
يروي الكاتب السوداني فرانسيس دينق في كتابه طائر الشؤم؛ ما كتبه عن عهد الأسلاف ليقول ( فبدلاً من أن نسمح للأجانب بإنهاء زعامتنا القديمة، سيكون من الأفضل أن ننسحب بطريقة طبيعية ونترك جيل الشباب، ليتولوا سلطاتهم بالطرق التي يعرفونها جيداً. لنواصل نحن مراقبة أحوالهم عن كثب وجهودهم. لكي يحتفظوا بأسماء قومنا حية. ويحققوا تحكماً مؤثراً على أمورهم). انتهى؛؛؛
لا تزال هذه الجزئية من الرواية تمثل مقياساً لحالة البلاء التي أصابت الدولة السودانية وعطلت وحدتها ونهجها في التحول المنشود.
ولا تزال قضايا الإصلاح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، تتأزم بفعل المشاحنات الأيديولوجية وبذات المناهج المتخلفة، غايةً في البعد عن وعي هذا الجيل وصياغات حياته.
ولا يمكن لنا أو ينبغي، أن نقع في تفسيرات أحادية يظن البعض أنها مفتاح الحلول لأزماتنا. فمن غير المنطق أن نصطف وراء مطالب لا تزداد إلا بعداً عن التحول والانتقال الفعلي، بفعل تصرفات القائمين عليها. وطرحها على نقيض مدلولاتها. لترتد علينا بمزيدٍ من الخسائر وضياع الجهد. فمن حين لآخر نكتشف أن الداعين لتطوير أدوات الحكم المحلي لا يرغبون الا في انتقاصها. وأن المنادين بالحرية لا رغبة لهم إلا بمزيدٍ من ممارسة الإستبداد. ودعوتهم إلى التحول الديمقراطي، لا تعني عندهم سوى الوصايا على الشعوب.
وبذلك نرى ألاعيب المصالح تفتك بنا، وبشكل خفي ويعتقد البعض أن خلافاتنا حول الفكرة ترتبط بالطريقة وكيفية إدارتها. وهذا في حد ذاته يجعلنا نطرح عدداً من التساؤلات. بالنظر إلى الأزمات التي نعيشها، فتتحول قناعاتنا حول الفكرة ذاتها.
نحن هنا بحاجه الى مهمة عاجلة لا تقبل المماطلة والتأخير تجاه الأفكار التي تتحكم في مصائرنا بخطابها وتصنيفاتها ومقولاتها. لذا وجب علينا مواجهتها ونسف يقينياتها. وصوغ أفكار تتماشى مع وعينا ومطلوباتنا للتغيير والانتقال والتحول.
فلم يعد الفعل السياسي يرتبط بالتغيير الحلقومي والعواء. بل يجب أن يدرك صاحبه، أهمية إقرار العدل شكلاً وموضوعاً كمصدر لشرعية السلطة. وأن الديمقراطية التي يدّعي تبنيها، تتطلب أخلاقاً ديمقراطية، تلتقي عندها ثقافة القادة مع ثقافة الجماهير. وأن الإعتراف بالتنوع تتبعه ممارسه حقيقية في الإيمان بكرامة الفرد وذاته، فالثقة السياسية ترتبط بالثقة الاجتماعية. ومن هنا تبدأ المواطنة المسؤولة ويتحقق الرضا.
فحالة السودان هذه لا ترتبط بالرضا النخبوي، لمن يرى في قادة النادي القديم خيراً. لأن ذلك يمثل وضعاً سياسياً شائهاً ومخالفاً لقيم المجتمع وتحولاته.
نعني بذلك أن أزمة الدولة تقع مسئوليتها على النادي السياسي القديم الذي عجز عن تقديم رؤى واقعية وأداء فعلياً ينسجم والأطر الإجتماعية لمكونات الدولة. بل عمدت هذه القوى إلى التركيز على مركزية تظن أنها لوحدها تمتلك حق الحكم والتعبير عن الآخر وقوده، ببناء مراكز عبر إعلامها المشوه والمصنوع للعمل على ترميز واجهات وفئات تعمل على إستمرار الأوضاع القائمة في مواجهة القوى الصاعدة التي ترغب في التحول الشامل الجذري والعميق. سواء تعلق الأمر باليمين أو اليسار أو الطائفة.
وحتى لا نجد أنفسنا حكاماً ومحكوماً، فاعليين سياسين وشعب في حالة مأزومة. ومن قبيل عدم الرشد والتعامي عن الأخطاء. انطلقت شرارة ثورة ديسمبر كثورة شعبية، هدفت من خلال شعاراتها إلى ترميز ثقافة واحدة، بإزاء الثقافات المعارضة بفعل الخطاب الأحادي الذي قسم الدولة، واجهضها مشروعها المستقبلي. وتبني جيل الثورة خيارات الوعي السياسي لتدارك المطالب الكثيرة لمختلف القوى الاجتماعية والمناطقية. وإبراز ذلك في التصدي للأزمات التي شابت الدولة السودانية وقصرت قامتها.
فالفاعل السياسي الحقيقي قد تجاوز هذا الصراع بثورته المفاهيمية. وبدأت رغبته في التغيير تنطلق من الإستجابة الفعلية لمطالبه الناتجة عن عجز المؤسسات وتتطلعه إلى أن تلعب دوراً مهماً في علاج أزمة الشرعية والمشاركة وتقرير السياسة العامة للدولة. مع الوضع في الاعتبار معالجة الأزمات المرتبطة بالبناء الاجتماعي والتكوين الاقتصادي والثقافة السياسية الناتجة عن الحراك الحياتي اليومي كمدخل للتصالح والتوفيق بين المكونات.
وفي ذلك نقول أن التحولات التي جرت بفعل الشباب أدت إلى زيادة معدلات تأثيرهم في القرارات السياسية عبر تنظيمات سياسية شبابية لا يمكن تجاوزها أو الانقضاض عليها|.
وإذا كان السودان حتى عهد قريب تتغلغل فيه الأحزاب القديمة، وتحشد من وسطه إلى أطرافه، عدداً من المؤيدين وتستغلهم لضعف وعيهم. دون الإهتمام بمطلوبات التنمية. يجعل رفض الشارع لكل ما هو قديم مبرراً. وأنه كان سبباً وراء كل التوترات التي سيطرت على المشهد السياسي في البلاد. ولا تقنعهم تلك الشعارات القديمة التي أهلكته. بفعل الممارسة التي نراها يوماً بعد يوم.
وبما أن النظم السياسية في حالة تغير مستمر. وأن التغيير عملية مستمرة ومطلوبة لذاتها. إلا أن الكثيرين لا يرون في التغيير سوى تظاهرات تبدأ من الشعب لتنتهي عندهم. وتظل رغبتهم في الحكم مرتبطة بفلهوتهم وتاريخهم المبنى على الزيف.
ومن هنا لا مجال لإنكار دور النادي السياسي القديم في راهننا المأزوم، وواقعنا المتردي. ولإنصاف هذا الجيل الطموح، اعترافاً بما أنجزه وحققه. لابد من جعله يقود مبادرة التحول عبر سلسلة من الحوارات لتكوين منصة رئيسة تخاطب مطالبه وتنحاز إلى مشروعه الوطني عبر صناعة ذاته وبناء قدراته ومعارفه وصوغ أفكاره.
وحتى لا ترتد علينا هذه الأزمات عبر أصحاب الحلول الناعمة التي بدأ الترتيب لها. ونحن كجيل، قد دفعنا ثمناً باهظاً، عنفاً واحتراباً، فقراً وتخلفاً. لا نرضى بحلول لا تعبر عن وعينا – ولا تغير من قواعد اللعبة السياسية – ولا تقوى على الصمود وإستدامة السلام – ولا تنهي أزمة المشاركة والشرعية والإندماج القومي.
وبتبني خيارات أكثر نضجاً ووعياً وشفافية يتطلب الأمر الدعوة والتحضير اللازم – لقيام مؤتمر دستوري كمسألة ضرورية لا مكان للإلتفاف عليها – ولا سبيل لبناء حقيقي للدولة إلا عبرها – ولن تكتمل أركان الوحدة الطوعية والإندماج الكامل الا بها. وذلك تأكيداً لدعم الثقافة السياسية التي أنتجتها ثورة ديسمبر الشعبية – واستكمالاً لمطلوبات الثورة الإجتماعية بقطع الطريق أمام سماسرة السلطة والحروب.
مؤتمر دستوري يشترك الجميع في انتاج وثيقته النهائية يبدأ من القواعد المحلية ويعمل على اجتراح الحلول التي من شأنها أن تؤسس لدولة القانون والمؤسسات.
مؤتمر دستوري يتحدد عبره شكل الدولة، ونظام الحكم. لا مكان فيه لنزعات دينية أو عرقية، أو عنصرية . تتأسس على مشتركاته دولة الرضا التام، لتكون المواطنة هي الأساس للحقوق والواجبات. ولأجل ذلك نعمل-تحقيقا للرضا الذي يجعل المواطن يشترك طواعية في النهوض بالمجتمع الذي ينتمي إليه ليتصل الأمر بكامله بتحقيق الاستقرار.
وينهي التسلط.
ولنري،،،
لكم الود جميعاً والسلام
عبدالرحمن سليمان بابكري