مقالات وآراء

الفكاهة في أمكنة ومواقيت الأزمة (2 – 3)

* ظلت الفكاهة نبتاً طيباً عبر الأزمنة، يحصده الناس بالرضا والحبور، وتتغذى أرواحهم من هذا النبت حتى ترتوي.. وقد تناولنا آنفاً بعض ما يتعلق بمآخذنا على النِكات التي تترك أثراً سالباً في المجتمع.. فعلى المستوى المناطقي أو القبلي قلنا بضرورة مراعاة مشاعر الذين تصيبهم النكات حينما تتبلور بمحمولات تنتقص من كيانهم.. لكننا في هذا الجزء نغوص أكثر داخل كتاب (الفكاهة في الشعر السوداني) والذي قدّم له مؤلفه عبدالحميد محمد أحمد بالتالي: (هذا الكتاب جرعة ذات مذاق مستساغ، القصد منه عون القارئ على اجتياز ساعة النكد وخلع جلباب البؤس والهزيمة، وهو ليس ضحكاً يُنسي الجد، ولا دعابة تفرط فتنقلب الآية، ولكنه كتاب بمعالجات بسيطة، تتفوق فيه الصفة الشخصية على الاتجاه الجماعي). انتهى.
* أعلاه مقتضب من مقدمة الطبعة الثانية، وقد أحسن المؤلف في هذا الكتاب كما أفلح في كتب أخرى (تراثية ــ ثقافية)؛ فأسلوبه البسيط الرصين مدعاة للانسجام مع صفحات ثرة نفحها للقارئ؛ ومنها (الفكاهة في الشعر السوداني) الذي أهداه إلى صديقه الدكتور الجليل عبدالله حمدنا الله. والكتاب يحتاج منا لجهد يوازي ــ على الأقل ــ جهد كاتبه المضني في البحث.. لكننا هنا نتناوله من باب الحفاوة به؛ وكفى..! لقد تنوعت فيه بساتين الأدب الضاحك، وتفرعت لمختلف الضروب والدروب.. احتشد المحتوى العام للكتاب بالواقعية؛ وما تحمله من ثراء الصور (مهما تنكّدت الأحوال).. وكأن بعض قصائده التي اختارها المؤلف نُظِّمَت اليوم.. فتأمل واحدة:
ساءت الحالُ في كل شيء
ورخيص الأشياء أصبح غالي
كل شيء جميل قد اختفى
في غياهب الجُب تحت الطبالي
واختفى الضمير في كل جوف
وكبير القلوب أصبح سالي
كل رونق في الحياة تلاشى
“وطلاه بأسود اللون طالي”
أنت بالمال شخص عظيم
دونه أنت صفرُ الشمال
أنت بالمال شيخ جليلٌ
عالم بالأمور في كل حال
وفقير الناس يمشي هزيلاً
مثل طيف في الأرض أو كالخيال
غارق في الهموم وهو مريض
ضامر البطن والجيب خالي
لم يجد ما يريد إلاّ بمالٍ
هو للأمركان أو بالريال
وثعالب الناس تعلو وترقى للعلا
رغم أنف الرجال
للحياة وجهان: وجه جميل
وهناك وجه قبيح كالنعال
* الإشارة للأمركان تعني (الدولار) كما بيّن الكاتب.. والقصيدة للشاعر عمر الأزهري؛ تحتوي على مفارقات ما تزال مجتمعاتنا تعاني منها، ألا وهي الفوارق الطبقية بين الغِنى الفاحش والفقر المُهلِك.. إذ يكثر اليوم ثعالب الناس (الكانزون) وبمعدلات كبيرة لا تقارن بزمان القصيدة التي كُتبت في أواخر القرن العشرين.. ورغم أن نمط القصيدة من ذاك النظم الجائر بالشكوى؛ إلّا أن وجه الفكاهة مستبطن في واقعيتها ولغتها؛ وزمانها..! لا لعن فيها ولا (خدش)؛ لكنها تذكرة محمودة بسخرية الشاعر الذي يبدو تأسِّيه بالحال، مع اتزان مقبول في النظم (للحياة وجهان: وجه جميل.. وهناك وجه قبيح كالنعال).
* نطالع نموذجاً آخر من نماذج (الثمانينيات) في قصيدة تلامس واقعنا اليوم مع سوء المواصلات العامة، وهي لشاعر يحمل اسم (الدرويش) بعنوان (يا دار مازدا)؛ أشار الكاتب بأنها نشرت في صحيفة (ألوان ــ 6 أبريل 1988) وجاءت هذه القصيدة على غرار معلقة عنترة بن شداد المعروفة (هل غادر الشعراء من متردم).. أما المكان ــ الموضح في القصيدة ــ فهو (البراري)؛ الأحياء الشهيرة في الخرطوم.. يقول الدرويش:
هل غادر البصات من مترجِّلِ
أم هل ركبت البص بعد تبسمُلِ
يا دار (مازدة) بالبراري تجمّلي
تيهي نهاراً دار مازدة واقدلي
هل تبلِغني دارها عربية
عُرفت بسير في الشوارع مُهملِ
فيها اثنتان وأربعون مصيبة
غير المقاعد ثم ضيق المدخل
ولقد ذهبتُ إلى المواقع مرة
غراء بعد تردد وتحوقلِ
هذي الجموع الراكبين توجهت للباص
بين مُكبِّرٍ ومُهللِ
من واقف بالباب أو متعلقٍ
أو راكب فوق السلالم مُبتلي
والراكبون الأولون تمهلوا
فوق المقاعد جمعهم لم يحفلِ
وأرى بكاسي قد كرهتُ ركوبها
فيشدني فرط الغبَا وتطفلي
ولقد ركبت الباص يوماً غلطة
يهمى مؤخرهُ بزيت الفرمَلِ
والباص لو عرفت حقيقة أمره
مرٌ مذاقته كطعم الحنظلِ
أو جرعة من حرجل محلولةٍ
أو صُرّةٍ من كُمبَةٍ وقرنفلِ
يا موطني لا زلت أخضر يانعاً
بين الكواكب والسماكِ الأعزلِ
فالنيل يجري بالرحيق السلسلِ
هذه معلقتي المحكّم نسجها
بين القصائد في الرعيل الأول
لو أن ذا بصٍ تبجّح بعدها
لكويته فوق النواظر من علِ..!
الحراك السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..