يمكننا أن نقول لا

“لا ثقل لأمريكا في مصر” هكذا يعنون ستيفين سيمون، المدير التنفيذي للمعهد العالمي للدراسات الاستراتيجية بالولايات المتحدة، مقاله المنشور بجريدة النيويورك تايمز يوم الاثنين الموافق التاسع عشر من أغسطس. وفي مقاله المختصر، يندد سيمون بتراجع الدور الإمريكي في مصر، ويتوقع خروج مصر من حرملك السلطان الأمريكي وتحررها من التبعية التاريخية التي صبغت وجه علاقاتها الإقليمية والخارجية وحتى شئونها الداخلية على مدار عقود.
فبمعونة زهيدة لا تتجاوز 1.3 مليار دولار، استطاعت أمريكا أن تيمم سفن السياسات المصرية المتعاقبة شطر البيت الأبيض، وهو مبلغ زهيد إذا ما قورن بحجم دولة كمصر وثقلها التاريخي والقومي. كما أن هذه المنح المشروطة لا تذهب عادة إلى جيوب الفقراء ولا تخصص لإجراء إصلاحات سياسية أو اقتصادية ملموسة.
فمقابل منحتها المشروطة، استطاعت أمريكا أن تؤمن حدود إسرائيل وأن تحارب ما اصطلح على تسميته إرهابا في مؤتمر شرم الشيخ عام 1995، كما استطاعت أن تجعل ممر مصر الملاحي مفتوحا دائما أمام سفنها العابرة للمصالح نحو أي بقعة زيت أو أي دولة مارقة. استطاعت أن تفعل ذلك في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، كما استطاعت أن تستخدم السلاح نفسه في إقناع الرئيس المعزول محمد مرسي بمساعدتها على بسط طاولة حوار طال فضها بين حركة حماس وإسرائيل.
ورغم أن تلك المنحة قد تم تخصيصها لخدمة المصالح الاستراتيجية بين البلدين، إلا أن حكام مصر المتعاقبين لم يستخدموها عادة في هذا الغرض، بل وتحدوا الإملاءات الأمريكية أحيانا لا سيما فيما يتعلق بتعميق حقوق الإنسان وتعزيز العملية الديمقراطية. فعلها مبارك عام 1993، حينما رفض تهديدات بيل كلينتون عندما لوح الأخير بقطع المساعدات العسكرية عن مصر إن لم يسارع النظام بإجراء إصلاحات تشريعية ملموسة، واضطر البيت الأبيض للتراجع عن تهديداته بعد تعنت القيادة المصرية وانتقادات الجمهوريين لسياسات ساكن البيت الأبيض الجديد.
ولم تفلح إدارة بوش فيما أخفقت فيه إدارة كلينتون، إذ قام مبارك بالقبض على غريمه السياسي الأوحد أيمن نور وتلفيق التهم له وإلقائه في غياهب الدكتاتورية بعدما تعرضت كونداليزا رايس لممارساته القمعية وطالبته بالمزيد من الحريات السياسية لا سيما لأحزاب المعارضة. صحيح أن تلك الضغوط أسفرت عن تعديلات طفيفة في قانون الانتخابات، إلا أنه سرعان ما تم تجاوزها بسبب الأزمة المالية التي تعرضت لها البلاد والتي أعقبتها مظاهرات عارمة انتهت بسقوط الطاغية.
واستمر مسلسل الفشل في السياسات الأمريكية بعد تولي الرئيس محمد مرسي الذي رفض الانصياع للضغوط الأمريكية التي مارستها إدارة الرئيس أوباما على إدارته فيما يتعلق بحالة الانقسام التي كرستها سياسات الإخوان في البلاد رغم أنه لوح بالمعونة وبقرض من البنك الدولي يبلغ 4.8 مليار دولار كانت الخزينة المصرية في أشد الحاجة إليها في تلك المرحلة السياسية الصعبة من تاريخ البلاد.
ثم يقارن المحلل البارز المعونة الأمريكية المشروطة بالمنحة التي قدمها الاتحاد الأوروبي لتركيا لحضها على السير في الفلك الديمقراطي، ويرى أنها لم تعد كافية أبدا للتأثير على صانع القرار في مصر لا سيما في ظل ظهور غريم سياسي على الساحة يستطيع أن يعوض خسائر مصر العسكرية إن قررت أمريكا قطع معونتها يوما. كما يذكر بأن المبلغ الذي وضعته المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت والذي يتجاوز 12 مليار دولار تحت تصرف الجيش يضع المعونة الأمريكية في حرج بالغ.
كما يؤكد أن الوضع الراهن يضع إدارة أوباما في موقف العاجز عن قطع معونتها الهزيلة لأن المصريين سيعتبرون ذلك تدخلا في الشأن الداخلي وتكريسا لحالة الفوضي التي تشهدها البلاد كما يهدد بطلاق دائم بين البلدين مما يهدد المصالح الأمريكية المباشرة وغير المباشرة في مصر والمنطقة. ويثني الكاتب على إلغاء البنتاجون للمناورات العسكرية المشتركة بين البلدين مع الإبقاء على سلاح المعونة الهش تحسبا لأي تطورات قد تشهدها العلاقات بين البلدين.
لكن الكاتب الذي قلل من شأن المعونة الأمريكية الهزيلة في أول مقاله يعود ليثني على إبقاء البنتاجون بودرة التهديد في قاع سلة التفاهمات رغم أنه يعلم جيدا أن سلاح المعونة لم يعد يخيف إضافة إلى كونه لم يعد مجديا. كما لم يطرح الكاتب في مقاله أي فكرة جديدة يستفيد منها صانعو القرار هناك، مما يمثل إفلاسا فكريا وسياسيا وعجزا عن مسبوق لدى قادة الفكر السياسي في المجتمع الأمريكي.
الكرة الآن في ملعبنا إذن، ونحن – بإذن الله – قادرون على إعادة صياغة التوجهات السياسية الأمريكية المترددة حيال منطقتنا اللاهبة. ويمكننا الاستفادة من لعبة التوازنات الجديدة والعزف على أوتار الحرب الباردة التي دشنتها روسيا بالدخول إلى المعترك السوري والدعم غير المسبوق للجيش المصري وتوجهاته. يمكننا إذن أن نخلع ربقة التبعية التي سامتنا الذل سياسيا والفقر اقتصاديا والهوان جغرافيا والتراجع إقليميا ودوليا، وأن نثبت لأمريكا أن بلادا بحجم مصر عصية على البيع وأن قرارها السياسي غير مرهون بمعونة غربية أو عربية وأننا قادرون على صناعة خارطة مستقبل مغايرة غير قابلة للضغوط أو المفاوضات.
لا أطالب هنا بقطع العلاقات المصرية الأمريكية طبعا، فهي علاقات ضرورية لنا ولهم، لكنني أطالب حكامنا بإرسال رسالة قوية إلى سكان البيت الأبيض مفادها أن مصر عصية على البيع وأنها لا تأكل بثدييها، وأطالب باستخدام الأسلحة الناعمة كالمقاطعة الشعبية للمنتجات الأمريكية كي يعي صانعو القرار هناك أن تفعيل المصالح المشتركة خير من استخدام سلاح الفقر والضغط والقروض، وأن مصر لن تعود سيرتها الأولى. دامت مصر حرة أبية.
عبد الرازق أحمد الشاعر
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..