
عاد بنيامين نتنياهو من مدينة عنتيبي الأوغندية وهو يحمل بشائر لشعبه، كما فعل رئيس وزراء بريطانيا نيفيل شامبرلين عندما أعلن لقومه في الثلاثينات بأنه عاد من المانيا “بسلام الشجعان”، بينما عاد البرهان ليجد امامه عاصمة منقسمة بين مؤيد للتطبيع مع اسرائيل ورافض له.
ترتبط عنتيبي بذكرى خاصة لدى أسرة نتنياهو، ففي هذه المدينة لقى الضابط في القوات الخاصة يونتان نتنياهو، شقيق بنيامين، مصرعه وهو يحاول تحرير رهائن إسرائيليين من طائرة اختطفتها مجموعة وديع حداد الفلسطينية في يوليو 1976. كان يونتان، من أحد قادة العملية التي تم فيها تحرير 102 من الرهائن من اصل 106، وتعتبر العملية في سجل قوات الدفاع الاسرائيلية من الانجازات الرائعة لقوات الكوماندوس. ومن نفس المدينة عاد نتنياهو الأخ وهو يحمل مفاتيح العلاقة مع “عاصمة اللاءات الثلاث”.
انغماس المثقف في تبرير الرفض أو القبول للخطوة يجرده من دوره الكاشف والتنويري، وهذا ما كشفه التعاطي مع هذا اللقاء، إذ أن القصة تتجاوز الرفض والقبول المجردين. لنبدأ من تصريح البرهان الذي قال بأن اللقاء تم بناء على مصلحة الشعب السوداني العليا والأمن الوطني. هنا يأتي البرهان متسقا في تصرفه مع المؤسسة التي ينتمي لها: قوات الشعب المسلحة. نخبة هذه القوات تعتبر أن “الأمن الوطني” و “المصلحة العليا للسودان” هما “ملك” خاص لها، وهي من تستطيع تحديدهما والعمل بناء عليهما. ثم يجئ ضابط آخر وهو المتحدث باسم القوات المسلحة ليقول بأن اتفاق السماح للطائرات الاسرائيلية بعبور أجواء السودان يأتي ضمن “تبادل للمصالح”. هذه الحقيقة أكثر وضوحا في البيان رقم واحد لقادة الانقلابات: عبود، نميري، البشير، ابن عوف كل هؤلاء جاءوا إلى السلطة ” لمصلحة الشعب السوداني” وأمنه وهذه قناعات ثابتة وشعور عميق لدى النخبة العسكرية في السودان، وضمن هذا الفهم فإن أي قرار مصيري لا يجب أن يتم أتخاذه خارج هذه المؤسسة.
لكن السؤال: كم عدد الذين علموا بترتيبات هذا اللقاء من هذه النخبة؟ عشرة، عشرون، ثلاثون، أي كان العدد فإن ذلك يعني بأن هذا “العدد” هو الذي يحدد المصلحة العليا للشعب وأمنه. والسؤال الآخر: هل “اتضحت” المصلحة العليا الآن ولدى لقاء “نتنياهو”؟ الشريك في الاجتماع، اذن يملك بنيامين نتنياهو، “حصة” كبيرة في أمن ومصلحة السودان حسب ما يمكن قراءته من تصريح البرهان.
من ناحية دبلوماسية دخل نتنياهو هذا الاجتماع وهو في أسوأ مراحل قيادته لإسرائيل، وبالنسبة له اختراق عاصمة اللاءات الثلاث هو انجاز معتبر في أوقات صعبة. أما البرهان فدخل في دوامة حتى مع الحكومة التي يشاركها الحكم.
تبدو المؤشرات واتصال بومبيو للتهنئة باللقاء بأن اللقاء تم في عنتيبي والعين على واشنطن وتحريكها لمكافأة الخرطوم، وهنا تبرز ناحية واحدة ” من مصلحة السودان” وليس كل المصالح، ويبقى المؤشر بأن اللقاء جاء نتيجة ضغوط تصل إلى درجة الاملاء المباشر، ولكن الضابط الحاضر، والذي لا يعير شريكه المدني أي اعتبار، يبدو الأقدر على كتابة الإملاءات دون أي أخطاء، وبانضباط عسكري لا يضارع.
فتحي عثمان