الإنسان المتعلم والسير على جثة وطن.. (2-2)اا

الإنسان المتعلم والسير على جثة وطن.. (2-2)
رباح الصادق
(1)
قلنا في المرة السابقة إن (الإنسان المتعلم) كما سماه الدكتور عبد الله قسم السيد أرّخ للأحداث الوطنية معليا من شأن متعلمي المدارس الحديثة قديما منكرا دور من عداهم من تكوينات الشعب العريقة (التقليدية)، ونواصل اليوم ناظرين بعين للماضي وأخرى تقرأ المستقبل (فيوتشرولوجي).
(2)
ولا بد من التأكيد على ضرورة التعليم، كأساس لنهضة أي شعب، فما حديثنا عما يفعله الإنسان المتعلم بمقصود منه التقليل من أهمية التعليم والحاجة إليه، ولكن التعليم الذي هو أساس تهيئتنا للأجيال المنوط بها بناء البلاد، يذهب أحيانا ليس فقط في إطار عدم إزالة (البلم) المطلوبة، بل يكون القلم دربا للبلم. استعدى كثير من المتعلمين المجتمع وافتتنوا بمجتمعات (خارجية أو ماضوية)، أرادوا إحلالها بين يوم وليلة بدون مراعاة بيئة المجتمع، وذلك بدلا عن النظر الواعي المسلح بالمعرفة لمجتمعاتهم، مما يجعلهم يدركون مواطن العلل ويخاطبونها بما يزيل القشور الميتة من تقاليد ضارة، ويتعامل مع الأخرى، التي لا يزال عرقها الحي ينبض في المجتمع، بحكمة (كراع الطيب بشيولها رجل رجل) و(العافية درجات) وهي حكم مخبوءة فيما فعله ديننا الحنيف.
فالإسلام وقف أمام بعض التصرفات مواقف ثورية ?مثلا- صفى وأد البنات ومنع وراثة زوجات الأب وحرّم الربا وغير ذلك من مواقف لم يكن فيها تهاون، إلا أنه إزاء أشياء أخرى متجذرة تدرج كما حدث مع الخمر فبدأ بالحديث عن إثمها الأكبر من نفعها، ثم منع قرب الصلاة للسكارى، وأخيرا قال هي رجس من عمل الشيطان آمرا باجتنابها. ووقف موقفا مغايرا مع مؤسسة متجذرة آنذاك ألا وهي الرق، فلم يمنعها ولكنه كأنما خطط لتصفيتها، فجعل للرقيق حقوقا، وجعل عتق الرقبة واحدا من الكفارات للذنوب الكبيرة، وهكذا.
(3)
في تاريخنا الحديث كان للمتعلمين دائما القدح المعلى في الفعل السياسي. حتى الأحزاب المنعوتة بالتقليدية إنما تصعّد في صفوفها المتعلمين وتعطيهم مقودها.
وبذات أهمية الجلوس على كراسي الحكم والقيادة السياسية، نهتم بدور الإنسان المتعلم في الإمساك بقرون الرياح التي توجه الرأي العام. وهذه تتضافر فيها أشياء عديدة. منها وسائل الإعلام ولا أعني بها الرسمية فقط بل ومراكز الإبداع ووسائل التعبئة وحتى الإشاعة، وتؤثر فيها كذلك تيارات الفكر السائدة إقليميا وعالميا. وهذه القرون إذا انغرزت في صدر كائن من كان مهما كان صولجانه فإنها تجرّف من شرعيته وتجعل حكمه مكللا بالقلق.
(4)
والنظر للتاريخ السوداني وتاريخ المنطقة يظهر منظرا مدهشا، فقد مرت شعوبنا بمراحل يمكن تشبيهها بالإنسان يولد رضيعا فيفطم، ثم يكبر حتى يصل أو تصل لسن النضوج.
مع ولادة أممنا المستقلة عشنا عهودا ليبرالية متصلة بالبنى الأجنبية للدول التي احتلتنا وكأنهن مرضعات خطفن مصيرنا، ثم فُطمنا عبر مغامرات عسكرية أو تحكمات عشائرية، وكانت تجارب في الخطو بأرجل مرتعشة وفي السير غير السديد، وهبت على شعوبنا في هذه الأثناء رياح اليسار في شعارات شيوعية أو قومية فتنت النخب المتعلمة عقدي الستينيات والسبعينيات ورفعها متسلطة العساكر هنا وهناك فكانت مرحلة في الطفولة السياسية بقفزاتها الفوقية وتعلقها بالمدهش لدى الأجنبي ترفع شعاراته وتتغذى بآدابه وتتمحور معه ضد عدوه في معارك ما لنا فيها نفقة، يخدعها ويوهمها أنها تتقي ضربات الكبار الظالمين بدروعه فإذا هي ساحة للعراك، ولم نكن بالتالي الأرانب السعيدة بتقاتل الكلاب، ولكن الحشائش الخاسرة من تقاتل أفيال العالم عليها.
(5)
ومع قيام الثورة الإسلامية في إيران في 1979م تغير اتجاه الريح في المنطقة حيث قيدت قرونها باتجاه شعارات الإسلام السياسي التي تلقفتها مجموعات من النخب ووجدت رواجا لدى الجماهير مستغلة عاطفتها الدينية، رياح وازت مرحلة المراهقة الإنسانية بما يصحبها أحيانا من تهور وعُقــَد ورفض، فقد حملت بعض الحركات الإسلاموية شعارات معادية للمجتمعات التي تعيش فيها نعتتها بالجاهلية واندفعت نحو السلطة بدون هدى ولا كتاب منير: بدون فهم للواقع ولا التخطيط السديد، وأتت بمحن في مواجهة القوى العالمية خاصة أمريكا في ظل القطبية الآحادية، وكبلت شعوبها بفهم قاصر منكفئ للدين فأحكمت ظلمها وبؤسها باسم الشريعة التي هي كلها عدل ورحمة كما قال ابن القيم رحمه الله. والمرجو أن تتجاوز الشعوب هذه الحالة بعد حلول ربيع الحرية فتنظر بنضج لإرثها وللحضارة الحديثة، وتدرك الواجب الديني والواقع الحياتي وتزاوج بينهما، وتنهي الفصام والخصام وكذلك التبعية والمحورية بيننا والعالم.
(6)
بلادنا اليوم في حيص بيص. وقراءة المستقبل تقول إن أمامها إما أن تبتلعها الرمال المتحركة التي ألقتها فيها (الإنقاذ) فبعد أن ضاع الجنوب تليه المناطق الثلاث ودارفور، وربما الشرق والشمال القصي، ويبقى من السودان مثلث السيد عبد الرحيم حمدي (دنقلا- كردفان- سنار) محاطا بالحروب من كل جانب، جاذبا إليه كل نظم النزاع في القرن الإفريقي، والبحيرات، والشرق الأوسط (إسرائيل لم تضع رجلها الآن فقط وضربات بورتسودان شاهد) ووسط إفريقيا فالرماد في تشاد في خلله وميض نار. وهذا يعني ببساطة التلاشي، وكل ما يمكن قوله للوطن، عنا كلنا الذين سمحنا بهذا المآل، هو ما قاله الشاعر بدر شاكر السياب للفدائية الجزائرية جميلة بوحريد: لا تصغي لها إن أصواتنا تخزي بها الريح التي تنقل!
(7)
الخيار الثاني أمامنا هو أن نُجبر (الإنقاذ) كرها، أو طوعا في باطنه إكراه عبر ضغوط ذات بال، لتتنحى لحكم قومي يشترك فيه الجميع يعيد العدالة والحرية والديمقراطية ويمحو الفساد والاستبداد والانفراد. وفي هذه الحالة فإن تجربتنا الديمقراطية القادمة سوف تستند على مدى وعي الإنسان المتعلم بخطورة دوره، وتفاعله مع حاجة الوطن وإلى أي اتجاه يوجه قرون الرأي العام، هل يكون جزءا من البناء أم فاصلا جديدا في الطحان؟ والطحان هذه المرة سوف يقضي ولا شك على الوطن حتى ولو أنقذ من الموت بيدي (الإنقاذ).
(8)
إن الرياح الوطنية والإقليمية والعالمية تتجه بإزاء الاثنية، وسيكون هناك دور كبير وبوق عالٍ للجماعات المسلحة التي اجتمعت في كاودا أو التي أمسك قدمها شرط العلمانية.
إن سير قطاع كبير من المتعلمين وراء هذه الموجة بفكرة معارضة (الإنقاذ) مفهوم في إطار تجميع الصفوف الوطنية خلف مطالب مشروعة، ولكننا إذا قرأنا الماضي جيدا، علينا أن ندرك أن المستقبل يفرض علينا وعيا أكبر بمدى اتفاقنا جميعا حول المشروع الوطني، وحول المستقبل، ومدى إدراكنا أن تأجيلنا للأسئلة التي أرقت القوى السياسية الشمالية وهي تتعامل مع الحركة الشعبية بشقيها الشمالي والجنوبي (ورأس هذه الأسئلة قضايا الحريات والديمقراطية التي فتت الحركة في عضدها ولم تقمها في «حدارها» حينما حكمت) هو سكين مغروزة في خاصرة مستقبل نحلم به، وكرة جديدة في مسلسل لا وعينا، ومسلسل سير (الإنسان المتعلم) وراء أوهامه أكثر من الحقائق.
(9)
ولكن سيره ذاك، وهو الممسك بقرون الرأي العام، والجالس في النهاية على عرش التأثير الفعلي يهزأ بالجالسين على المقاعد ويجرّف سلطانهم، سيكون في المرة القادمة سيرا على جثة وطن!
وليبق ما بيننا
الراي العام
كدي بالله يا رباح خلينا من التنظير المرقم 1 و2
كدي في حلقات ورينا الفرق شنو بين اسلام نافع واسلام الخليفة عبد الله التعايشي الدايرين تنفخوا فيه الروح وتجيبوهو لينا