سليل الفراديس.. التواضع والعظمة..!

عثمان شبونة
* في ذكرى العظماء براح لانتعاشات جديدة تنتشل من الوجدان كدره، وتأخذه إلى مسالك الأوبة لفضاء السحر.. ومهما حملت الأيام مصائرنا التعيسة لابد من ضفة نستكين إليها، إن لم تكن في الواقع ففي الحلم سعة.. والأحلام كالأغنيات في رحماتها ــ ليست ترفاً ــ إنما ضرورة لنفس كل سليم..!
* كلما استمعتُ إلى مقدماته الموسيقية تساءلت في المدى بين ما كان وما هو كائن.. وهل ترك العباقرة فرصة (للمغنين) يمنحوننا بها أملاً لما سيكون؟! لقد كان ارتباطنا بأغنيات هذا الفنان لتحقيق حلم العودة لمرافئ بعيدة تهرول إليها بنات أرواحنا حين يداهمها مخاض الحنين أو يحتلّها ظمأ أو يعصفها شجن..!
* هذا العبقري زاد على الفن الأصيل بذات توّاقة إلى “الصلات الطيبة” محبوباً في شخصه قبل أن يعشق الملايين أغنيات حِسان كأن مهبطها من سماء عجيب على جناحِ وحىٍ أعجب..! أغنيات تفوق الجمال لمراقٍ (حورية) تجعل بعض النقاد مستزيدين لسماعها أكثر من ميلهم إلى أدواتهم لتحليلها وإعمال ذوائقهم ومعارفهم الأكاديمية في كونها.. فثمة عوالم مهما طالها إلهام الناقد فهو دونها.. والذوّاق المتميز ــ أيّاً كان تأهيله ــ فنان يثري كيانه بالتأمل الصامت، وذا أبلغ من الكلام..!
* هو عثمان حسين.. الفريد المتفرد.. العظيم المتواضع.. الفنان الذي حين يرعشه (ملاك اللحن) في المنام يهب كمن سرى في خلاياه (تيار) إلهي.. أو كما حدثني في حوار طويل في أحد أيام 2007م.. أما سبب الحوار فهو قصة تخبرنا أن عثمان حسين لم يكن مطرباً فخماً فحسب، بل يضاف لألحانه الماسية حس إنساني رفيع كما في القصة التالية:
* في أقصى شمال أمدرمان (منطقة الجخيص) تناثرت بيوت الطين فرحة؛ والوجوه الطيبة التي استقبلتنا رمت كل شقائها مبتهجة بهذا الفنان الذي كنا برفقته.. في حوش واسع يزينه الرمل (المرشوش) جلسنا.. نحن في منزل أسرة بسيطة عفيفة (من رفاعة) ساقها القدر لهذا المكان.. توفى والدهم وهو عاشق بشغف لأغنيات عثمان حسين كباقي الأسرة بلا استثناء، ومثلما زينوا وجدانهم بإبداعاته تزينت جدرانهم بصوره.. سمع عثمان حسين بأمر عشاقِه الذين يسكنون في أقصى المدينة؛ أخبره بذلك الدكتور حسن التجاني (أستاذ بكلية الشرطة ومدير مركز الشريف الهندي للدراسات) ومن ثم هاتفني ابن الأسرة الزميل علي البصير بأنني مدعو لحدث فريد.. ساعة وربع من المسير ووصلنا مع الفنان الذي غلبه البكاء وتبللت (نظارته).. متأثراً بحفاوة الإستقبال.. لا صيوان ولا كلفة ولا (بهرجة).. فقط بذخ المحبة الذي طغى على الكل وحوّل المكان إلى مهرجان لا يوصف.. سراير متواضعة وملايات نظيفة وحوش قروي (منعِش) أعاد لعثمان حسين زمن قديم وهو يتأمل أهل الدار بودٍ مبتسم ودمعتان تمردتا على الرمل..!
* ترحّم الفنان على روح صاحب المنزل (صديق حاج الزاكي) الذي لم يلتقيه.. وعزّى أسرته وعبّر عن فخره بها لدرجة لا توصفها الحروف.. وضمن ما قاله عثمان حسين أنه لن ينسى حدثان مهمان في حياته: تكريم بائعات الشاي له؛ وتقديمهن هدية عبارة عن (عصا أنيقة)؛ ثم لحظة التكريم هذه في بيت الأسرة البسيطة التي طلبت منه أن يكون أحد أفرادها وقال أن هذا شرف له.
* آل المرحوم صديق حاج الزاكي ومعظمهم من كريماته قدموا ترحيبهم في حضرة فنانهم، ولم يدهشهم تواضعه الجم وجبر خاطرهم؛ فهو إنسان نادر في شفافيته وحنينه الخاص وحبه للخير ومبادلة معجبيه المشاعر.. هذه الزيارة خففت الوجع على البيت (الزاكي) المكلوم..! ثم قدمتُ بدوري كلمة نيابة عن بعض الصحفيين تعبيراً عن سعادتي بالحدث.. وتوالت الأشعار والنثريات في حق المطرب العظيم من (البنين والبنات).. وفي طريق العودة المسائية من المحفل أدرت آلة التسجيل مستثمراً طول المشوار لأحظى بحوار مع فنان كنت أظن أنني أحبه أكثر من غيري.. فقد أسرتني عذوبة في ألحانه وطهر وبريق طالما كتبت عنه.. ضمن ما قاله عثمان حسين: إنه لن ينام من فرط سعادته بتكريم أسرة حاج الزاكي.. وجهه يكاد يهرول فرحاً داخل السيارة وقتئذ.. بث في ذلك الحوار الكثير من الأسرار الخاصة بأعماله (الجياد) ولم يدس ولعه بأغنيته المفضلة (السنين) للفنان الطيب عبدالله.. تحدث طويلاً بالثناء حين سألته عن الفنانين العاقب محمد حسن وأحمد الجابري والتاج مصطفى.
* في مثل هذا التاريخ (السبت 7 يونيو 2008م) رحل “سليل الفراديس”.. ونجتر الآن سيرته الذهبية كنموذج للفنان (الأعجوبة) المتفوق على ذاته بألحان الخلود منذ الأربعينيات… في يوم رحيله حدثني الشاعر الإنسان د. الزين عمارة بصوت بحَّهُ الحزن: (أشعر أن نصفي مفقود بعد غيابه)..! لم يكن ارتباط الزين بالفنان أغنية فحسب، بل كان شيئاً حميماً من الإلفة المتبادلة (ويشتركان في صفات إنسانية جمّة) ؛ كان الشاعر الطبيب المعروف كلما عاد من غربته إلى السودان يزور صديقه الفنان أولاً.. د. الزين كتب لعثمان (أوعديني) فنالت شهرتها مثلما راجت الأغنية المحببة (من زمن مستني عودة قلبي راحل) أو (عودة قلب) التي كتبها الزين للمطرب الكبير أبو داوود. اللهم أشمل الأموات والأحياء برحمتك.