أخبار السودان

رؤية في السمات العقلية والمنهجية..فرج فودة.. فارس معسكر التقدمية

محمد الشعراوي*

السمات العقلية إن البحث فى الخصائص العقلية للمفكرين الكبار قد يبدو شاقا وغامضا ومخيفا، ومع أن فرج فودة واحد من أكبر مفكرى مصر فى تاريخها، لكن الأمر معه مختلف، فرجال فى قوته وبساطته ونضاليته، مكتوبة عقولهم بوضوح وصرامة فى كتبهم ومواقفهم و أساليبهم.

إن ملامح عقلية فرج فودة يمكن تركيزها فى ثلاث نقاط رئيسية:
1- عقلية منظمة شديدة النظام: فكاتبنا الكبير قد نشأ فى بيئة ريفية تسودها عقلية (الميثوس) أى عقلية الخرافة وصناعة الأساطير، وكان رد الفعل العكسى لدى هذا المتمرد النبيل أن تشكلت لديه عقلية (لوجوس) أى عقلية منطق ونظام، كما أن دراسته للاقتصاد وفلسفة الاقتصاد التى نال فيها الدكتوراه قد ساهمت وبشكل حاسم فى بلورة وترسيخ هذه النزعة اللوجوسية لديه وترتيب (ذرات مخه) ترتيبا منطقيا صارما لا يحتمل أى فوضى أو عشوائية، كتاباته وأحاديثه كلها كانت دائما فى شكل: أولا ثم ثانيا، كتاباته وأحاديثه كلها عبارة عن مقدمات ونتائج: مقدمات تسبق النتائج وتؤدى إليها، ثم نتائج تتحول إلى مقدمات تؤدى بدورها إلى نتائج أخرى وهكذا، بهذه الطريقة كان يشيد بناءه الفكرى بينه وبين نفسه، وبهذا الشكل كان ينقل أفكاره إلى قارئه أو مستمعه بمنتهى البساطة والقوة.
2- عقلية مادية عملية: وقبل أن تنطلق انفعالات أصحاب الحساسية من كلمة (المادية)، وأيضا قبل أن تنطلق شهوات وغرائز التكفير لدى الأصوليين وتمتلئ أفواههم بالزبد صراخا وتشنجا فرحين بما آتاهم من سلاح يتوهمون أننى أعطيته لهم ضد فرج، أود أن أهدئ من روع الفريق الأول، وأفسد فرحة الفريق الثانى باكرا عبر إيضاحى لما أعنيه بـ(المادية) هنا بدون الدخول فى تعقيدات فلسفية: الحقيقة أنه اذا كان أمامنا: واقع وفكرة، فالمادية تؤكد أن الواقع يسبق الفكرة، على نقيض المثالية التى تزعم العكس، ورأى المادية سليم تماما ويتفق مع أبسط بديهيات العقل، فالحصان مثلا قد وجد كواقع أولا ثم وجدت فكرتنا عنه، والمدهش المخرس للفريق الثانى أن منطق المادية ينطبق على الفكرالألوهى نفسه، فالله بحسب الفكر الألوهى موجود كواقع أولى، ثم تلا ذلك معرفتنا به أو فكرتنا عنه، وغير سليم منطقيا أن نقول بالعكس وهذا هو معنى المادية ببساطة :أسبقية الواقع على الفكرة.. لكن ماذا أعنى بالعملية ؟ ببساطة: إذا كان أمامنا فكرتين متصارعتين فالعملية تؤكد أن الحكم بينهما هو النتائج العملية، على نقيض الميتافزيقية التى تقول أن الحكم بينهما هو مدى قوة كل منهما النظرية، وهذا قول غير سديد، لماذا؟ لأن فكرة أن مس الجن سبب فى الأمراض العصبية كالصرع هى فكرة لا يمكن اثباتها أو دحضها نظريا وقد يطول النقاش حولها دون أن تتأكد من صحتها أو خطأها نظريا، لكن ما يحسم الحيرة هى النتائج العملية لهذه الفكرة: سيقوم المعالج بقراءة بعض التعاويذ الدينية على المريض وهو يضربه ضربا مبرحا لإيلام العفريت الذى يسكنه وإجباره على الخروج منه، وفى النهاية: مازال المرض العصبى موجودا وقد زاد عليه بعض العاهات البدنية التى نتجت من الضرب، هذا الفشل العملى هو الدليل القاطع بخطأ هذه الفكرة، وهذا هو معنى العملية ببساطة: إن النتائج العملية هى الفاصل فى صحة الأفكار من عدمها، والمادية والعملية يرتبطان ببعضهما ارتباطا عضويا وهما ضروريان للفهم السليم للعالم، وعقلية فرج فودة كانت تتمثل الواقع بهذه الطريقة مما انعكس على منهجه النقدى الذى سوف نعرض له فيما بعد..
3- عقلية ثورية: مؤمنة بوحدة النظرية والتطبيق أو وحدة الفكر والعمل وتعرف جيدا أنه لا جدوى من الفكرة بل لا وجود لها أساسا دون العمل بها ومن أجلها، فبخلاف مواقف بعض المثقفين المعاصرين لفرج التى تنوعت بين الارتماء فى أحضان السلطة أو الانسحاب إلى القوقعة المريحة وإطلاق اللعنات من المخبأ على المجتمع أو نفاق هوجة تيارات الارهاب والتأسلم السياسى الصاعدة ، كان فرج فودة يناضل لنشر أفكاره بكل ما أوتى من قوة : يسافر بلدانا ليحاضر أو ليشارك فى لقاءات تليفزيونية، يكتب ويحاور فى مختلف المجلات والجرائد، يشتبك فكريا مع خصومه وخصوم الدولة المدنية فى مناظرات جماهيرية حاشدة يأتيه التهديد تلو التهديد، فلا يبالى، يسخر، ويكمل نضاله، يسعى لتأسيس حزب المستقبل، يؤسس الجمعية المصرية للتنوير… إلخ، باختصار: لم يكتف فرج بفهم الواقع بل سعى لتغييره فكان نشاطه نموذجا للعمل الثقافى الثورى وكان هو نفسه نموذجا لشخصية المثقف الثورى الذى تحتاجه مصر فى هذه المرحلة التى نعيشها.
إذا اجتمعت هذه الصفات الثلاث فى رجل فمن سوء حظك أن تكون خصمه الفكرى، وفى حالة خصوم مثل خصوم فرج فودة فى قمة الضعف والتهافت الفكرى، فإن سوء الحظ قد وصل عندهم إلى قناعة يائسة باستحالة هزيمته فكريا، فكان أن لجأوا إلى أسلحتهم الرخيصة: التكفير ثم الرصاص. السمات المنهجية هذه السمات العقلية بالتأكيد سوف تقرر المنهج الذى سيعتمده فرج فودة خلال حياته الفكرية، فهو لن يعتمد على التخيلات والتأملات الذهنية المحضة فى اثبات ما يريد اثباته أو فى الوصول لنتائجه الخاصة وإنما سيذهب مباشرة للواقع ، فكما قال هو: “ليس أقوى من التاريخ حجة”، بكلمات أخرى: أنه إذا وقف رجل بهذه السمات العقلية أمام الاختيار بين المنهج النقدى النصى والمنهج النقدى التاريخى، فبالتأكيد سوف يختار الثانى، وهذا ما كان وتبناه فرج فى الأعظم من كتاباته.
لم يكن استعمال المنهج النقدى التاريخى عند فرج مقتصرا على قراءة الماضى فقط، بل كان يستعمله فى قراءة لحظته الآنية بل وفى قراءة المستقبل أيضا، وقد كان فرج من أوائل المتنبئين بانقسام السودان قبل حدوثه بأكثر من ثلاثين سنة.
وكان النقد التاريخى عند فرج يمارس – ليس فى إطار التشهير كما يزعم أعداؤه ? وإنما فى إطار منطق السببية الذى يصرح بأنه إذا كانت الحالة أ تسبق الحالة ب عدد متكرر من المرات فإن الحالة أ سبب فى الحالة ب، وكان التاريخ أقوى دليل على أنه فى كل مرة حدثت الحالة أ (خلط الدين بالحكم) تبعتها بالضرورة الحالة ب (الاستبداد والفساد والفتنة وسفك الدماء)، بصورة تحتم أن تكون الحالة أ هى سبب فى الحالة ب، وأن أى تطبيق للحالة أ سيتبعه بالضرورة تحقق الحالة ب التى أراد فرج أن يحذرنا منها وأن ينتشل وطنه الغالى قبل السقوط إليها.
لقد دفع فرج فودة حياته ثمنا لثباته على مبادئه، ونحن يا فرج على دربك سائرون..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناشط سياسي وعضو حركة الاشتراكيين الثوريين.
موضوعات متعلقة:
إمام وفودة.. شهيدان على طريق الثورة

جريدة الدستور‏ –

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..