التراكم الرأسمالي الاولي ونظام المؤتمر الوطني 1989 – 2019
رؤية ماركسية أولية — (3 من 8)

طارق بشري (شبين)
(3) التراكم الرأسمالي في السودان 1898 إلى 1989- مدخل تاريخي اولي
في بحثنا هذا تم حصر الفترة الزمنية كما اشرنا اعلاه في عنونة البحث في المدة من 1989 الى 2019 وهي الفترة التي آلت فيها السلطة السياسية للإسلام السياسيوي (المؤتمر الوطني / الجبهة الاسلامية/ الاخوان المسلمون).وهنا نود ان نتاول في مقدمة تاريخية اولية لآليات اشتغال التراكم الرأسمالي عبر جهاز الدولة و في تداخلها مع البنية الاجتماعية الطبقية بعد مجي الكولونيالية البريطانية وضم السودان إلى التاج البريطاني في 1898 وما بعد الاستقلال السياسي للسودان 1956 إلى عشية استيلاء الاخوان المتأسلمين على السلطة في يونيو .1989 وفق نظرية الدولة لماركس ان هنالك بعدين ذو علاقة جدلية ،البعد الأول يعاين استدعاءات النظام الاجتماعي والاقتصادي والذي تتمظهر فيه المؤسسات السياسية والبعد الثاني العلاقة بين المؤسسات السياسية والسلطة التي تمتلكها هذه المؤسسات والمراكز المتميزة النافذة للطبقة الحاكمة. ومن هذه الرؤية الكلية يمكن فهم طبيعة النظام الاجتماعي الطبقي الرأسمالي. بالإضافة إلى ذلك، ينظر ماركس أيضًا إلى الدولة على أنها تشكيل اجتماعي طبقي في علاقة جدلية فيما بين السياسي والأيديولوجي والتاريخي.، كشيء تفعله هذه الطبقة . وهذا يعني معا أن الدولة متداخلة باطنيا وفي تتريخة لا تغفو سهوا بعملية تراكم رأس المال (الثروة الاجتماعية وفوائضها) والمصالح الطبقية للتشكيلة الاجتماعية المسيطرة كعلاقة، الدولة بما هي شكل اجتماعي محدد تاريخيًا ناتج عن التنافس على المنتجات الفائضة الاجتماعية(Kayhan Valadbaygi2022).هذا المفهوم للدولة سوف نروح نعاينه في الدولة الكولونيالية 1898 الي 1956 وما بعد الكولونيالية من 1956 الى 1989 مرورا الى الدولة التي سيطرت عليها الجبهة الإسلامية في يونيو 1989 إلى 2019 .
قبل 1898 كانت أن تبلورت تاريخيا بشكل جنيني ما يسمى بفئة التجار والتي ترجع جذورها إلى تاريخ أقدم قبل السيطرة الكولونيالية البريطانية حيث كانت هناك تجارة للصادر مثلا بين دولة مروي ومصر وتجارة للوارد من وسط إفريقيا عبر النيل (تاج السر عثمان – الحوار المتمدن العدد 6115 – يناير 2019). التجار اليونانيون والسوريون الذين رافقوا الكولونيالية البريطانية في 1898 سيطروا على قطاع الصادرات والواردات . اضافة لبعض الافراد والشركات البريطانية والتي سيطرت على التجارة الخارجية في السودان. وكان من بين هذه الشركات مجموعة ميتشل كوتس، شركة هانكي، سودان ميركانتيل والشركة الزراعية السودانية وعدد آخر من الشركات المتخصصة في تجارة القطن. وفق تقدير كيلو ( Kaballo june 1994) كان رأسمالهم الإجمالي بما يتراوح بين 18 إلى 110 مليون جنيه استرليني وكان حجم الاموال التي يتعاملون بها في التجارة الخارجية ما قيمته 1100 إلى 1250 مليون حتى تأميمها في عام 1970.مع وجود التسهيلات الائتمانية المقدمة من المصارف التجارية والتي بكلياتها كانت أجنبية في حدود 11-22 مليون سنويا.
بعد قرارات التاميم التي اصدرها نميري عادت قطاعات الصادر والوارد المسيطر عليها بواسطة التجار الاجانب (انجليز+ يونانيين + سوريين) الي هيمنة البرجوازية التجارية السودانية و التي كان لها امتدادها السياسي في الحزب الاتحادي (طائفة الختمية).تعتبر شريحة الراسمالية التجارية أسرع شرائح الراسمالية نموا وانتشارا منذ الستينات من القرن الماضي إلى حاضرنا الماثل.الرأسمالية السودانية المشتغلة في القطاع الصناعي كانت في الفترة الكولونيالية تكاد تكون غير محسوسة وليس لها أثر اقتصادي اجتماعي و بسبب ان السلطة الكولونيالية أرادت للسوق السوداني استهلاك المنتوجات الصناعية البريطانية ولهذا تجاهلت إنشاء ودعم التصنيع.ما بعد الاستقلال تمظهرت معالم نشوء أولى لبرجوازية صناعية لكنها كانت مقارنة مع بقية الشرائح الرأسمالية الأخرى صغيرة للغاية وتتألف من الملاك القلائل للمصانع الصغيرة والمتوسطة في القطاع الخاص.
ففي الزمن الكولونيالي – ربما يمكننا القول- كان هناك نوعين من الاستقطاب. الاول الاستقطاب الاجتماعي السياسي والذي تتمظهر فيه القوى الاجتماعية التقليدية (حزب الأمة والحزب الاتحادي) والتي كانت لها علاقة تداخل سياسي لا تتناقض جوهريا مع السلطة الحاكمة ولعبت الحظوة الاقتصادية والتي مكنتها في الفضاء الاجتماعي السياسي الاقتصادي – طائفة الانصار (حزب الامة) والذي منح اراضي واسعة حتي بات ممثلا او قطبا أساسيا في البرجوازية الزراعية وطائفة الختمية والتي كان لها السيطرة الاقتصادية في قطاع التجارة (البرجوازية التجارية) والطرف الآخر من قطبي الاستقطاب هو بقية الشعب في المدن والأرياف. والنوع الثاني من الاستقطاب تمظهر في البعد التنموي والذي كانت فيه السلطة الكولونيالية مركزة جهودها (التنموية) في منطقة تشبه حرف الT وذلك فيما أشار له تيم نبلوك (تيم نبلوك- صراع السلطة والثروة في السودان) وهي المنطقة المتكونة من المناطق النيلية شمال الخرطوم، النيل الأزرق والنيل الأبيض جنوب الخرطوم، وسط كردفان و جنوب كسلا ، وهذان المظهران من الاستقطاب الاجتماعي كانا لهما أثر كبير في في ديناميات السياسة إبان الزمن الكولونيالي وفيما بعد الاستقلال السياسي.
في أطروحة دكتوراه معينة بدراسة الاقتصاد السياسي للأزمة في السودان من 1972-1985 طبيعة وأسباب الأزمة يذهب صدقي (المرجع السابق ذكره) للقول إن الازمة في كليتها هي ازمة عضوية تتعلق بازمة الانتقال من الطبيعة الاقتصادية والسياسية الموروثة من الحكم الكولونيالي للحكم والتي استمرت كما هي في بنيتها الاجتماعية الاقتصادية العامة لحقبة ما بعد الاستقلال السياسي. وهي ازمة هيمنة والتي فشلت عبرها الكتلة الاجتماعية المسيطرة – الأحزاب التقليدية في بعدها الاجتماعي السياسي – في عمومها وبخاصة النظام العسكري بقيادة الجنرال نميري في ادارة الشأن السياسي الاقتصادي وتجاوز جوهر الازمة الاقتصادية والتي تتمظهر في ازمة الانتاج الزراعي…
كانت القاعدة الاجتماعية للإخوان في عقدها الأول بعد تاسسها 1949 تتكونن من الطبقة الوسطى (الطلاب والخريجين الجدد من العاصمة وكبريات المدن). خلال السبعينيات، توسعت قاعدتها لتشمل أعضاء لها من معلمين في الغرب والشرق ، وصغار التجار المقيمين في المناطق الحضرية، الصناعيين، والنخبة التجارية الجديدة.وبعد المصالحة مع نظام نميري تشكلت قوتها الاجتماعية كشريحة من النخبة التجارية تنشط في الانشطة الطفيلية وفي هذا السياق اخذت هذه الشريحة الطفيلية تتعارض مصالحها الاقتصادية مع الراسمالية التجارية والتي تهيمن عليها فيما أشرنا من قبل تقليديا العائلات التجارية القوية التي تنتمي إلى الحزب الاتحادي.هناك ثلاث عوامل سياسية واقتصادية ساهمت في الثمانينات في بزوغ الاخوان المسلمون كشريحة طفيلية مسيطرة لحد كبير على تجارة الصادرات والواردات والتعاملات المالية والبنكية وهي اولا التقارب السياسي مع نظام نميري عبر المشاركة في السلطة وثانيا تحويلات المغتربين السودانيين في الخليج (عددهم ما يقارب 3 مليون) وثالثا توسع السوق الموازي لتحويل العملات وتدفق رأس المال الاستثماري الخليجي (البنوك الاسلامية التي تأسست في السودان) وقد ساهم هذا التوسع في نفس الوقت على تفكيك المؤسسات الاستخراجية للدولة وتآكل السلطة الطائفية التقليدية في القطاع الخاص.تم توجيه ما يقرب من 73 في المائة من هذا التدفق الرأسمالي والتحويلات من خلال الوسطاء الماليون غير الرسميين أو الأقارب، 18 في المائة من خلال البنوك الحكومية ووكالات صرف العملات الأجنبية، و8 في المائة من خلال المصارف الأجنبية. وهذا الريع استحوت عليه هذه الشريحة الطفيلية (Khalid Medani 2021). ربما نخلص إلى أن حركة الإخوان المسلمون قد تحولت الي في بنيتها الاجتماعية إلى مرحلة السيطرة على الانشطة الاقتصادية الطفيلية وبسبب عوامل الازمة العضوية التي تواجه الاقتصاد السوداني بما هو اقتصاد ريعي وبسبب تنامي دور الاقتصاد الموازي وبخاصة سوق العملات وتدفق تحويلات السودانيين والسودانيات بالخارج وسيطرة الإسلاميين على البنوك الإسلامية والمشاركة السياسية في نظام نميري في عقد السبعينات و الثمانينات تمكنت الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة من السيطرة على التجارة الخارجية من صادرات وواردات و هذه العملية من تراكم الثروة لصالح الشريحة الرأسمالية الطفيلية والتي انتجت من الأنشطة التجارية والمعاملات البنكية والمالية يمكن وصفها أي التراكم الرأسمالي بكونه تمت ممارسته بطرق وآليات الاقتصاد وان لم يكن يخلو من ممارسات الفساد. و بعد الانقلاب والذي خططته ونفذته الجبهة الاسلامية كان يهدف فيما يهدف اليه الانقلاب الانتقال إلى مربع جديد وهو ممارسة أوسع عمليات التراكم الرأسمالي لصالح الرأسمالية الطفيلية ايس بالإنابة إنما الاصالة وباستخدام آليات الدولة السياسية والتشريعية والقانونية والقمعية وهذا ما سوف ندرسه في الاقسام الاربعة التالية من بحثنا الأولي وفق رؤية وقراءة ماركسية.