مقالات وآراء سياسية

أنماط طرائق التفكير السوداني (١٤)

عوض الكريم فضل المولى

وحسن عبد الرضي

 

الطريق إلى تعايش سياسي ومدني واجتماعي

يواجه السودان تحديات سياسية واجتماعية عميقة تتطلب نهجًا صادقًا وشاملًا لتحقيق التعايش السلمي والاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، مع العمل على تحقيق التطلعات المدنية الحديثة ومراجعة التقليدية منها. كما يتطلب الأمر إعادة قراءة التاريخ برؤية مختلفة، وطرق تدريس جديدة، تزيل النزعة الاستعلائية والتمييزية والافتخارية، وتستبدلها بنظرة فكرية تحليلية علمية، تجعل من التاريخ منصة انطلاق نحو الحداثة والتجديد، بدلًا من التمسك بالسلفية الانكفائية التقليدية، أو السلفية المقيدة لحرية للفكر والتفكير.

لقد أدى هذا الجمود إلى انقسام المجتمعات بين سلفية دينية، وتبعية طائفية، وعصبية قبلية، مما جعل المجتمع يتشبث بها عاطفيًا، متخليًا عن استخدام العقل والتفكير النقدي التفكيكي أو البنيوي.

منذ الاستقلال، عانى السودان من انقسامات سياسية، وصراعات أهلية طائفية وقبلية، ونزاعات دينية ومذهبية، إضافة إلى أطماع جهوية، وتهميش مناطقي، وغياب العدالة في توزيع الثروة والتنمية. كما شهدت البلاد اضطرابات سياسية وانقلابات عسكرية ومجموعات مطلبية مسلحة أعاقت مسيرة التنمية والسلام زادت من تعقيد المشهد السياسي. يضاف إلى ذلك اعتماد مبدأ تقاسم السلطة، الذي أفضى إلى إقصاء الكفاءات وأصحاب الخبرات التراكمية والمعارف لصالح أبناء القبيلة أو الإقليم أو الجهة أو الولاء الديني، سواء الإسلامي أو المسيحي، مما أدى إلى تعميق الجدليات الدينية والطائفية، وأفرز استقطابًا سياسيًا ودينيا واجتماعيًا حادًا.

 

دعونا نسعى نحو بناء مجتمع سوداني متماسك. ولنعلم أن بناء مجتمع سوداني متماسك يتطلب توافقًا سياسيًا ومدنيًا واجتماعيًا، مع تعزيز قيم الحوار الشامل بأدواته وفلسفاته الحديثة، بدلًا من الحوار القائم على اقتسام السلطة وفق المصالح الضيقة. يجب أن تكون المشاركة الفعالة أساسًا في الحكم، بحيث يشعر جميع السودانيين بأنهم شركاء في وطنهم، ومستفيدون من موارده بعدالة.

 

لقد شهد السودان سلسلة من الانقلابات العسكرية والنزاعات المسلحة التي زعزعت الاستقرار السياسي، وأضعفت المؤسسات المدنية، ودمرت البنية التحتية، وأدت إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وإفقار الدولة، وإضعاف الهوية الوطنية. هذا التاريخ السياسي المضطرب خلق أزمة ثقة بين الفاعلين السياسيين، مما جعل الحلول التوافقية المؤقتة هي السائدة، حيث يتحول “عدو اليوم” إلى “صديق الغد”، والعكس، وهو ما نشهده في الصراع الدائر حاليًا.

 

ونبادر الى طرح سؤال يحتاج الى إعمال الفكر أكثر من حاجته إلى إجابة فطيرة: هل التنوع الثقافي والإثني، فرصة أم تحدٍ؟ ويجئ طرح السؤال ذاك البسيط، لإن سوداننا يعد بلدًا غنيًا بتنوعه الثقافي والإثني، حيث يضم العرب، والأفارقة، والنوبين، والبجة، وغيرهم، إلى جانب المسلمين المسيحيين واللادينين (أصحاب الكجور وغيرهم). وبدلًا من استثمار هذا التنوع كمصدر قوة، كما تفعل بعض الدول التي تستقطب الهجرة لتحقيق التنوع، فإن الصراعات حول الهوية والموارد أدت إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية، وتعميق الشعور بالتهميش، مما أفرز أزمات سياسية واقتصادية معقدة.

 

لقد عزز التهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي إحساس الظلم لدى العديد من الفئات، ليس فقط على مستوى الوطن، بل حتى داخل الأقاليم والمحليات والأحياء، مما أدى إلى تصاعد النزاعات والمطالبات بتحقيق العدالة الاجتماعية. بعض المناطق، رغم صغرها، باتت تعاني من الانقسامات الإدارية والسياسية، حيث تجد قرية صغيرة مكونة من ٤٥٠ منزلًا مقسمة إلى أربع لجان شعبية أو خدمية، مما يعكس حالة التشظي الاجتماعي والسياسي التي تحتاج إلى حلول جذرية.

 

إذن، ما مسارات التعايش والاستقرار المطلوبة؟ والتعايش السياسي والمدني والاجتماعي يبدأ بالحوار الوطني الشامل. فالحوار المفتوح بين جميع المكونات السياسية والاجتماعية ضرورة لبناء توافق حقيقي حول مستقبل السودان. ينبغي أن يكون هذا الحوار غير إقصائي، ويهدف إلى تحقيق مصالحة وطنية تضمن مشاركة الجميع في الحكم، وترسيخ الديمقراطية والحكم الرشيد. كما أن إنشاء نظام سياسي ديمقراطي يحترم سيادة القانون، ويعزز حقوق الإنسان، ويسمح بالتداول السلمي للسلطة، هو الأساس لأي استقرار مستدام.

 

على الأحزاب السياسية والمؤسسات الالتزام بالديمقراطية، والشفافية، والمساءلة، وإعادة بناء الثقة بين مكوناتها. كما أن نشر ثقافة السلام، وتعزيز الحوار بين المكونات المختلفة، يعدان ركيزتين أساسيتين لتحقيق التعايش، مما يتطلب إطلاق مبادرات لإعادة بناء الثقة الفردية والمؤسسية، وتعزيز العدالة الانتقالية، وتنفيذ مشاريع تنموية مشتركة.

 

لا يمكن تحقيق استقرار سياسي دون معالجة الأوضاع الاقتصادية. ينبغي تبني سياسات تنموية تضمن التوزيع العادل للموارد، وتخلق فرص عمل، وتعزز دمج المناطق المهمشة اقتصاديًا. كما أن إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية، وضمان استقلاليتها، ومنع استخدامها كأدوات قمع سياسي، يعد أمرًا ضروريًا لضمان الاستقرار والعدالة. كذلك، فإن تأهيل وتدريب الكوادر التنفيذية والتشريعية، وتحسين الأداء المؤسسي، يساهمان في تحقيق حوكمة رشيدة تعزز الاستقرار.

 

وهنا يأتي دور المجتمع المدني والإعلام. إذ يلعب المجتمع المدني والإعلام دورًا محوريًا في تعزيز ثقافة التسامح، ونشر الوعي حول أهمية التعايش، ورصد الانتهاكات، والمساهمة في بناء السلام من خلال مبادرات مجتمعية فعالة.

 

إن السودان، اليوم، في لحظة تاريخية حاسمة، إذ يمر بمرحلة حاسمة في تاريخه، حيث يتطلب تحقيق التعايش السياسي والمدني والاجتماعي جهودًا جماعية وفردية ومؤسسية من كافة الأطراف. إن بناء دولة مستقرة يستلزم إرادة سياسية حرة، وتعزيز الديمقراطية في أبعادها السياسية والاجتماعية، وتنفيذ إصلاحات جوهرية تعالج جذور الأزمات. ومن خلال الحوار، والتنمية، وسيادة القانون، يمكن للسودان تحقيق السلام والاستقرار، والتأسيس لمستقبل أكثر ازدهارًا لجميع أبنائه، وللمنطقة المحيطة به على المستويين العربي والأفريقي، بل وحتى العالمي.

 

 

 

[email protected]

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..