السينما الشرقية – فرح البداية وتراجيديا النهاية

السينما الشرقية- فرح البداية وتراجيديا النهاية

البداية
1-
أطلق إنشاء السينما بمدينة كسلا في نهاية الأربعينات, صافرة النهاية لعقودٍ من الانغلاق, وانعدام وسائل الترفيه, و(النوم من المغرب), حيث كانت التسلية المتاحة حكايات(الزير سالم)و(عنترة) و(ابوزيد الهلالي)، يحكيها أحد الكبار داخل المنازل بين المغرب والعشاء, يتحلق حوله الجميع يستمعون. كانت هذه الحكايات تُحكى مسلسلة, كل يوم حلقة, حسب مزاج الراوي.
ثم جاءت السينما، لتكون بداية لتغييرٍ طال كافة أوجه الحياة بالمدينة. تزامن ذلك مع بداية عمل (شركة النور) _ الهيئة القومية للكهرباء حاليا، _ وإنشاء المجلس البلدي, وما تبع ذلك من إنارة للشوارع، والمحلات، وبعض المنازل.
المدينة التي كانت تهدأ الحركة فيها بعد مغيب الشمس, وتخلو شوارعها تماماً بعد العشاء، أمست مقاهيها، ومطاعمها، وشوارعها، تكتظ بالناس إلى ما بعد العاشرة ليلاً, حتى الذين لا يرتادون دار السينما, صارت المقاهي والمطاعم، ملاذهم لسهرةٍ بريئةٍ, انتظاراً لخروج رواد السينما،(سينما اسلام)، كما درج الناس على تسميتها، نسبة لمديرها وابن مالكها ( يوسف صدقي السيوفي).
كانت السينما مصدر رزقٍ لشريحة من السكان، عملوا بها في مهنٍ مختلفة, بيع التذاكر, حراسة الأبواب, الدعاية, تقديم المشروبات داخل صالة العرض، استلام التذاكر عند بوابات الدخول, حراسة الدراجات، وآخرون نصبوا طبليات التسالي والطعمية أمام الدار.
بدايةً، واجه معظم سكان المدينة، إنشاء السينما بالرفض، وهذا شيء طبيعي بالنسبة للذهنية الجمعية لمعظم الناس، وعدم تقبل كل ما هو جديد، والخوف منه مهما كان نافعاً ومفيدا. لذا اعتبر البعض أن في السينما مفْسَدة، ووصل الأمر إلى درجة التحريم. إلا أن الأمر توقف عند حالة التذمر العامة والاستياء، ولم يُتَرْجَم إلى فعلٍ إيجابي مضاد. بمرور الزمن، صار أشد المعارضين لقيامها، أكثرهم ارتيادا لها.

2-
عربة عمنا (علي) اليماني، (الكارو) ذات العجلتين، المتهالكة كصاحبها, مازالت في الذاكرة، وهي تدبّ في شوارع المدينة, حاملة لوحة إعلانات فيلم اليوم، واللوحة عبارة عن لوحان عريضان من الخشب، يلتقيان بالأعلى، منفرجان من أسفل على شكل الحرف (A) مثبت عليهما من الجانبين،ملصقات الفيلم المزمع عرضه ذلك اليوم.بجوار عمنا ( على)، يجلس على الآخر، ( على بشلاوي)، بقامته المديدة وجسده المكتنز، ممسكاً بيده ميكرفوناً بدائي الصنع من الصفيح، مخروطي الشكل, يصيح بصوته الجهوري:
( سينما اسلام تقدم لكم … )
ثم يقوم باستعراض اسم الفيلم وأسماء أبطاله ونوعيته:
(الفيلم المصري الجديد، عفريت مراتي، بطولة محبوبة الجماهير شادية….حب ..مغامرات…خيانة…الخ)
والصبية الصغار يركضون خلف العربة، وعمنا (على) يهددهم بسوطه بين الفينة والأخرى ليبتعدوا. الكبار حين تمر بهم العربة، ينظر بعضهم مباشرة إلى الإعلان وصور الممثلين والممثلات, والبعض ينظر بطرف عينه, وكأنه غير آبه, والكل يضمر في نفسه قضاء سهرة معتبرة مع أحداث الفيلم.
عند المساء, تمتلئ الساحة الغربية للسينما بالراجلين والدارجين والطبليات. خاصة إن كان الفيلم المعروض فيلماً استثنائيا, (مثل فيلم عنترة أو ظهور الإسلام )، فإنك لن تجد موضعاً لقدم, وتضطر لشراء تذكرتك من السوق السوداء، التي كان يحتكرها أبناء غرب القاش، ولا يزيد سعر التذكرة كثيراً عن سعر شباك التذاكر, وتصبح مهمة عمنا ( طلب الشامي حارس بوابة الدرجة الثالثة، غاية في الصعوبة، يعاونه أحياناً (علي بشلاوى) لمنع المتسللين, وكلاهما حباه الله بسطة في الجسم ونظرات ترسل الرعب في القلوب.
كان للنساء حظاً من (ثقافة السينما), إذ صار من المعتاد دخول النساء للسينما مع ذويهم, خاصة حينما يكون المعروض فيلماً تاريخياً، مثل فيلم (ظهور الإسلام ..عنتر بن شداد ..)أو الهندية ( من اجل أبنائي..)، أو الأفلام المصرية ذات الطابع الرومانسي( حب ودموع, الحبيب المجهول، لحن الوفاء، وغيرها).
كانت السينما أيضاً ملتقى الأحبة من الشباب والشابات، نظرة وابتسامة فقط لاغير، كافيتان للسهر ومناجاة النجوم.
حتى أسماء المواليد تأثرت بالسينما. حيث ظهرت أسماء:
( فاتن.. دلال..سهير .. أنور .. منير.. شاهين.. الخ)
كما دخلت مفردات اللهجة المصرية في أحاديث الشباب، وبعض الكلمات الانجليزية، والأغاني الهندية بحركاتها الراقصة، يرددها شباب غرب القاش، يقلدون صيحات طرزان، وحركات بعض أبطال أفلام رعاة البقر:
(جاري كوبر، جون واين، الان لاد، فرانك سيناترا… وغيرهم).
وزادت مبيعات المجلات الفنية التي كانت تصدر في ذلك الوقت مثل مجلة (الكواكب)، واحتلت صور الممثلات والممثلين جدران المنازل، والمحلات والمقاهي والمطاعم، بدلا من صور النسوة البدينات، بشلوخهن، وحليهن، التي كانت تأتي مرسومة على أغطية صناديق الحلوى المحلية الرخيصة.
باختصار كان وجود السينما بالمدينة, كصخرةٍ أُلقيَت في بِركةٍ ساكنة. إذ تغيرت وتيرة الحياة الرتيبة المملة، إلى حركة معرفية نشطة متجددة، مرتبطة بالعالم من حولها، حتى وإن كان ذلك عن طريق الأفلام.
3-
النهاية
أبلغ ما قيل حول النهاية المأساوية للسينما الشرقية، ما كتبه الاستاذ عبد الله احمد خير السيد:
(مَنْ مِنْ أهل كسلا لا يتذكر السينما الشرقية، ذلك المبنى المتفرد في شكله، الذي جمع بين ثقافات عده فى فن البناء والتشييد، ففيه طعم الثقافة التركية والمصرية، ممزوجة بالطعم السوداني.
فجأة، وبعد أكثر من خمسة أو ستة عقود من الزمن، صدر القرار بازاله السينما بحجه أن عقدها لم يتم تجديده، تناسى أصحاب القرار، أن السينما الشرقية، جزء من تاريخ كسلا وثقافتها، يوم أن لعبت السينما دوراً كبيراً في نشر الثقافة. تناسى هؤلاء أن السينما الشرقية، اثر خالد من آثار كسلا. تناسوا أنها تمثل حقبه تاريخيه، يجب أن تظل واقفة شامخة، بل يجب عليهم دعمها بكل السبل . ولكن، لم ينظروا إلا تحت أقدامهم . أرسلوا البلدوزرات، وفى لحظات، اختفت سينما كسلا الشرقية.
رحم الله مؤسسها يوسف صدقي السيوفى، وإدارتها التي كانت تتم بواسطة ابنه إسلام يوسف، ثم يحيى يوسف صدقي السيوفى، عليهم الرحمة، فقد رحلت سينما كسلا الشرقية معهم .
أتدرون ماذا يقوم بموقعها اليوم؟ صدقوا أو لا تصدقوا، يوجد بالموقع (مورده) لبيع الفحم والحطب ومربط للدواب خاصة الحمير ومكان لبيع البرسيم.
أمه لا تحترم حضارتها غير جديرة بالحياة . وليت اليونسكو كانت على علم بالأمر، لأصبحت سينما كسلا الشرقية، من أهم ملامح المدينة السياحية)

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. في نهاية السبعينات من القرن الماضي، كنا طلابا من مختلف اقاليم السودان بمدرسة كسلا الثانوية. كانت السينما الشرقية المجاورة لحي الهنود وشقيقتها الوطنية بحي الكارة، إن لم تخني الذكرة، من برامجنا الثابتة. بالاضافة لقهوة النجيلة. تعلمنا من هذه الدور ما لم نتعلمه في المدارس. ازدادت معرفتنا في تلك الفترة وتقدمنا فكريا وثقافيا. وكان أساتذتنا، محمد احمد الخضر (ود الخضر) وهاشم شرشار وصالحين ودهب خيري وعبد الله محي الدين والاستاذ المربي الكبير عليه رحمة الله، الزين حامد – مدير المدرسة، كانوا يشجعوننا علي ارتياد السينما. عكس بعض المعلمين. وكانما كانوا يقولون لنا ان نصف تعليمكم في السينما. فافادونا كثيرا لذلك كنا نرتاد هذه الدور دونما وجل.
    حزنت لما آلت إليه السينما الشرقية وللمصير الذي انتهت إليه. ولكن ليس ذلك بغريب. لان التخلص من دور العرض السينمائي، طال كل المدن. في هجمة شبه ممنهجة ومرسومة لتغييب وعي الناس من خلال القضاء علي السينما كاحد اهم وسائل الإتصال الجماهيري التي طالما نهل الناس منها مختلف ضروب الثقافة. حدث هذا في القضارف وبورتسودان ومدني وفي قلب مركز الوعي، إذا إفترضنا ذلك، الخرطوم. وبغياب السينما، غابت اهم المدارس الليلية التي كان يرتادها الكبار والصغار والأسر وبالتالي انتهي البرنامج المسائي.
    شكرا لك، استاذ الطيب محمود النور. وشكرا لمقالك الجميل المؤلم. وشكرا لانك اعدت لي من الذكريات التي كنت في أمس الحاجة لاجترارها. شكراَ

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..