مدخل لتاريخ المدينة

يعتبر تاريخ المدن من الموضوعات الشيقة، لاسيما في البلدان ذات العمق التاريخي، حيث أن المدينة تختزن وراءها أو من خلالها الكثير من القصص والحكايات، بالأحرى السرديات التي تفسّر لنا بدرجة ما عملية النمو والتطور، وقصة الإنسان في حد ذاتها، صراعه مع الأزمنة والحضارة والمدنية. ولعل كلمة “مدينة” في حد ذاتها تخلق بعضا من الالتباس، ما المقصود بها بالضبط. لكن يمكن تجاوز ذلك من خلال النظر إلى المدلول العلمي للكلمة، من حيث تمييز المدينة على أساس السياق الاجتماعي وتطوره وبناء أنظمة فعالة للحياة، ووفق أبسط النظريات كما يشرحها الجغرافي الألماني فريدريتش راتزيل (1844-1904م) فإن المدينة هي “تجمُّع دائم من البشر، والمساكن البشرية، على نحو كبير، والذي يغطي مساحة كبيرة، ويتمركز موقعه بين طرق مرور رئيسة” . لكن بعيدا عن النظريات فإن المدينة اليوم هي ظاهرة من ظواهر الحضارة، وهي كيان معقد نسبيا من حيث المحتوى والمظهريات وهي حتما ذات دلالة أعمق من معناها التاريخي القديم، بحيث تصبح المدينة في المدلول الأكثر حداثة لها، ليس مجرد ما تتمظهر به من مبان وطرق وأشكال وإنما هي أعقد من ذلك في القيم والأنساق المعرفية ونظم الإنتاج وغيرها من الأمور التي تدثرها وراءها التي لا يمكن استنطاقها من ملمح مباشر وواضح، إلا عبر الاستعانة بالدراسات المتعمقة.
ويفرق بشكل جلي منذ القدم وإلى اليوم بين المدينة والريف، حيث أن الأولى تتميز بالعلاقات الاجتماعية الواسعة والطبقات الاجتماعية المتنوعة وتعدد نظم الإنتاج والشبكات الاقتصادية الواسعة للتجار والصناعيين والحرفيين وغيرهم، مع تنوع أشكال المباني والطرق وغيرها من علاقات التعقيد الشكلي والمتدثر، في حين أن الريف هو نسق متشابه وبسيط من المدلول المبدئي له، فهو يعمل على حرفة واحدة هي الزراعة في الغالب أو تربية الحيوانات، ويكون نظام الحياة الاجتماعية متقاربا وتتشابه لحد كبير القيم الاجتماعية والتقاليد المتوارثة ويصبح الإنسان مفردة تسبح في فضاء المجموع، في حين أن الفرد في المدينة تائه ومتفرد لذاته، وفي الوقت نفسه فإن حريته مقيدة بالقوانين والأنظمة والتشريعات التي تعمل كبدائل للأعراف والتقاليد في الأرياف.
يرى علماء الحضارة أن ظهور المدن في التاريخ البشري، ارتبط بالاستقرار وتعقيد الحياة بعد أن انتقل الإنسان من طور الصيد والزراعة نوعا ما والحرف التقليدية إلى التجارة والتصنيع لتبدأ عملية إنتاج الحضارة، وحدث ذلك في الألف السادس والخامس قبل الميلاد، إذ أن مدلول الحضارة دائما ما يرتبط بالمدينة أكثر من الريف، لأن المعنى لها يدس وراءه قصة الإبداع والرقي والنماء الذهني والفنون والفلسفة والقيم الإنسانية المعرفية. ولهذا فإن الفنون المدنية تستوعب مساحة شاسعة من حيث مفرداتها وارتكازها على ما تحمله المدن نفسها من ألوان الراحة والشقاء المتمازجين بشكل غريب، بحيث يصعب الفصل بينهما.
لقد أنتجت المدن في التاريخ ثلاثة أمور بارزة، لابد لأي باحث التوقف عندها وهي السياق الاقتصادي والسياسي والدفاعي، وهي أمور متداخلة نوعا ما لكنها تفضي إلى حقيقة المدينة كنموذج للحياة الإنسانية الحديثة، ورغبة الإنسان في أن يصنع أسطورته الشخصية على الكوكب، في الاقتصاد فالملمح الأول أن الحاجة البشرية المباشرة والنزعة الحيوانية في المأكل والمشرب، هي التي قررت الاستقرار والرغبة في التعايش الجمعي ومن ثم تحول ذلك من مجرد إشباع إلى قيمة في حد ذاتها يدور حولها الصراع البشري، فنشأت على اثرها الطبقات الاجتماعية والصراعات بينها، وتفاوت الناس في المآلات، وهذا من جهته ولّد السياقين الآخرين السياسي والدفاعي، فالسياسة نتجت كحاجة للنظام ثم تحولت فيما بعد لسلطة وسيطرة، كذلك فإن الدفاع كان قد نشأ عن الإحساس لدى كل مجموعة بشرية أو مدينة معينة بأنها في خطر دائم، ويجب عليها الاحتراز والحفاظ على مواردها وقيمها، ومن ثم تميزت المدن القديمة بالطابع الدفاعي والأسوار والقلاع وغيرها من وسائل الحماية، وهذا طبعا لم يمنع من الحروب الطاحنة عبر التاريخ التي راح ضحيتها الملايين ثم الملايين في سجل من الدماء المستمرة. وهكذا نشأت الجيوش بجوار الرغبة في تطوير الحساب، وأنظمة العمل والصناعة وغيرها من أدوات الحياة، وبات الإنسان يعيش بين عالمين من الشر والخير، الرضا والخديعة. وأنتج النظام السياسي أدواته كآلة الحكم والقضاء والتشريعات وغيرها من أنساق الدولة، الذي تداخل مع النسق الاقتصادي والثقافي والرغبة في الحياة وفق ظروف أفضل دائما كانت حلما فاضلا يتغير مع دولاب الزمن واستدارته، مع ترقي الوعي بالأنا والمجموع والرغبة الملحة لخلق معنى للوجود.
لكن يجب الانتباه إلى أن فكرة الصراع والسلطة ليست هي سياق مدني فحسب، بل هي قبل ذلك موجودة في مجتمعات الأرياف والبداوة، فالقبيلة التي هي شكل من أشكال البناء الهرمي الاجتماعي في مجتمع ما قبل المدينة، هي نسق دفاعي في المقام الأول يقوم على تغليف الخوف المتستر بالحاجات الأولية من مأكل ومشرب ومن ثم ربط ذلك بقيم القبيلة التي هي الإطار والغلاف لغريزة البقاء والجنس. لقد جاء الإنسان إلى المدن حاملا عنجهية القبيلة وميراثها لكي يجرب بها إنتاج مجتمعه الجديد، فأوجد قوانين مكان الأعراف، وحكاما يحلون مقام زعماء العشائر، ونظم من الأسترة الكثيفة لكل شيء، بحيث يمكن القول بأن المدن هي صورة الريف المستبطنة التي حاولت أن تتنكر عليه، لكي تكون هي رمزية جديدة، مع الاختلاف الكبير الذي حدث قطعا مع مرور القرون بحيث مزقت المدينة النسق التقليدي البدائي.

– يتبع –

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكرا ابننا عماد الروائي الدسم علي هذا التشريح وكما قال شاعرنا المجذوب (العيون الكبيرة كالمدن الكبيرة ) فالدينة بتعقيدها وما تنتج من فوائدها انها تهاجن القائل لخلق الشخصية القومية التي يستقيم بها حال الوطن خاصة الاوطان غير النتجانسه مثل السودان فالشخصية القومية تحتفي معها اواصر القبيلة واعرافها كمنتج جديبد لحياة جديدة وقوانين متطورة وهنا كنت اقول ان من اكبر الاخطار التي حدقت بنا اجتماعيا ضياع المشاريع القومية الكبيرة الي نهضت عليها المدن الكبيرة فهذه المشاريع في تقديري اسهامها الاجتماعي في بلورة الشخصية القومية افضل من الاقتادي مرات ومرات لانه يؤلف النسيج الاجتماعي ويذوب انا ونحن القديمه لانا ونحن الجديدة بافكارومفاهيم متطورة جديدة لذلك تري الان انتكاستنا بالرجوع الي القبلية بعد0عاما من الاستقلال وهذه محنة حقيقية تواجه الوطن وتغفل عنها الاليات السياسية الا من بعض النخب امثالكم الذين يحملون هم المسيتقبل لا الاني قطعا اقول بسبب من ان الدولة السودانية حين الاستقلال لم يكن لديها مشروع قومي للبناء الوطني لذلك كان البطء في تنمية الشعور القومي تجاه الوطنوشكرا لك علي هذه الاضافه ونعشم في المزيد لان المستقبل لكم

  2. شكرا ابننا عماد الروائي الدسم علي هذا التشريح وكما قال شاعرنا المجذوب (العيون الكبيرة كالمدن الكبيرة ) فالدينة بتعقيدها وما تنتج من فوائدها انها تهاجن القائل لخلق الشخصية القومية التي يستقيم بها حال الوطن خاصة الاوطان غير النتجانسه مثل السودان فالشخصية القومية تحتفي معها اواصر القبيلة واعرافها كمنتج جديبد لحياة جديدة وقوانين متطورة وهنا كنت اقول ان من اكبر الاخطار التي حدقت بنا اجتماعيا ضياع المشاريع القومية الكبيرة الي نهضت عليها المدن الكبيرة فهذه المشاريع في تقديري اسهامها الاجتماعي في بلورة الشخصية القومية افضل من الاقتادي مرات ومرات لانه يؤلف النسيج الاجتماعي ويذوب انا ونحن القديمه لانا ونحن الجديدة بافكارومفاهيم متطورة جديدة لذلك تري الان انتكاستنا بالرجوع الي القبلية بعد0عاما من الاستقلال وهذه محنة حقيقية تواجه الوطن وتغفل عنها الاليات السياسية الا من بعض النخب امثالكم الذين يحملون هم المسيتقبل لا الاني قطعا اقول بسبب من ان الدولة السودانية حين الاستقلال لم يكن لديها مشروع قومي للبناء الوطني لذلك كان البطء في تنمية الشعور القومي تجاه الوطنوشكرا لك علي هذه الاضافه ونعشم في المزيد لان المستقبل لكم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..