الغناء ديوان الثقافة السودانية

نجد مفهوم الديوان في الثقافة العربية والتي تسمي الشعر بديوان العرب، ومفهوم الديوان في الثقافة يمثل الهوية الحقيقية لمجتمع ما باعتباره المرجع التاريخي الذي يدون الأحداث الاجتماعية وظروفها ونتائجها ويستبطن كذلك منحي فكرى حيث يقود رموز الديوان المجتمعات من خلال تناولهم للظواهر الاجتماعية وطريقة معالجتها. والديوان الثقافي هو في الأساس ضرب فني لممارسة جزء محدد من الإنسانية ولكن يتم تحويره من جانب المجتمع ليصبح محصلة للهوية، وتلجا إليه الثقافات التي لم تؤسس لرؤية فكرية حتى تحتفظ بذاتها بعيدا عن الصراع الفكري مع الثقافات الأخرى.
واستمر الشعر في الثقافة العربية يمثل الهوية الحقيقية التي تحمل كل التفاصيل التاريخية للمجتمع العربي حتى أنشأت النخب العربية فلسفتها الخاصة فتراجع الشعر إلى معناه الحقيقي كضرب فني وأصبح داعم للرؤية التي أنشأتها تلك النخب. فعند وجود الرؤية الفكرية يرجع التوازن للثقافة وتحتل كل ضروب الممارسة الإنسانية مكانها داخل الكل الثقافي بعيدا عن هاجس الهوية الذي يؤرق المجتمعات التي لم تصل إلى رؤيتها الفكرية بعد.

والمجتمعات التي لم تصل إلى رؤيتها الفكرية تختلف من حيث اختيار ديوانها الثقافي، فنجد بعض المجتمعات تختار التمثيل أو الرواية وغيره، اما في المجتمع السوداني فنجد ان ديوان الثقافة السودانية هو الغناء. فالغناء بكل تفاصيله اذا ليس ضرب فني فقط ولكنه يمثل هوية المجتمع والمرجع التاريخي لتفاصيل الإنسانية وقيمها. وتحمل الغناء عبء الاحتفاظ بجوهر الإنسانية عند الإنسان السوداني وعمل على توصيلها بصورة متزنة تلاءم المجتمع وظروفه إلى ان جاءت السلطة الحاكمة الآن في السودان والتي تعتمد على الفلسفة العربية كمرجعية فكرية وحاولت من خلالها إعادة تشكيل المجتمع السوداني بناء على تلك الفلسفة، وعملت على طمس ملامح وهوية الإنسان السوداني وذلك بتجريم وتحريم الغناء الذي يحمل بداخله الهوية السودانية وتاريخيها وتم وصفه باللهو العبث وكذلك ممارسيه، ووظف النظام الحاكم كل أدوات الدولة وأجهزتها في فترته الأولى لإلغاء ديوان الثقافة السودانية وهو الغناء، وعندما وجدوا مقاومة من جانب المجتمع اتوا بمصفي من داخل الفكر العربي لتنقيته كما يعتقدون.
عند هذا الحد وعندما وجد المجتمع السوداني التهديد ومحاولات طمس هويته وتاريخيه وقيمه التي يحملها الغناء، استخدم المجتمع طرقه الخاصة في الرد على محاولات السلطة القائمة وهو استخدام الكثافة في الكم الغنائي من أغنيات أو فنانين، فلم يترك الساحة لفرد أو اثنين حتى يتم احتوائهم من قبل السلطة الحاكمة. فما يصور كهرج أو فوضي في الساحة الغنائية السودانية يرجع في الأساس إلى رد المجتمع على محاولات السلطة الحاكمة والكبت والتجريم الذي مارسته طوال سنينها الأولى والذي أتي برد فعل عكسي استمر إلى الآن، فإذا لم تزول تلك الرؤية التحريمية والتجريمية لن يهدا بال للمجتمع في الدفاع عن هويته الأولى والأساسية وديوانه القيمي والتاريخي الموجود داخل الغناء.

فالغناء اذا بكل تفاصيله عند الثقافة السودانية ليس ضرب فني فقط ولكنه ديوان يحمل في داخله كل ملامح وقيم الإنسان السوداني باختلاف مجتمعاته، وعلى النقاد من خارج دائرة التجريم والتحريم أي خارج دائرة الفلسفة العربية ان تترفق بهذا الضرب وهذا المجال، فقد عاني الأمرين في ظل السلطة الحاكمة وهي تفتح أبواب الشرطة والمحاكم والمساجد لضرب وطمس ملامح الشخصية السودانية الموجودة داخله. وظل الغناء رغم ما يواجهه ظل يلاحق الظواهر الاجتماعية باختلاف المجتمعات وتحولاتها في محاولة للمساهمة في إبراز تلك الظواهر ومعالجة السلبية منها، وعلينا إدراك ان لكل أغنية جمهورها وتأثيرها نتيجة لما تتناوله من قيم ومعاني، فنقد الغناء يجب ان يصطحب معه معني الأغنية بالإضافة لأدواتها.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكرا” لك سيدي خالد (يس) على المقال الممتع ، ولكني اسألك بغيظ : لماذا تكتب اسم والدك هكذا : (يس)، بدلا” من الرسم الصحيح : (ياسين) ؟؟؟
    اعلم ان هذا السؤال قد يبدو غريبا” ولكني اشد علما” وقناعة” بوجاهته.

    خروج :

    لماذا نكون احيانا” اسرى لعلومات خاطئة ، ونظل نجترها دون تدبر او تمحيص ؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..