار النضج الجسدي قيد التطوّر يهملون النضج النّفسي الضروري للتواؤم مع تعقيدات الزواج العلائقيّة والأموميّة والقانونيّة.
ويعود المحامي ساطع الحاج للقول إن كل فتاة بلغت الحلم في الإسلام هي ليست طفلة، ويرى أن هذا إعتبار مقبول في الأوساط الإسلامية ويمكن إقراره بشكل عام، لكن هناك أشياء يجب النظر إليها مثل ضرورة أن تكمل البنت تعليمها وأن تصبح قادرة على تحمل المسؤولية ويرى أن الظروف والقيم الإجتماعية في السودان نفسه مختلفة، فهنالك مناطق تصبح فيها الفتاة جاهزة لتحمل هذه المسؤوليات في سن مبكرة، ويقول إن هذه الأمر لا يصح فيه إطلاق حكم واحد ويجب أن ينظر إليه من خلال الحالات المحددة، فهناك حالت شاذة لا ينبغي القياس عليها ويرى أن الموضوع في السودان لا يرقى لمرتبة الرق كما جاء في التقرير.
وبخصوس الأطفال النازحين تقول الدكتورة ناهد محمد الحسن إن منظمة اليونيسيف أوردت أن نصف النازحين في السودان من الأطفال، وهنالك 1.8 مليون منهم في ولاية الخرطوم ويعيش 250.000 منهم في معسكرات صممت خصيصا لهم بينما يتحلق البعض في الأحزمة العشوائية حول المدن.
وتقول إن فــــي معســـكري دار السلام وجبل اولياء اللذين تم انشاؤهما في 1994م بالخرطوم، يعاني الأطفال ظروفا سيئة «كل 9 أطفال من أصل عشرة بين عمر6-14» سنة لم يدخلوا المدرسة اطلاقا لعدم توفر التسهيلات التعليمية بالإضافة لإعتماد الأسرة على عمالة الأطفال من أجل العيش.
غالبية المتسربين
من التعليم فتيات

وتشير إلى أن غالبية المتسربين من التعليم هم من الفتيات بسبب الزواج المبكر أو عدم المساواة النوعية أو أفضلية الفتيات كعاملات في المنازل.
وتسلط د.ناهد الضوء على ظاهرة أخرى متعلقة باستغلال الأطفال وتقول «وفقا لدراسة اجتماعية لحصر وتحلــــيل أوضاع واحتيــاجات أطفال الهجن العائدين من دول الخليج قام بها مركز دراسات المجتمع «مدا» تحت إشراف البروفسور حسن محمد صالح ومجموعة من الباحثين بالتعاون مع المجلس القومي لرعاية الطفولة ومكتب اليونيسيف/ السودان في تشرين الثاني/نوفمبر 2006، فإن ظاهرة استخدام الأطفال في سباقات الهجن بدأت في العام 1980 حيث كان السودان وبنغلاديش وباكستان والهند وغيرها من الدول الفقيرة هدفا مباشرا لإستجلاب الأطفال لهذا النوع من المسابقات .
وتقول إن الدراسة أجريت في ولايات كسلا والبحر الأحمر والقضارف ونهر النيل على عينة من 654 طفلا من الذين سبق لهم المشاركة في سباقات الهجن بدول الخليج، وقد كان متوسط عمرهم أثناء المشاركة 8.90 بإنحراف معياري 4.07 مما يعني صغر سن المشاركين.
وإضافة للإصابات الجسدية فقد لوحظ على الأطفال الخوف والحرج من التصريح بحالتهم الصحية والنفسية وأكدت نسبة عالية من الأطفال أنهم عاشوا في سكن رديء إلى متوسط وانهم عانوا من صعوبة المهام الموكولة إليهم في فترة التدريب والإستعداد للسباق، حيث أشار أغلبهم إلى تعرضهم للضرب والتهديد والتجويع في حالة الإخلال بالضوابط والأوامر المفروضة عليهم من قبل المضمرين، إضافة إلى الإجبار على السهر للعناية بالإبل والتدريب ليلا.
الإتجار بالبشر
وشكّل موضوع الإتجار بالبشر هاجسا كبيرا للحكومة السودانية واستضافت الخرطوم قبل أشهر المؤتمر الإقليمي لمكافحة الإتجار بالبشر وتهريبهم في منطقة القرن الأفريقي، بمشاركة دول عربية وأوروبية ومنظمات إقليمية وأممية.
ونجح المؤتمر في تسليط الضوء على الظاهرة حيث قدمت إيطاليا دعما كبيرا للسودان بهدف توفير الحماية للاجئين وطالبي اللجوء السياسي في شرق الســودان والخرطوم، والقضاء على الإتجار بالبشر وعمليات التهريب.
وللحدّ من الظاهرة، صادق البرلمان السوداني في كانون الثاني/يناير الماضي على قانون لمكافحة الإتجار بالبشر تراوحت عقوباته ما بين الإعدام والسجن من 5 إلى 20 عاماً بحقّ من يتوّرط في مثل تلك الجرائم.

صلاح الدين مصطفى
القدس العربي

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..