دولة وزير المعادن العُظمى

أوردت صُحف الخرطوم في السادس عشر من الشهر الجاري خبراً عن زيارةٍ لوزير المعادن كمال عبد اللطيف لولاية البحر الحمر توَّقع في ختامها إنضمام السودان ( إلي قائمة الدُول العُظمى في المستقبل القريب بفضل المعادن التي يمتلك منها السودان إحتياطياتٍ كبيرة ). إنتهى

كلما تأهبتُ لمُناقشة رأيٍ أو تصريحٍ أو فكرةٍ لأحد المسئولين في حكومة الإنقاذ وجدتُني أعودُ إلى منصَّة التأسيس النظري لمفهوم “الدولة الرِّسالية” ووعي الأفراد القائمين عليها, و الذي هو في جوهرهِ وعيٌ آيديولوجيٌ زائف لكونهِ يتفتقُ عن وهم- وهمٌ يُغيّبُ العقلَ وما هو مُمكنٌ لصالح العاطفة و ما هو مرغوبٌ فيه.

وتكمنُ خطورة هذا الضرب من الوَّعي في عدم إكتراثهِ بالتفكير الإستراتيجي, وفي رفعهِ سقف الطمُوحات لدى الأشخاص القائمين على أمر الدولة الرِّسالية وبما لا يتناسبُ مع الإمكانات المُتاحة, ومع ما هو موجود.

لا يختلفُ إثنان في أنَّ تصريح وزير المعادن أعلاهُ لا يخرُجُ من إطارِ التفكير الرغبويِّ المحض, ولكن الأمر المُثير في حديث السيِّد الوزير لا يتمثل فقط في إطلاق وعدٍ جُزافيٍ مُدهش وهو إنضمام السودان إلى “قائمة الدُول العُظمى”, بل كذلك في إلحاق الوعد بحُلمٍ أكثر إدهاشاً وهو الإنضمام “في المستقبل القريب”. فتأمَّل!!

بالطبع لا يُكلفُ السيِّد الوزير نفسهُ بتوضيح “الكيفية” التي سينتقلُ بها بلدنا المنكوب من وضعهِ الحالي ضمن صفوف الدُّول الأكثر تخلفاً في العالم إلى “دولةٍ عُظمى في المستقبل القريب”, ذلك أنه ليس من شأن الهائمين في ملكوت الوعي الآيديولوجي الزائف الإكتراث لحقائق “الواقع”, بل هدفهم هُو “التعالي” عليها بالأقوال والشعارات والتصريحات السَّهلة التي سرعان ما تتبخَّرُ في الهواء و لا تدوم طويلاً.

وإذا حاولنا الإجابة على سؤال “كيفية” الإنتقال لمصاف الدُّول العظمى من خلال السيَّاق الذي أدلى فيهِ السيِّد الوزير بتصريحه سنجد أنّ الكيفية لديهِ تتمثلُ في توَّفر “الموارد الطبيعية” والتي منها “المعادن”, ولكننا سنفاجئهُ بالقول : إنَّ تعدُّد و ضخامة الموارد الطبيعية لا يفي لوحده بإشتراطات ذلك الإنتقال, ولو كان الأمرُ كذلك لأضحت دولة مثل نيجيريا ضمن صفوف الدول العظمى منذ زمن طويل.

النموذجُ النيجيري يصلحُ للمُقاربة لأنَّ به الكثير من أوجه الشبه مع السُّودان, حيث توَّفر للبلدين موردٌ مالىٌ ضخمٌ هو “البترول” ولكن كلاهما عجز عن توظيفهِ بطريقةٍ مُثلى بسبب إستفحال السرَّطان القاتل : الفسَّاد.

صدر في سبتمبر من العام الماضي كتابٌ في غاية الأهميَّة لوزيرة المالية النيجيرية نقوزي أوكونجو أويلا بعنوان : ‘إصلاح ما لا يُمكن إصلاحهُ : دروسٌ من نيجيريا’, يتحدث عن تجربتها في الإصلاح ومُحاربة الفساد ضمن فريق إختاره الرئيس أوباسانجو بين عامي 2003 -2006, وهو كتابٌ يجدرُ بأهل الحُكم عندنا الإطلاع عليه حتي يتثنى لهم معرفة لماذا تستعصي محاربة الفساد المُستشري في جسد سوداننا المحزون.

قالت السيدة أويلا في كتابها أنَّ : ( أموال النفط دمرَّت فعلياً النسيج الإجتماعي والأخلاقي للمجتمع ), وأنهُ منذ منتصف السبعينيات حتى عام 2001 بلغت مداخيل نيجيريا من خام النفط أكثر من 300 مليار دولار ? وللمُفارقة – تراكمت عليها ديونٌ بـ30 مليار دولار لنادي باريس. كما أنَّ أموال النفط والديون وجدت طريقها لحسابات المصارف الأجنبية لسياسيي وجنرالات الطبقة العليا.

وكان قد ورد في تقرير أصدرتهُ مؤسسة السلامة المالية الأمريكية عن الفسَّاد في الدول النامية أنَّ نيجيريا خسرت خلال عشر سنوات فقط (الفترة من عام 2001 الي 2011) حوالي 129 مليار دولار بسبب الفساد.

ومن ناحيةٍ أخرى أصدر معهد “جالوب” تقريراً قال فيه أنَّ 94% من سُكان نيجيريا يعتبرون حكومة بلادهم فاسدة. وينظرُ الكثيرون لهذا البلد الذي كان على رأس الدول المُنتجة للنفط في إفريقيا “كدولة فاشلة” بسبب النزاعات المُسلحة, والصراعات العرقية, والفساد, وتدهور الأوضاع المعيشية لغالبية المواطنين ( 70% من السُّكان يعيشون تحت خط الفقر).

الحالة النيجيرية ? يا سيادة الوزير- تكادُ تتطابقُ مع حالة السودان الذي لا يُعرفُ حتى الآن أين ذهبت مداخيل نفطه الذي ظلَّ يتدفق منذ العام 1999, بينما تضاعفت ديونه بنسبة 300 % خلال العقدين الماضيين.

وإذا كانت الموارد الطبيعية وحدها لا تكفي لوضع دولةٍ ما في مصاف “القوى العُظمى”, فإنَّ إنفاق الأموال على الأسلحة والجيوش والقوة العسكرية لا يكفي كذلك لبلوغ ذات الغاية, وليس أدلَّ على زعمنا هذا من حال دولة مثل “كوريا الشماليَّة”, التي نجحت في صُنع “القنبلة النووية” ومع ذلك يموتُ فيها الأطفال من سوء التغذية, و يضطرُ فيها الناس إلى أكل روث الحيوانات لأنهم لا يستطيعون الحصول على الأرز أو الذرة.

متوِّسط دخل الفرد ? يا سيادة الوزير – في كوريا الجنوبية أعلى 20 مرَّة من متوسِّط دخل نظيره في كوريا الشمالية, والمُعدَّل المتوسط لعُمر الفرد في كوريا الجنوبية أعلى بـ 22 سنة منهُ في كوريا الشمالية.

كوريا الشمالية تعتبرُ بمصطلح علم السياسة ? مثل نيجيريا – “دولة فاشلة” إذ تنطبقُ عليها مواصفات تلك الدولة ومنها فرار الناس من أراضيها مُجازفين بأرواحهم, و فساد النُخبة الحاكمة, و نقص الغذاء و إنتشار الفقر, وغيابُ المُحاسبة والشفافيَّة, و خوفُ الناسُ من السياسة, و إنتهاكات حقوق الإنسان, و إنعدام الحُريَّات.

ميزانية الحُكومة السودانية لهذا العام ? يا سيادة الوزير – خصَّصت للأمن والدفاع مبلغ (8,593) مليار جنيه, بينما تمَّ تخصيص مبلغ (554) مليون جنيه فقط للتعليم بنسبة 3.8%, وهذا يعني أنَّ ميزانيَّة الدِّفاع والأمن تساوي خمسة عشر ضعف ميزانية التعليم . بينما نجدُ دولة مثل المملكة العربيَّة السُعودية تخصِّص لقطاع التعليم 25% من ميزانيتها لهذا العام ( 204 مليار ريال).

من ذا الذي يتوَّهم أو يُصدِّق ? يا سيادة الوزير ? أنَّ دولة تخصِّص 3.8% فقط من ميزانيتها للتعليم, ولا تضعهُ ? أي التعليم – ضمن أولويات إستراتيجيتها التنموية ( أنظر الإستراتيجية ربع القرنية 2007 -2031 ) يُمكنُ أن تصبح في يومٍ من الأيام ? دعك من المُستقبل القريب – دولة عُظمى ؟

الحقيقة المؤلمة هى أنَّ دولتنا “دولة فاشلة” شأنها شأن كوريا الشمالية ونيجيريا والعديد من الدَّول, إذ تستمرُّ الصراعات المُسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق, و يتسِّعُ نطاق النزاعات القبلية بإستمرار , ويكثرُ النزوح واللجوء, و ترتفعُ مُعدلات الفقر والبطالة, و تهاجر العقول, وينتشرُ الفسَّاد, و تغيب الحُرِّيات.

والحالُ كذلك ? يا سيادة الوزير ? فإنهُ يتوجَّبُ علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا و ( نخت الكورة في الواطة) لنواجه حقائق “الواقع” بشجاعة بدلاً عن مواصلةِ السَّير في طريق إطلاق الأحلام “الخيالية” المُستحيلة.

علينا أن ننسى نهائياً حكاية تحولنا “لدولة عُظمى في المستقبل القريب”, وأن نعمل على إنجاز هدفٍ معقول و قابل للتحقق وهو الإنتقال من خانةِ “الدولة الفاشلة” إلى وضعيةِ الدولة “المُستقرِّة” الخالية من الحروب والنزاعات المُسلحة, والنزوح واللجوء, و القادرة على مُحاربة الفساد والفقر بفعالية.

إشتراطاتُ عملية الإنتقال لخانة الدَّولة المُستقرِّة تكمُنُ في وقوع إصلاح سياسيٍ جذريٍ يجتثُ الفسَّاد, و يوقفُ الحروبَ المُستعِرة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق, ويتوصلُ لإتفاق سلامٍ يمنعُ الحرب الشاملة مع جنوب السودان, ويتصالحُ مع العالم, ويؤسسُ لدولةٍ ديمُوقراطيِّةٍ حقيقية تضمنُ التداول السِّلمي للسُّلطة عبر مؤتمرٍ دستوريٍ جامعٍ تشاركُ فيه كافة الأحزاب و القوى والمنظمات المدنيَّة والحركات السياسية .

دون ذلك سنظلُّ ندورُ في حلقة مُفرغة لن نجن منها سوى المزيد من الخراب والفقر والحروب والتفكك.

ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يا أستاذ بابكر .. دولة محاصرة عالميا وبها حروب داخلية وفساد و محسوبية و ظلم وفقر وجهل ورئيس مطلوب للعدالة الدولية .. لو أن السماء أمطرت ذهبا و دولارات لن يتغير الحال..

    (إشتراطاتُ عملية الإنتقال لخانة الدَّولة المُستقرِّة تكمُنُ في وقوع إصلاح سياسيٍ جذريٍ يجتثُ الفسَّاد, و يوقفُ الحروبَ المُستعِرة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق, ويتوصلُ لإتفاق سلامٍ يمنعُ الحرب الشاملة مع جنوب السودان, ويتصالحُ مع العالم, ويؤسسُ لدولةٍ ديمُوقراطيِّةٍ حقيقية تضمنُ التداول السِّلمي للسُّلطة عبر مؤتمرٍ دستوريٍ جامعٍ تشاركُ فيه كافة الأحزاب و القوى والمنظمات المدنيَّة والحركات السياسية)..الكلام بين القوسين للاستاذ بابكر هو عبارة عن روشتة الحل وهم يعلمون ذلك
    ولكن الكنكشة و السلطة و الثروة هم المانع…ويقولوا ليك نحن وطنيين!!!!؟؟؟؟ليكم يوم

  2. كيف لنا أن نصدق أن دولة عظمى تبنى ونظامها لا يملك أدنى درجة من الشفافية وأناس يتمسكون بالسلطة منذ أكثر من عشرين سنة وهو يتقلب من منصب الى آخر ومن موقع الى موقع كأنما هم الذين لا يستقيم الأمر الا بوجودهم وعدمت أن تنجب بنات حواء السودان غير اولئك. قراءة بسيطة لنعلم كم من وزير أو مسئول يتمسك بتلابيب أكثر من وظيفة في الوقت نفسه، بل بعضهم قد يكون وزيرا ورئيس مجلس ادارة في شركة حكومية أو شركة خاصة بالاضافة الى كونه عضو برلمان ومسئول عن عدد من اللجان والورش والسمينارات وعضو أو رئيس مجلس ادارة بنك. كم من انتهى به عمره الى المعاش ولكنه ظل يعمل ويجدد له المنصب في عمله أو يتقلد عملا آخر أو اسندت له وظيفة مهمة لا تتناسب مع مؤهلاته ولكنه بالتزكية يستطيع أن يتقلد ذلك المنصب هذا غير الوظائف الخاصة بالترتيبات السياسية والسيادية والحزبية. لك ايضا أن ترى مناصب الولاة، الوزراء، الوزراء الولائيين، معظم الدستوريين لا تكاد تخطئ العين تخطيهم الفئة العمرية التي لا تستطيع مواكبة المجهود، اللهم الا التفوه ورفع الشعارات الرنانة، وهذا واضح في معظم أصحاب المناصب العسكرية الذين قد ترجلوا عن الوظيفة ولكن اسندت لهم مهام أكبر أي بعد النزول الى المعاش اسندت لهم واجبات تفوق طاقتهم العمرية، كأنما أنه لا يوجد من يستطيع أداء تلك المهام غيرهم. الغريب ايضا نستطيع أن نستجلي ذلك بوضوح بينما يتداعى مسئولي البلد بتوفير الوظائف لحل مشكلة العطالة ومشاريع تشغيل الخريجين وغيرها ولا نستطيع أن تصدق بذلك طالما أن هناك من يبقى هؤلاء من اصحاب المعاشات يتقلبون ويتمسكون بلابيب السقف الأعلى مما يتوقع أن يشغلها غيرهم. اذا ما رجعنا الى موضوع وزارة المعادن فمنذ الأمس القريب كانت هناك دعاية كبيرة استصحبت هذا الحدث وهي تظاهرة استقبال مؤتمر دعوة وزراء المعادن والمستثمرين العرب وغيرهم للترويج للمعادن في السودان وهي تظاهرة كبيرة ولنسأل أنفسنا عن الجهد والمال الذي صرف قبل استخراج أو الاستفادة من هذه المعادن وكم من مال توفر ومن أين استجلب هذا المال الذي صرف بينما تشكو وزارة المالية من عدم تمكنها من توفير المال اللازم لتسيير الحياة في كثير من المشاريع الحيوية التي تستطيع أن توفر العيش الكريم للانسان أو دعم الأدوية المنقذة للحياة. هل نحن في حوجة للصرف على هذه التظاهرات والمهرجانات. هذه نفس الطريقة الى تبخرت بها أموال البترول والتي ايضا صرفت في مقابل الدعاية والبهرجة ولم يشعر بوجوده المواطن الذي تغيب تماما في تلك الفترة. كم من مؤتمر اعد له بعناية وصرف عليه بعناية والهدف هو تلميع شخصيات أرادت أن تكون هي الرائدة في كل موضع حتى لو أدى ذلك الى سرقة الأفكار وهذا نو لب الموضوع. أتمنى أن يشعر المسئولون باعلاء كلمة الوطن قبل اعلاء شأنهم كأشخاص.

  3. لا حول و لا قوة الا بالله ،،،، مشاكل السودان حلها فقط في وقف النزاعات في جميع ارجائها دون البكاء على الاطلال وانتقاد بعضنا بعضا دون فائدة،،،،،

  4. ديل ياسيدى لايستطيعون العيش دون كذب واطلاق احلام اليقظة كلنا نتذكر جينما جاءو باليل وسرقو السلطة بماذا وعدو وما هو خطابهم وماهى الشعارات واحلامهم حينما تسلطو علينا ناكل مما نزرع ونلبس مما نصنع وخلال 24 سنة لم ناكل ولم نلبس بل تلاشي ماكان عندنا قبل سرقتهم للسلطة وعدونا بوعود هائلة وخذلونا لاننا تراجعنا الى الوراء الاف الاميال وذا استمرت احلامهم حتما غدا لن تجد انسان ولا حيوان في السودان لانه سيكون مقبرة كبيرة لمن اراد ان يموت هولاء قوم لايخافون الله لذا وجب علينا الحزر من ما لايخاف الله الحل هو التكاتف واقتلاع هولاء اللصوص الكاذبون من الجزور والا لن يكون هناك سودان قديم او جديد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..