العدالة العمياء

د. ناهد قرناص

التمثال الرمزي للعدالة.. يصورها بصورة سيدة تحمل ميزاناً بيدها.. ولكنها معصوبة العينين.. الحقيقة كان ذلك الأمر يثير حيرتي؟ لماذا تكون العدالة معصوبة العينين وهي بيدها ميزان القوانين ومقاليد الأمور؟ كيف يمكن لقوانين صيغت باجتهاد وتفكير.. تكون عمياء؟.. ربما كان المقصد شيئاً آخر.. أن يستعين أهل القانون بالبصيرة التي منحها الإله لفاقدي حاسة البصر.. فصارت توجه حياتهم ومنحتهم حاسة أخرى بديلة.. هي ذلك التفكر في كل شيء.. واستخلاص المغزى والجوهر والتغاضي عن القشور والمظهر.
مشهد أول : فتاة صغيرة.. قايضها أهلها في صفقة.. تمت خطبتها لشخص لا تريده.. قاومت ورفضت.. لكنهم لم يعيروا ذلك انتباهاً.. عندما حانت مواعيد الزواج.. هربت الى بيت أقربائها.. خدعها أبوها بأن الزواج تم إلغائه ليستدرجها الى البيت مرة أخرى.. وعندما عادت اكتشفت أن الترتيبات مكتملة.. زوجوها غصباً عنها.. فكان سلاحها الرفض للعلاقة الزوجية.. وعندما استعصى عليه الأمر.. استعان بإخوته.. ليساعدوه على أخذ (حقه) بالقوة.. فما كان منها إلا أن أخذت السكين وأعملت فيه قتلاً.. لو تمعنا في حيثيات الموضوع.. .ترى من الذي يجب محاكمته؟ نورا؟ أم أهلها الذي اغتالوا شبابها البكر وباعوها بثمن بخس.. نورا الآن تواجه الحكم بالإعدام.. وتواجه ما هو أقسى من الموت.. تخلي أهلها عنها تماماً.. ولا حتى مجرد سؤال عنها في السجن.
مشهد تاني: شيخ خلوة.. يعلم الأطفال الدين والقرآن.. تم اتهامه باغتصاب أكثر من أحد عشر طفلاً.. من الذين دفع بهم أهلهم عن ثقة ليحفظوا القرآن.. فاذا بهم يعودون مغتالي البراءة.. ومحطمي النفسيات.. ولا ندري ما الذي يحدث بعد ذلك.. هذا الشيخ الذي اغتصب هؤلاء الأطفال بدم بارد.. وبهدوء يحسد عليه.. اعترف بجريمته ومثلها أمام النيابة.. تم الحكم عليه بخمس أعوام فقط ليخرج بعدها ويمارس ما توقف عن فعله.. فالسجن ليس إلا استراحة محارب لشخص لم يردعه الدين ولا الأخلاق عن فعل الفاحشة.. قل لي بربك.. من هو الأحق بالإعدام؟ وعلى ماذا استند الحكم المخفف على الشيخ.. رجاء لا يقل لي احد (اعتبار السن)..
اليوم فقط عرفت لماذا هي معصوبة العينين.. فاقدة للبصر والبصيرة.. لكن الذي يحدث لابد له من وقفة.. فما الجدوى من الاحتفالات والشعارات.. ولا زال زواج القاصرات يتم تحت أبصار الجميع.. ولا يزال البعض يزوج ابنته دون رغبتها.. ولا يزال المأذون يكتفي بسؤال ولي الأمر ولا يطلب موافقة العروس شخصياً.. لا يزال البعض يرسل أولاده القصر لإناس لا يعلمون عنهم شيئاً غير مظهر اللحية وادعاء المعرفة الدينية.. فيقع المحظور.. ونجد أنفسنا نتحسر قائلين: (والله كان باين عليه الإيمان والتقوى).. عندها لا مجال للبكاء.. ولا ينفع البكاء على اللبن المسكوب…ولا يجدي أن نقول ولات حين مناص.. إنها الكارثة ورب الكعبة..
نعمة شافت في رؤاها
طيرة تاكل في جناها
حيطة تتمطى وتفلع في قفا الزول البناها
فسرت للناس رؤاها
قالوا جنت وما براها

الجريدة