مقالات سياسية

بَيْنَ رِحَابِ الحُرِّيَّةِ وحَظَائِرِ الاسْتِبْدَاد!

كمال الجزولي

(1)
أضحكتني، مليَّاً، صبيحة عيد الأضحى المبارك، نكتة مصوَّرة بثَّتها بعض القنوات الفضائيَّة على سبيل المعايدة المستطرفة، حيث دلف، بغتة، جزار بسكين، وساطور، وشارب كثٍّ، ووجه مكفهر، إلى حظيرة خراف؛ فما أن رأته حتَّى فزعت، وهاجت، وماجت، ثمَّ ما لبثت أن انقلبت تتقافز، وتنقنق، فاردة أجنحة متخيَّلة، ونافشة ريشاً متوهَّماً، محاوِلة خــداعـه بأنهـا “فراخ” لا “خـراف”، حـتَّى لقد وضع أحـدها بيضـة حقيقيَّة، ولكـن .. هيهات!
تلك المعايدة خفيفة الظلِّ استدعت إلى ذاكرتي، على الفور، نكتة أخرى، فضلاً عن حكاية طريفة. النكتة الأخرى تُروى عن دكتاتور شهير فقد غليونه عقب اجتماع صباحي كان منعقداً بمكتبه لرهط من معاونيه، فطفق يبحث عنه وسط الإضبارات والملفَّات بلا جدوى؛ ولمَّا لم يجده هاتف، كعادته، مدير مخابراته الذي كان يعدُّه ذراعه اليمنى، لطاعته العمياء، وولائه الشَّديد، طالباً منه البحث عن الغليون، فلربَّما أخذه أحدهم، دون قصد، بين أوراقه!
غير أن الدكتاتور ما لبث أن وجد الغليون، بالمصادفة، على طاولة جانبيَّة. وبعد أن أشعله، ونفث دخانه، متلذِّذاً، تذكر مدير مخابراته، فاتَّصل يبلغه:
ــ “خلاص .. لا داعي لأن تزعج نفسك، لقد وجدته”!
لكن ردَّ مدير المخابرات المندهش سرعان ما جاءه من الطرف الآخر:
ــ “مستحيل يا سيِّدي المبجَّل .. فقد اعترف خمسة، حتَّى الآن، بأنهم أخذوه”!
?…………………………..
?…………………………..
أما الحكاية الطريفة فتُروى عن خراف دخل الجَّزَّار زريبتها، كالعادة، بسكِّينة حادَّة تلمع في يمناه، واختار كبشاً فتيَّاً، ضخم البنية، هائل القرنين، وحاول سحبه لذبحه في المسلخ المجاور. شعر الكبش العمــلاق بالرَّهبة، فتذكَّر القاعدة رقم واحد في دستور القطيع، والتي تقول: “عندمـا يقع الاختيار عليك فلا تقاوم، لأن هـذا لن ينفعك، فضلاً عن أنه سيُغضب عليك الجَّزار، ويعرِّض حياتك وحياة أهلك للخطر”! وعلى الفور قرَّر الكبش أن يتجاهل تلك القاعدة، قائلاً لنفسه: “يا لها من قاعدة حمقاء؛ فإذا لم تنفعني مقاومتي؛ فإنَّها، بالتَّأكيد، لن تضرَّني”! ثمَّ ما لبث أن انتفض انتفاضة أسد هصور، وفاجأ الجَّزَّار بنطحة عظيمة مكَّنته من الإفلات، والروغان وسط القطيع.
أمسك الجَّزار بخروف آخر مسالم، مستسلم، لا يبدي أيَّة مقاومة، ولا يُصدر إلا صوتاً خافتاً، خانعاً، يودِّع به أهله، فسحبه، بسهولة، وخرج به.
هكذا بقيت الخراف، في كلِّ مرَّة، تنتظر الموت، واحداً فواحد، دون أن تنسى تذكير من عليه الدَّور بالقاعدة: “لا للمقاومة”!
وذات مساء تعب الجَّزَّار، فذهب يأخذ قسطاً من الرَّاحة، مؤجِّلاً بقيَّة عمله إلى الصَّباح. وكان الكبش المتمرِّد قد أضمر مغادرة الزَّريبة، وإخراج بقيَّة القطيع معه. لكن الخراف وقفت ترقبه ينطح السِّياج وحده، مندهشة من جرأته وتهوُّره. لم يكن السِّياج قويَّاً، فالجزَّار كان يدرك أن خرافه أجبن من أن تحاول الهروب! بعد قليل، وبموالاة النَّطح، انهار السِّياج، فلم يصدِّق الكبش عينيه، وأخذ يستحثُّ رفاقه ليهربوا معه قبل أن يطلع الصَّباح. غير أنه فوجئ بعدم استجابتهم، بل راحوا يشتمونه، ويرتعدون رعباً من أن يكتشف الجَّزَّار ما حدث! مع ذلك عزَّ على الكبش أن ينجو بجلده وحده، فأخذ يرمقهم في أسف، منتظراً، بلا طائل، أن يثوبوا إلى رشدهم، ولو في آخر لحظة.
في الصَّباح ذُهل الجَّزَّار مرَّتين: مرَّة عندما وجد سياج الزَّريبة منهاراً، والقطيع، مع ذلك، بالدَّاخل! ومرَّة أخرى عندما أبصر، وسط الزَّريبة، كبشاً ميتاً، وجسده مثخن بالجِّراح جرَّاء نطح عنيف تعرَّض له. وما أن اقترب منه حتَّى صاح:
ــ “يا الله .. إنه الكبش الذي أفلت منِّي بالأمس”!
راحت الخراف ترنو إلى الجَّزار بنظرات يمتزج فيها الاعتذار عمَّا فعل الكبش مع الفخر بما فعلت هي بالكبش! أما الجَّزَّار فقد كانت سعادته لا توصف، حتَّى لقد أغدق على القطيع عبارات الثَّناء والإطراء، قائلاً:
ــ “يا قطيعي الجَّميل .. كم يزداد تقديري لكم! ونسبة لحسن تعاونكم لديَّ خبراً سيسعدكم: فأنا، ابتداءً من هذا الصَّباح، لن أسحب أيَّ واحدٍ منكم إلى المسلخ بالقوَّة، لأنني اكتشفت أن ذلك قاسٍ عليكم، وجارح لكرامتكم! لذا، فما عليكم، يا خرافي الأعزَّاء، سوى أن تنظروا، كلَّ صباح، إلى باب المسلخ، فإن لم تروا سكِّينتي معلقة عليه، فهذا يعني أنني أنتظركم بالدَّاخل، فلتأتوا إليَّ واحداً فواحدٍ، ولتتجنَّبوا التَّزاحم .. وفي الختام لا يفوتني أن أشيد بدستوركم العظيم: لا للمقاومة”!

(2)
بين النكـتتين والحكاية خطـرت لي بعض استنتاجات عبد الرَّحمـن الكواكبي (1855م ? 1902م)، أشهر من بحث في “طبائع الاستبداد” في التُّراث العربي المعاصر، حيث يعزو بعض الأسباب التي تمكِّن لهذه الطبائع في علاقة المستبد برعيَّته إلى “الجَّهل” الذي يولد “الخوف”. فالمستبد، في رأيه، يعلم، تماماً، أن الاستعباد لا يكون إلا حيث يكون الجَّهل، “.. فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفَّاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجَّهل، ولو كان وحشاً، لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل”! ويمضي الكواكبي مؤكِّداً أنه على حين “يسعى العلماء في نشر العلم، يجتهد المستبدُّ في إطفاء نوره، والطرفان يتجاذبان العوام .. أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا .. ومتى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا”! ثمَّ يخلص إلى أن هؤلاء “العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجَّهل، فإذا ارتفع الجَّهل زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبدُّ، رغم طبعه، إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وأب حليم يتلذَّذ بالتَّحابب”.
نظريَّة الكواكبي مثاليَّة بامتياز. وتقترب كثيراً، كما سنرى، من نظريَّة الفيلسوف الألماني ج. هيغـل (1770م ? 1831م) القائمة على شرط “الوعي/ العلم/ المعرفة/ الإدراك”، كأساس وحيد لـ “الحريَّة”. ومع أن الكواكبي لم يذهب إلى ما وراء “الجَّهل”، ليكشف عن سببه، مثلما أكَّد على أن “الجَّهل” نفسه هو سبب “الخوف”، إلا أنه شدَّد، في موضع آخر من مبحثه، على “أن خوف المستبد من نقمة رعيَّته أكثر من خوفهم من بأسه”! وفي تفسيره للأمر، على غرابته الظاهريَّة، يستدير إلى مقولة “العلم والجَّهل”، ليقرِّر أن مصدر “خوف” المستبد، هذه المرَّة، هو “العلم”، على عكس مصدر “خوف” الرَّعيَّة الذي هو “الجَّهل”؛ فعلى حين يخاف هو مِمَّا يعلم أنه حقيق، يخافون هم مِمَّا لا يعلمون أنه وَهْم!

(3)
“الحرِّيَّة”، بالمقابل، هي نقيض “الاستبداد”، أو، بالحريِّ، نقيض المناخ الذي يخلقه “الاستبداد” بصور مختلفة، قد يصادفك بعضها في علاقات إطار ضخم، كالدَّولة، مهما بلغ تشدُّقها بـ “العدل”، أو حتَّى في علاقات إطار صغير، قياساً إلى “الدَّولة”، كالحزب السِّياسي، بالغاً ما بلغ ادعاؤه “التَّقدميَّة”، مثلما قد يصادفك بعضها الآخر في ما بين علاقات الكيانات المتضادَّة. وفي المستوى الفلسفي يرتبط مفهوم “الحريَّة”، وثيقاً، بمفهوم “الضَّرورة”، حيث يعكس هذا الارتباط العلاقة بين النَّشاط الذَّاتي “الحُر” للإنسان وبين تأثير الظروف الخارجيَّة الموضوعيَّة، أي قوانين الطبيعة والمجتمع غير المرتهنة لوعيه أو إرادته. ولئن كان الفيلسوف الهولندي ب. سبينوزا (1632 ـ 1677م) هو أوَّل من لامس هذه الإشكاليَّة في القرن السَّابع عشر، بمحاكمته العقلانيَّة لأثر “المعقـوليَّة” فـي تـحديد “حـريَّة الفعـل”، فإن هيغـل هو أوَّل من وسَّع من أفق هذا المعنى الفلسفي، في القرن التَّاسع عشر، بتعريفه لـ “الحرِّيَّة” بأنها “وعي الضَّرورة recognition of necessity”، فكاد يصيب كبد الحكمة، لولا أنه، بأثر من فلسفته المثاليَّة، قصَرَ أهمِّ دلالات درسه، في ما هو واضح، على “شرط” وحيد لـتحقُّق “الحريَّة” هو “وعي الضَّرورة”!
وحدها المنظومة الماركسيَّة، في بعدها الفلسفي، هي التي أصلحت من عوار الرؤية الهيغليَّة تلك، كما سنرى لاحقاً.
الشَّاهد أن “الحريَّة”، فضلاً عن كونها تتحكَّم بوعي الإنسان، وتوجِّه خياراته، وتحتلُّ، لهذا، مركز الصَّدارة في فكر الحداثة البرجوازي المعاصر، فإن الخبرة الاجتماعيَّة، من زاوية نظر الكثير من مفكري هذه الحداثة الغربيين، تلعب الدَّور الأكبر في تخليق مفهومها، وتحديده، بارتباط مع جملة مفاهيم معياريَّة أخرى، كالعدل والمساواة، على سبيل المثال. لكن هنا، بالتَّحديد، يقع الاصطدام المدوِّي بين مفهوم “الحريَّة” وبين هذه المفاهيم المعياريَّة. ذلك أن الكفاح من أجل “الحريَّة” لا ينفصل عن الكفاح من أجل العدالة الاجتماعيَّة، وإلا صار محض ترتيب شكلاني لا يسمن ولا يغني من جوع؛ فهو كفاح تاريخي ضدَّ كلِّ الارتهانات التي تحدُّ من طموحات الفرد، وتطلعات الجَّماعة، والمآلات المستقبليَّة للنَّوع الإنساني بأسره؛ دَعْ، إلى ذلك، أن فكر الحداثة الغربي مثقل، أصلاً، في الوقت نفسه، بمفارقات أساسيَّة، أبرزها، كما يلاحظ بعض نقَّاده، أنه، من جهة أولى، ما ينفكُّ يراوح بين التأكيد “النَّظري” على استحقاق الفرد لـ “الحريَّة”، وبين النُّزوع “العملي” لدى الأنظمة والأحزاب الحاكمة، في الدِّيموقراطيَّات الغربيَّة، للهيمنة، سواء في النِّطاق الدَّاخلي، أو في حقل العلاقات الدَّوليَّة، وسواء بأشكال الاستعمار الكلاسيكي، أو الاستعمار الجَّديد؛ كما وأن هذا الفكر، من جهة أخرى، يقدِّم مفهومين متناقضين لـ “الحريَّة”: بريطاني يعتبرها تفلتاً من القيود الاجتماعيَّة كافَّة، وقارِّي continental يؤكد عليها كالتزام بالواجب، فرديَّاً ومجتمعيَّاً.
من ثمَّ فإن “الحريَّة” في الفكر الحداثي الغربي لا تمثِّل، فقط، إشكاليَّة من إشكاليَّات الفلسفة، بل محوراً أساسيَّاً من محاور السِّياسة العمليَّة التي تعكس شتَّى مستويات وصور الصِّراع الطبقي بين مختلف الكتل الاجتماعيَّة.

(4)
ومع أن الدَّلالة الفلسفيَّة لمفهوم “الحريَّة” في الفكر الماركسي تكاد تلامس الفكر الهيغلي، إلا أنها تتجاوز عواره، كما سلفت الإشارة. ففي حين تؤكِّد الماركسيَّة، كما عند إنجلز، على “وعي الضَّرورة”، باعتباره شرطاً أساسيَّاً من أشراط “الحريَّة”، تفترق عن الهيغليَّة بكونها لا تعتبر “وعي الضَّرورة” هذا بمثابة الشَّرط الوحيد لهذه “الحريَّة”، حيث أن ثمَّة وجهين، ينبغي عدم الفصل بينهما، لدلالة “وعي الضَّرورة”، أحدهما هو “الاستيعاب النظري” لقوانين الطبيعة والمجتمع الموضوعيَّة، أي معرفتها، والآخر هو “الاستيعاب العملي” لنفس هذه القوانين، باستخدامها وتطبيقها.
وإذن، فمدى “الحريَّة” لا يتحدَّد بـمحض “وعي الضَّرورة”، في معنى الاكتفاء بـ “معرفة” القوانين الموضوعيَّة للطبيعة والمجتمع، بل، أيضاً، في معنى “استخدام” و”تطبيق” هذه القوانين عمليَّاً. بهذه الدَّلالة فإن “حريَّة” المجتمع، كضامن رئيس لـ “حريَّة” الفرد، إنَّما تتعزَّز بالنُّموِّ المطرد لمستوى الإنتاج، واستثمار الوسط البيئي، خصوصاً في الجَّوانب المتَّصلة بالعلم والتكنولوجيا. لكن استخدام الأخيرَيْن في مجتمع التَّناحر الطبقي المنقسم يُفترض أن يختلف، تماماً، عن استخدامهما في المجتمع الاشتراكي المنسجم. فعلى حين يُفترض أن يُستخدما في هذا الأخير بما يخدم مصالح مجموع الشَّعب، ويحقِّق التَّقدُّم، والازدهار، فإن استخدامهما، في المجتمع التَّناحري، يتعارض ومصالح المنتجين الكادحين، الأمر الذي يخلق تناقضاً يستحيل فضُّه بدون تصفية النِّظام الاستغلالي نفسه، وبناء نظام العدالة الاجتماعيَّة، الطور الأوَّل، في بلداننا النَّامية، للنِّظام الاشتراكي ذي الوجه الإنساني الذي يُفترض أن يؤسِّس لتطوُّر القوى المنتجة، كخطوة حاسمة باتِّجاه تحقيق “حريَّة” المجتمع ككل.
تلك هي أهمُّ عناصر الدَّرس الماركسي حول “الحريَّة”، والذي يمكن تلخيصه، إجرائيَّاً، بأنها تعني “إدراك الضَّرورة، والقدرة على اتِّخاذ القرار وعلى العمل بناءً على هذا الإدراك”.
لكن، مع أن الماركسيَّة كانت هي الفكر السَّائد، نظريَّاً، على النَّمط الستاليني لما كان يُعرف، ردحاً من الزمن، بالمعسكر الشَّرقي، إلا أن أطروحتها الصَّحيحة تماماً هذه حول “الحريَّة” لم تفلح، رغم كثافة البروباغاندا التي أحيطت بها، في التَّحوُّل إلى سياسة “عمليَّة” تقدِّم النَّموذج “الدِّيموقراطي” الملهم الذي كان ينبغي أن يُحتذى، على صعيدي الحزب والدَّولة كليهما، باعتبار أن الممارسة “الدِّيموقراطيَّة” هي التَّطبيق السِّياسي لمفهوم “الحريَّة” الفلسفي. فعلى الرُّغم من النَّجاحات الماديَّة المشهودة التي حقَّقتها التَّجربة الاشتراكيَّة التَّاريخيَّة، بوجه عام، في ما يتَّصل بمعيشة الشَّعب، ومكاسبه الاقتصاديَّة، في مستوى العمل، والمداخيل، وخدمات الصَّحَّة، والتَّعليم، والإسكان، والمواصلات، والرَّاحة، وما إلى ذلك، لدرجة أنك ما كنت لتصادف عاطلاً، أو متسوِّلاً، أو عاهرة محترفة، إلا أن تلك التَّجربة لم تستطع أن تحقِّق عشر معشار ما يكافئ تلك النَّجاحات في مستوى “حريَّة” التَّجمع، والتَّنظيم، والتَّعبير، والاعتقاد، والصَّحافة، والإعلام، والتنقُّل، وتلقي المعلومات، والمشاركة السِّياسيَّة، وغيرها. كان ذلك النِّظام السِّياسي مصمَّماً بشكل شمولي، وكانت الأفواه مكمَّمة، والأيدي مغلولة، والسِّتار الحديدي قائماً، وكان ذلك، لا انتصار المعسكر الرَّأسمالي كما يُشاع خطأ، هو السَّبب الفعلي وراء انهيار تلك التَّجربة التَّاريخيَّة، بالتَّلازم مع انهيار حائط برلين في خواتيم ثمانينات ومطالع تسعينات القرن المنصرم، مِمَّا يستوجب الاعتراف المستقيم، ومن ثمَّ المراجعة النَّظريَّة الشُّجاعة.

(5)
في المعسكر الغربي تتوفَّر “الحريَّة” السِّياسيَّة، إلى حدٍّ كبير، لكن واقع الممارسة الشَّكلانيَّة للدِّيموقراطيَّة الخالية من المحتوى الاجتماعي، فضلاً عن التَّفاوت الطبقي الحاد، والمتمثِّل في غياب الحقوق الماديَّة للعمَّال وعموم الكادحين، إنَّما يتهدَّد البناء الرَّأسمالي كله بالانهيار، طال الزَّمن أم قصُر، ومهما أفلح السَّحرة والحواة من خبرائه في ترميم أزماته هنا أو هناك!
أما في تجربة المعسكر الشَّرقي فقد أزيل التَّفاوت الطبقي، إلى حدٍّ كبير، وتوفُّرت، طوال عشرات السَّنوات، المكاسب الاقتصاديَّة الماديَّة لعموم النَّاس، ومع ذلك فقد تسبَّب غياب “الحريَّة” السِّياسيَّة، على مستوى الممارسة الفعليَّة، في الانهيار المدوِّي لتلك التَّجربة!
وإذن، ما لم يشعر النَّاس بأنهم أعزة مادِّيَّاً ومعنويَّاً، ومالكون لـ “حريَّتهم” الفعليَّة، لا الشَّكليَّة، أو النَّظريَّة “الشِّعاراتيَّة” فقط، سواء في حياتهم المعيشيَّة، أو في مشاركتهم الديموقراطيَّة، فلن يتحقَّق فلاح، أو ازدهار، أو استقرارٌ، لا في مستوى الحزب، ولا في مستوى “الدَّولة”، لا اقتصاديَّاً، ولا سياسيَّاً، ولا اجتماعيَّاً، ولا ثقافيَّاً .. وكلُّ عام وأنتم بخير.
***
[email protected]

تعليق واحد

  1. نزيدك من الشعر بيت : ثمة تساؤلات كثيرة تثار في العالم كله خصوصا في اوساط المثقفين العرب، ومن بينهما : لم هزم ‏المعسكر الشيوعي وضمرت الشيوعية الاوربية وانحدر اليسار الاوربي التروتسكي والفوضوي ‏وغيرهما وتحول الى كتل صغيرة متناثرة هامشية رغم ان الايديولوجية الماركسية اللينينية كانت لها ‏جاذبية هائلة في الغرب الاوربي والعالم الثالث؟ ولم هزمت الرأسمالية الغربية في عقر دارها ? امريكا ‏‏? وانتقلت من النعومة الليبرالية الى الخشونة التوتاليتارية؟ واخيرا وهو الاهم: لماذا بقي البعث ممثلا ‏لحركة بعثية اتسعت وصارت اكبر من تنظيمه الحزبي الخاص وتعاظمت بعد اسقاط نظامه الوطني ‏في العراق رغم استشهاد الاف البعثيين وسارت في مسار مناقض لتوقعات الاغلبية من غير البعثيين ‏افترضت زوال البعث خصوصا مع تبني اقسى نظام وحشي اسمه (اجتثاث البعث) لم يطبق حتى على ‏الشيوعية رغم انها كانت رسميا على الاقل اخطر على الرأسمالية من البعث؟ لابد اولا من تحديد ‏قواعد الديمومة والانهيار، فانهيار الشيوعية نتج عن مجموعة عوامل متداخلة ومتفاعلة يأتي على ‏رأسها الخلل في بنية الايديولوجية الماركسية اللينينية كما طبقت في الاتحاد السوفيتي ودول اوربا ‏الشرقية وبطريقة اخرى في الصين. ولعل من اهم اشكال الخلل البنيوي ما يلي:‏
    ‏1/ الايمان والالحاد: ربما تكون النظرية المسماة ب(المادية الجدلية) اهم ثغرة ادت في عزلة الشيوعية ‏عن الملايين التي كان يجب ان تكون قاعدتها الثابتة وهي الناس العاديين خصوصا الفقراء والمستغلين، ‏فالمادية الجدلية – او الديالكتيكية – تناولت قضايا كان بامكان الشيوعيين تركها وعدم التورط فيها مثل ‏فلسفة الوجود ومن خلقه وكيف خلق…الخ، فالناس الجوعى والمضطهدين يهمهم اولا وقبل كل شيء ‏انهاء جوعهم واضطهادهم وهو ما وعدتهم به الشيوعية وليس الخوض في ترف مناظرات حول ‏الوجود وطبيعته والتي تعد اساسا من مهام الفلاسفة والمفكرين والعلماء وليس الجماهير الفقيرة ونصف ‏الامية او الامية. لقد ربط ماركس وانجلز – بطريقة قسرية ومفتعلة – وبعدهما لينين بين المادية الجدلية ‏والمادية التاريخية وهما مكونا الماركسية اللينينية الاساسيين، وبذلك وجهوا ضربة قاسية لكل البناء ‏الفكري للشيوعية لان المادية التاريخة كانت تقوم على اعتبار الصراع الطبقي محرك التاريخ ‏والمجتمعات وان تحقيق العدالة الاجتماعية رهن بتدمير النظام الرأسمالي واقامة ديكتاتورية ‏‏(البروليتاريا الرثة) اي الاكثر فقرا من العمال، ثم اضاف لينين الفلاحين. وهذه الايديولوجية امتلكت ‏جاذبية هددت الرأسمالية بالزوال كما اعترف زبجنيو بريجنسكي في كتاباته خصوصا في كاتبه (بين ‏عصرين) لانها استقطبت الملايين حولها لكن ربطها بالمادية الجدلية احدث ثغرة قاتلة في البناء ‏الايديولوجي للشيوعية. كانت اوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تعيش نشوة الانقلاب ‏الصناعي وانجازاته الباهرة ولهذا اعتقد ماركس ورفيقه انجلز ب(ان الكون لم يخلقة اله) انسياقا مع ‏التقدم السريع والهائل للثورة الصناعية ونجاحات الانسان في تحقيق قفزات كبيرة في انماط الحياة، ‏فوقعا في فخ اغواء الذات متجليا في انكار وجود الله من جهة وفي اهمال حالة الجماهير الفقيرة التي ‏تتطلع للخبز والكرامة وليس الانغماس في جدل لا يشبع البطن ولا يحقق الكرامة الانسانية حول الكون ‏والخلق او التطور من جهة ثانية. ولهذا فان اول حاجز تشكل بين الشيوعية والجماهير المفترضة لها ‏كان حاجز الالحاد الذي تضمنته المادية الجدلية مقابل ذلك فان البعث اكتشف مبكرا الخلل البنيوي في ‏الشيوعية وتناقض هدف اعتبار العمال والفلاحين عماد وقاعدة الشيوعية مع ضرب اهم معتقدات ‏هؤلاء وهو الايمان بالله وبصورة فطرية غالبا، فبنى اشتراكيته على الايمان بالله عازلا اياها عن ‏المادية الجدلية معتبرا الايمان احد اهم مكونات الانسان السوي، فضمن دعما جماهيريا كبيرا له ‏خصوصا من الفقراء الذين وعدتهم الاشتراكية بازالة الظلم والتمييز الطبقي والاستغلال واقامة مجتمع ‏العدالة الاجتماعية والقانونية. لقد تجنب البعث وضع تناقض جوهري بين اشتراكيته وبين معتقدات ‏الناس وكان ذلك وعيا متقدما نتج عن القناعة بان الانسان ومهما تقدم فهو من خلق الله وما يحققه فهو ‏من بركات الله وفضله وليس من جهد الانسان وحده فقط. لم يكن غرور الثورة الصناعية الذي شوه ‏تفكير ماركس وانجلز موجودا لدينا في الوطن العربي لاننا اصلا مهد اليهودية والمسيحية ثم الاسلام ‏وكنا ومازلنا نؤمن بوجود اله واحد خلق العالم ويتحكم به ويقرر مساراته الكونية كلها.‏
    ‏2/ الملكية الفردية: والخلل الثاني في الشيوعية والذي ادى الى تراجعها اولا ثم انهيارها هو الموقف ‏من الملكية الفردية فالشيوعية نشأت وهي تلتزم بالغاء الملكية الفردية وجعل الملكية العامة هي القاعدة، ‏فحولت الناس الى ادوات حوافزها للعمل والابداع محدودة واحيانا ضعيفة جدا مادام الانسان يبحث ‏بالفطرة عن التميز في كل شيء بما في ذلك في الدخل والمستوى الاجتماعي. وبهذا المعنى فالشيوعية ‏عطلت او اضعفت الحوافز الفردية وهي اصل الابداع والتطور الابداعي في كافة المجالات وحولت ‏الانسان الى متلق ليس عليه الا ان يقوم بعمل روتيني كي يعيش بلا جوع او فقر. هنا نلاحظ الخلل ‏البنيوي فعدم التمييز بين ملكية وسائل الانتاج، وهو مطلب جوهري وصحيح، وبين ملكية بقية الاشياء ‏المادية كالسكن ووسائط النقل ادى الى تراجع المبادرة والابداع، فالانسان اصبح لا يملك شيئا لان بيته ‏من الحكومة وملكا لها وليس له والنقل عام وليس لديه سيارة ? وان حصل عليها فهي متخلفة وغالية ‏الثمن – والسلع الاستهلاكية محدودة بالاشياء المهمة فقط، وعندما يبدع في العمل يتلقى تشجيعا رمزيا. ‏الا يقتل ذلك الحافز الفردي للابداع؟ لماذا تميزت الرأسمالية بتحقيق تقدم تكنولوجي وعلمي اكثر من ‏الشيوعية؟ لان الفرد فيها يكافأ حسب عمله وانجازاته فوفرت حافزا فرديا للعمل والابتكار. هنا مكمن ‏الرتابة في العمل في النظام الشيوعي وقيامه على بيروقراطية كابحة للابداع الانساني. البعث ايضا ‏وكما رفض الربط بين المادية الجدلية والاشتراكية رفض مفهوم التاميم الشامل لكل انواع الملكية فميز ‏بين ملكية خاصة وملكية عامة واجاز الاولى بجعل الانسان قادرا على التملك للدار والسيارة وحتى ‏المشروع التجاري. ولهذا يوجد في النظام الاشتراكي البعثي نوعان من الملكية: ملكية اشتراكية وهي ‏تشمل ادوات الانتاج الكبيرة والمشاريع العملاقة والتي لا يستطيع الفرد القيام بها وملكية فردية ‏للمشاريع الصغيرة والمتوسطة يمكن لاي فرد القيام بها وتطويرها برعاية الدولة الاشتراكية، ‏بالاضافة للملكية الخاصة اي الاستعمالية. وبفضل هذا فان الاشتراكية البعثية ضمنت تحقيق هدفين ‏جوهريين الهدف الاول منع الاستغلال الطبقي وتأمين العدالة الاجتماعية بجعل الانسان متحررا من ‏الفقر والجوع والمرض وقادرا على الدراسة في مختلف المراحل مجانا اضافة لضمانات اجتماعية ‏اخرى، الهدف الثاني وفرت الفرص الواسعة للانسان كي يبدع تجاريا وتكنولوجيا وصناعيا وزراعيا ‏وفكريا بلا قيود كابحة للابداع الانساني، وهكذا جمعت اشتراكية البعث بين افضل ما في الرأسمالية ‏وهو تشجيع الحوافز الفردية وافضل ما في الشيوعية وهو ضمان حياة انسانية كريمة تحرر الانسان ‏من الفقر والعوز والمرض وتوفر له فرص كسب المعرفة مجانا بالاضافة لاتاحة المجال له كي يبدع ‏في اي مجال يعتقد انه قادر على النجاح فيه.‏
    ‏3/ الأممية الشوهاء: المقتل الثالث في الشيوعية والذي شكل تناقضا بين ادعاءها وواقعها هو الاممية، ‏فالاممية الشيوعية قامت على اعتبار ان الشعوب مـتأخية ولا يجوز ان تفرقها القوميات والشركات ‏الاحتكارية وعماد وحدة العالم الطبقة العاملة ونظامها الشيوعي. لكن اول تناقض برز بين الاممية ‏المفترضة والشيوعية هو هيمنة الدولة السوفيتية على بقية الحركات الشيوعية في العالم وفرض التبعية ‏لموسكو عليها والغاء دورها وخصوصيتها وتساويها مع المركز الشيوعي انطلاقا من نظرية ستالين ‏المعروفة (الاشتراكية في بلد واحد). فالأممية هنا اصبحت مجرد شعار ينقضه واقع الممارسات ‏السوفيتية النابع من تغليف المصلحة القومية الروسية بغطاء الشيوعية وامميتها، ولهذا فان الاحزاب ‏الشيوعية تململت ثم انفصلت استجابة لمصالحها القومية وخصوصيتها الثقافية وكان اول المنشقين هو ‏ماو تسي تونغ زعيم الصين الشيوعية ثم لحقه تيتو زعيم يوغسلافيا الشيوعية ثم شاوشيسكو زعيم ‏رومانيا الشيوعية، وبين هؤلاء وقف كاسترو وجيفارا في كوبا يدعوان لشيوعية حقيقية كانت اقرب ‏للشيوعية الاصلية برفضهما الانموذجين الروسي والصيني للشيوعية منطلقين من خصوصيات كوبا ‏وامريكا اللاتينية. وانتقلت عدوى رفض الاممية بمفهومها الستاليني الى الاحزاب الشيوعية في اوربا ‏الغربية فظهرت في ايطاليا ثم في فرنسا الشيوعية الاوربية ? يوروكوميونسم – والتي هزت ‏بطروحاتها الشيوعية التقليدية هزا قويا لانها سلكت طريق البعث الاصيل الذي ارساه القائد احمد ‏ميشيل عفلق بفتح باب الايمان الديني للشيوعيين ورفضها الالحاد كموقف عام للشيوعية من جهة ‏وتبنيها امكانية السماح للملكية الفردية كوسيلة لاطلاق المبادرات الانسانية المبدعة في كافة المجالات ‏من جهة ثانية. بماذا يذكركم كل ذلك؟ اليس انهيار الشيوعية في اوربا الشرقية وتراجعها في الصين، ‏بتبني مفهوم غريب وهو (اقتصاد السوق لاشتراكي) والتراجعات الجذرية في المنطلقات النظرية ‏للشيوعية الاوربية عن الالحاد ورفض الملكية الفردية والخاصة تأكيد لصواب منطلقات البعث ‏الاساسية والتي قام عليها منذ اسسه عفلق؟ ان التراجعات في الفكر والممارسة الشيوعية والتي سبقت ‏الاشارة اليها ليست سوى اعتراف بصواب ايديولوجيا البعث ليس على المستوى القومي العربي فقط بل ‏عالميا ايضا فالتراجع الشيوعي عن الالحاد دعم لايديولوجيا البعث والتراجع عن احتكار الملكية العامة ‏لكل الاقتصاد دعم لايديولوجيا البعث والاعتراف بوجود تميزات قومية لا يمكن ازالتها باممية شكلية ‏دعم لايديولوجيا البعث القومية. وكي تكتمل الدائرة النظرية لاحاطة البعث بالعالم ايديولوجيا فان ‏الرأسمالية التي اسقطت ورقة التوت عنها ظهرت وباعتراف رموزها بانها رأسمالية وحشية لاتعرف ‏الانسانية ولا العدالة واثبتت انها سرطان العالم ومصدر كوارثه الكبرى، وهذا اكد ان ايديولوجيا البعث ‏القائمة على التعاون الانساني بين الامم واستئصال النزعات العنصرية والطائفية وبناء اشتراكيات ‏قومية في العالم كله اهم شروط الوجود الانساني السلمي، فكلنا بشر متساوون في القيمة الانسانية وما ‏يميزنا عن بعض هو عملنا وليس اي اعتبار اخر. البعث لهذا السبب من الممكن ان يصبح حركة ‏عالمية وليس حركة العرب وحدهم لانه جمع بين افضل القوى الدايناميكية في الرأسمالية والشيوعية ‏ورفض الجوانب السلبية فيهما، خصوصا وان عالمنا يشهد فراغا افكريا الذي نشأ عن انهيار الشيوعية ‏وانكشاف كافة عيوب الراسمالية القاتلة مع انهما كانتا تغذيان ملايين البشر بمفاهيمهما، وهذا الفراغ ‏يمكن لايديولوجيا البعث ان تملأه، وما نحتاجه هو ايصال صوت البعث للعالم كي يعرف جوهره وليس ‏الصور النمطية التي روجت عنه. وهذه المهمة تتطلب منا نحن البعثيون وفي كافة المواقع الحزبية ان ‏نزداد فخرا بحزبنا وان نمارس اقصى درجات التنكر للذات والتبرء من الانانية والانغماس الكامل في ‏مصلحة الحزب لانها مصلحة الامة وكل البشرية المعذبة. واضيف ما يجب ابرازه دائما لانه اما ‏موضع عدم اكتشاف او انه مخفي تحت تعتيم غربي صهيوني وهو ان الانتصار الايديولوجي البعثي ‏هذا، مدعوما بنهوض البعث غير المسبوق في العراق والوطن العربي، وصلاحيته لتحرير العالم من ‏الاستغلال والعنصرية احد اهم اسرار الاصرار الغربي الصهيوني على اجتثاث البعث ? بطرق جديدة ‏مموهة- فهو يشكل تحديا للرأسمالية المحتضرة اشد من الشيوعية التي حملت في احشاءها بذور فناءها ‏بينما البعث يحمل في احشاءه بذور نهوضه وديمومته مهما تعرض للاجتثاث والابادة.‏

  2. يعجبني كثيرا اسلوبك يا استاذ ودقتك وعنايتك بالإعراب وضبطك للمفردات..

    لكني قرأت كلاما للاستاذ شوقي بدري وصـفك فيه بصـفات غير محمودة بل مرذولة إن صح كلامه وأكيد انك اطلعت على ما قال حتى لا يظن انني أرمي للوقيعة بينكما..

    ولكن من حقي كقارئ ان اعرف رأيك فيما ذكر الاستاذ شوقي بدري إن كنت أنت المعني بما قال..

    وشكرا..

  3. لو لم تخني الذاكرة أعتقد أن هذا المقال قديم و معاد في الراكوبه للمرة الكم الله يعلمل لكن في نفس الوقت مقال قيم و جدير بالقراءة أكثر من ألف مرة بس كنا عايزين الجديد … المهم الزول دا كان عيان و أجريت له عملية جراحية انشاء الله حالياً بخير… طبعاً لما شفت اسم كمال الجزولي

  4. نزيدك من الشعر بيت : ثمة تساؤلات كثيرة تثار في العالم كله خصوصا في اوساط المثقفين العرب، ومن بينهما : لم هزم ‏المعسكر الشيوعي وضمرت الشيوعية الاوربية وانحدر اليسار الاوربي التروتسكي والفوضوي ‏وغيرهما وتحول الى كتل صغيرة متناثرة هامشية رغم ان الايديولوجية الماركسية اللينينية كانت لها ‏جاذبية هائلة في الغرب الاوربي والعالم الثالث؟ ولم هزمت الرأسمالية الغربية في عقر دارها ? امريكا ‏‏? وانتقلت من النعومة الليبرالية الى الخشونة التوتاليتارية؟ واخيرا وهو الاهم: لماذا بقي البعث ممثلا ‏لحركة بعثية اتسعت وصارت اكبر من تنظيمه الحزبي الخاص وتعاظمت بعد اسقاط نظامه الوطني ‏في العراق رغم استشهاد الاف البعثيين وسارت في مسار مناقض لتوقعات الاغلبية من غير البعثيين ‏افترضت زوال البعث خصوصا مع تبني اقسى نظام وحشي اسمه (اجتثاث البعث) لم يطبق حتى على ‏الشيوعية رغم انها كانت رسميا على الاقل اخطر على الرأسمالية من البعث؟ لابد اولا من تحديد ‏قواعد الديمومة والانهيار، فانهيار الشيوعية نتج عن مجموعة عوامل متداخلة ومتفاعلة يأتي على ‏رأسها الخلل في بنية الايديولوجية الماركسية اللينينية كما طبقت في الاتحاد السوفيتي ودول اوربا ‏الشرقية وبطريقة اخرى في الصين. ولعل من اهم اشكال الخلل البنيوي ما يلي:‏
    ‏1/ الايمان والالحاد: ربما تكون النظرية المسماة ب(المادية الجدلية) اهم ثغرة ادت في عزلة الشيوعية ‏عن الملايين التي كان يجب ان تكون قاعدتها الثابتة وهي الناس العاديين خصوصا الفقراء والمستغلين، ‏فالمادية الجدلية – او الديالكتيكية – تناولت قضايا كان بامكان الشيوعيين تركها وعدم التورط فيها مثل ‏فلسفة الوجود ومن خلقه وكيف خلق…الخ، فالناس الجوعى والمضطهدين يهمهم اولا وقبل كل شيء ‏انهاء جوعهم واضطهادهم وهو ما وعدتهم به الشيوعية وليس الخوض في ترف مناظرات حول ‏الوجود وطبيعته والتي تعد اساسا من مهام الفلاسفة والمفكرين والعلماء وليس الجماهير الفقيرة ونصف ‏الامية او الامية. لقد ربط ماركس وانجلز – بطريقة قسرية ومفتعلة – وبعدهما لينين بين المادية الجدلية ‏والمادية التاريخية وهما مكونا الماركسية اللينينية الاساسيين، وبذلك وجهوا ضربة قاسية لكل البناء ‏الفكري للشيوعية لان المادية التاريخة كانت تقوم على اعتبار الصراع الطبقي محرك التاريخ ‏والمجتمعات وان تحقيق العدالة الاجتماعية رهن بتدمير النظام الرأسمالي واقامة ديكتاتورية ‏‏(البروليتاريا الرثة) اي الاكثر فقرا من العمال، ثم اضاف لينين الفلاحين. وهذه الايديولوجية امتلكت ‏جاذبية هددت الرأسمالية بالزوال كما اعترف زبجنيو بريجنسكي في كتاباته خصوصا في كاتبه (بين ‏عصرين) لانها استقطبت الملايين حولها لكن ربطها بالمادية الجدلية احدث ثغرة قاتلة في البناء ‏الايديولوجي للشيوعية. كانت اوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تعيش نشوة الانقلاب ‏الصناعي وانجازاته الباهرة ولهذا اعتقد ماركس ورفيقه انجلز ب(ان الكون لم يخلقة اله) انسياقا مع ‏التقدم السريع والهائل للثورة الصناعية ونجاحات الانسان في تحقيق قفزات كبيرة في انماط الحياة، ‏فوقعا في فخ اغواء الذات متجليا في انكار وجود الله من جهة وفي اهمال حالة الجماهير الفقيرة التي ‏تتطلع للخبز والكرامة وليس الانغماس في جدل لا يشبع البطن ولا يحقق الكرامة الانسانية حول الكون ‏والخلق او التطور من جهة ثانية. ولهذا فان اول حاجز تشكل بين الشيوعية والجماهير المفترضة لها ‏كان حاجز الالحاد الذي تضمنته المادية الجدلية مقابل ذلك فان البعث اكتشف مبكرا الخلل البنيوي في ‏الشيوعية وتناقض هدف اعتبار العمال والفلاحين عماد وقاعدة الشيوعية مع ضرب اهم معتقدات ‏هؤلاء وهو الايمان بالله وبصورة فطرية غالبا، فبنى اشتراكيته على الايمان بالله عازلا اياها عن ‏المادية الجدلية معتبرا الايمان احد اهم مكونات الانسان السوي، فضمن دعما جماهيريا كبيرا له ‏خصوصا من الفقراء الذين وعدتهم الاشتراكية بازالة الظلم والتمييز الطبقي والاستغلال واقامة مجتمع ‏العدالة الاجتماعية والقانونية. لقد تجنب البعث وضع تناقض جوهري بين اشتراكيته وبين معتقدات ‏الناس وكان ذلك وعيا متقدما نتج عن القناعة بان الانسان ومهما تقدم فهو من خلق الله وما يحققه فهو ‏من بركات الله وفضله وليس من جهد الانسان وحده فقط. لم يكن غرور الثورة الصناعية الذي شوه ‏تفكير ماركس وانجلز موجودا لدينا في الوطن العربي لاننا اصلا مهد اليهودية والمسيحية ثم الاسلام ‏وكنا ومازلنا نؤمن بوجود اله واحد خلق العالم ويتحكم به ويقرر مساراته الكونية كلها.‏
    ‏2/ الملكية الفردية: والخلل الثاني في الشيوعية والذي ادى الى تراجعها اولا ثم انهيارها هو الموقف ‏من الملكية الفردية فالشيوعية نشأت وهي تلتزم بالغاء الملكية الفردية وجعل الملكية العامة هي القاعدة، ‏فحولت الناس الى ادوات حوافزها للعمل والابداع محدودة واحيانا ضعيفة جدا مادام الانسان يبحث ‏بالفطرة عن التميز في كل شيء بما في ذلك في الدخل والمستوى الاجتماعي. وبهذا المعنى فالشيوعية ‏عطلت او اضعفت الحوافز الفردية وهي اصل الابداع والتطور الابداعي في كافة المجالات وحولت ‏الانسان الى متلق ليس عليه الا ان يقوم بعمل روتيني كي يعيش بلا جوع او فقر. هنا نلاحظ الخلل ‏البنيوي فعدم التمييز بين ملكية وسائل الانتاج، وهو مطلب جوهري وصحيح، وبين ملكية بقية الاشياء ‏المادية كالسكن ووسائط النقل ادى الى تراجع المبادرة والابداع، فالانسان اصبح لا يملك شيئا لان بيته ‏من الحكومة وملكا لها وليس له والنقل عام وليس لديه سيارة ? وان حصل عليها فهي متخلفة وغالية ‏الثمن – والسلع الاستهلاكية محدودة بالاشياء المهمة فقط، وعندما يبدع في العمل يتلقى تشجيعا رمزيا. ‏الا يقتل ذلك الحافز الفردي للابداع؟ لماذا تميزت الرأسمالية بتحقيق تقدم تكنولوجي وعلمي اكثر من ‏الشيوعية؟ لان الفرد فيها يكافأ حسب عمله وانجازاته فوفرت حافزا فرديا للعمل والابتكار. هنا مكمن ‏الرتابة في العمل في النظام الشيوعي وقيامه على بيروقراطية كابحة للابداع الانساني. البعث ايضا ‏وكما رفض الربط بين المادية الجدلية والاشتراكية رفض مفهوم التاميم الشامل لكل انواع الملكية فميز ‏بين ملكية خاصة وملكية عامة واجاز الاولى بجعل الانسان قادرا على التملك للدار والسيارة وحتى ‏المشروع التجاري. ولهذا يوجد في النظام الاشتراكي البعثي نوعان من الملكية: ملكية اشتراكية وهي ‏تشمل ادوات الانتاج الكبيرة والمشاريع العملاقة والتي لا يستطيع الفرد القيام بها وملكية فردية ‏للمشاريع الصغيرة والمتوسطة يمكن لاي فرد القيام بها وتطويرها برعاية الدولة الاشتراكية، ‏بالاضافة للملكية الخاصة اي الاستعمالية. وبفضل هذا فان الاشتراكية البعثية ضمنت تحقيق هدفين ‏جوهريين الهدف الاول منع الاستغلال الطبقي وتأمين العدالة الاجتماعية بجعل الانسان متحررا من ‏الفقر والجوع والمرض وقادرا على الدراسة في مختلف المراحل مجانا اضافة لضمانات اجتماعية ‏اخرى، الهدف الثاني وفرت الفرص الواسعة للانسان كي يبدع تجاريا وتكنولوجيا وصناعيا وزراعيا ‏وفكريا بلا قيود كابحة للابداع الانساني، وهكذا جمعت اشتراكية البعث بين افضل ما في الرأسمالية ‏وهو تشجيع الحوافز الفردية وافضل ما في الشيوعية وهو ضمان حياة انسانية كريمة تحرر الانسان ‏من الفقر والعوز والمرض وتوفر له فرص كسب المعرفة مجانا بالاضافة لاتاحة المجال له كي يبدع ‏في اي مجال يعتقد انه قادر على النجاح فيه.‏
    ‏3/ الأممية الشوهاء: المقتل الثالث في الشيوعية والذي شكل تناقضا بين ادعاءها وواقعها هو الاممية، ‏فالاممية الشيوعية قامت على اعتبار ان الشعوب مـتأخية ولا يجوز ان تفرقها القوميات والشركات ‏الاحتكارية وعماد وحدة العالم الطبقة العاملة ونظامها الشيوعي. لكن اول تناقض برز بين الاممية ‏المفترضة والشيوعية هو هيمنة الدولة السوفيتية على بقية الحركات الشيوعية في العالم وفرض التبعية ‏لموسكو عليها والغاء دورها وخصوصيتها وتساويها مع المركز الشيوعي انطلاقا من نظرية ستالين ‏المعروفة (الاشتراكية في بلد واحد). فالأممية هنا اصبحت مجرد شعار ينقضه واقع الممارسات ‏السوفيتية النابع من تغليف المصلحة القومية الروسية بغطاء الشيوعية وامميتها، ولهذا فان الاحزاب ‏الشيوعية تململت ثم انفصلت استجابة لمصالحها القومية وخصوصيتها الثقافية وكان اول المنشقين هو ‏ماو تسي تونغ زعيم الصين الشيوعية ثم لحقه تيتو زعيم يوغسلافيا الشيوعية ثم شاوشيسكو زعيم ‏رومانيا الشيوعية، وبين هؤلاء وقف كاسترو وجيفارا في كوبا يدعوان لشيوعية حقيقية كانت اقرب ‏للشيوعية الاصلية برفضهما الانموذجين الروسي والصيني للشيوعية منطلقين من خصوصيات كوبا ‏وامريكا اللاتينية. وانتقلت عدوى رفض الاممية بمفهومها الستاليني الى الاحزاب الشيوعية في اوربا ‏الغربية فظهرت في ايطاليا ثم في فرنسا الشيوعية الاوربية ? يوروكوميونسم – والتي هزت ‏بطروحاتها الشيوعية التقليدية هزا قويا لانها سلكت طريق البعث الاصيل الذي ارساه القائد احمد ‏ميشيل عفلق بفتح باب الايمان الديني للشيوعيين ورفضها الالحاد كموقف عام للشيوعية من جهة ‏وتبنيها امكانية السماح للملكية الفردية كوسيلة لاطلاق المبادرات الانسانية المبدعة في كافة المجالات ‏من جهة ثانية. بماذا يذكركم كل ذلك؟ اليس انهيار الشيوعية في اوربا الشرقية وتراجعها في الصين، ‏بتبني مفهوم غريب وهو (اقتصاد السوق لاشتراكي) والتراجعات الجذرية في المنطلقات النظرية ‏للشيوعية الاوربية عن الالحاد ورفض الملكية الفردية والخاصة تأكيد لصواب منطلقات البعث ‏الاساسية والتي قام عليها منذ اسسه عفلق؟ ان التراجعات في الفكر والممارسة الشيوعية والتي سبقت ‏الاشارة اليها ليست سوى اعتراف بصواب ايديولوجيا البعث ليس على المستوى القومي العربي فقط بل ‏عالميا ايضا فالتراجع الشيوعي عن الالحاد دعم لايديولوجيا البعث والتراجع عن احتكار الملكية العامة ‏لكل الاقتصاد دعم لايديولوجيا البعث والاعتراف بوجود تميزات قومية لا يمكن ازالتها باممية شكلية ‏دعم لايديولوجيا البعث القومية. وكي تكتمل الدائرة النظرية لاحاطة البعث بالعالم ايديولوجيا فان ‏الرأسمالية التي اسقطت ورقة التوت عنها ظهرت وباعتراف رموزها بانها رأسمالية وحشية لاتعرف ‏الانسانية ولا العدالة واثبتت انها سرطان العالم ومصدر كوارثه الكبرى، وهذا اكد ان ايديولوجيا البعث ‏القائمة على التعاون الانساني بين الامم واستئصال النزعات العنصرية والطائفية وبناء اشتراكيات ‏قومية في العالم كله اهم شروط الوجود الانساني السلمي، فكلنا بشر متساوون في القيمة الانسانية وما ‏يميزنا عن بعض هو عملنا وليس اي اعتبار اخر. البعث لهذا السبب من الممكن ان يصبح حركة ‏عالمية وليس حركة العرب وحدهم لانه جمع بين افضل القوى الدايناميكية في الرأسمالية والشيوعية ‏ورفض الجوانب السلبية فيهما، خصوصا وان عالمنا يشهد فراغا افكريا الذي نشأ عن انهيار الشيوعية ‏وانكشاف كافة عيوب الراسمالية القاتلة مع انهما كانتا تغذيان ملايين البشر بمفاهيمهما، وهذا الفراغ ‏يمكن لايديولوجيا البعث ان تملأه، وما نحتاجه هو ايصال صوت البعث للعالم كي يعرف جوهره وليس ‏الصور النمطية التي روجت عنه. وهذه المهمة تتطلب منا نحن البعثيون وفي كافة المواقع الحزبية ان ‏نزداد فخرا بحزبنا وان نمارس اقصى درجات التنكر للذات والتبرء من الانانية والانغماس الكامل في ‏مصلحة الحزب لانها مصلحة الامة وكل البشرية المعذبة. واضيف ما يجب ابرازه دائما لانه اما ‏موضع عدم اكتشاف او انه مخفي تحت تعتيم غربي صهيوني وهو ان الانتصار الايديولوجي البعثي ‏هذا، مدعوما بنهوض البعث غير المسبوق في العراق والوطن العربي، وصلاحيته لتحرير العالم من ‏الاستغلال والعنصرية احد اهم اسرار الاصرار الغربي الصهيوني على اجتثاث البعث ? بطرق جديدة ‏مموهة- فهو يشكل تحديا للرأسمالية المحتضرة اشد من الشيوعية التي حملت في احشاءها بذور فناءها ‏بينما البعث يحمل في احشاءه بذور نهوضه وديمومته مهما تعرض للاجتثاث والابادة.‏

  5. يعجبني كثيرا اسلوبك يا استاذ ودقتك وعنايتك بالإعراب وضبطك للمفردات..

    لكني قرأت كلاما للاستاذ شوقي بدري وصـفك فيه بصـفات غير محمودة بل مرذولة إن صح كلامه وأكيد انك اطلعت على ما قال حتى لا يظن انني أرمي للوقيعة بينكما..

    ولكن من حقي كقارئ ان اعرف رأيك فيما ذكر الاستاذ شوقي بدري إن كنت أنت المعني بما قال..

    وشكرا..

  6. لو لم تخني الذاكرة أعتقد أن هذا المقال قديم و معاد في الراكوبه للمرة الكم الله يعلمل لكن في نفس الوقت مقال قيم و جدير بالقراءة أكثر من ألف مرة بس كنا عايزين الجديد … المهم الزول دا كان عيان و أجريت له عملية جراحية انشاء الله حالياً بخير… طبعاً لما شفت اسم كمال الجزولي

  7. مقال رائع و واضح ومفيد….متعك الله بالصحة استاذ كمال الجزولى اسم من الومن الجميل.

  8. مقال رائع و واضح ومفيد….متعك الله بالصحة استاذ كمال الجزولى اسم من الومن الجميل.

  9. يا عبدالباقي نحن بصدد نقد الفكر الماكسي و الشيوعية وأنت لا تنتقد فكر البعث بل تنفس عن حقدك و عدائك للبعث مثلك و مثل غيرك من العداء و بقي البعث و ذهب أعداؤه فالذين إحتلوا العراق و إغتالوا قيادته لم ينجحوا في إغتيال البعث فإذا البعث كما تصفه لما دمروا و إحتلوا العراق أليس كذلك ؟؟

  10. يا عبدالباقي نحن بصدد نقد الفكر الماكسي و الشيوعية وأنت لا تنتقد فكر البعث بل تنفس عن حقدك و عدائك للبعث مثلك و مثل غيرك من العداء و بقي البعث و ذهب أعداؤه فالذين إحتلوا العراق و إغتالوا قيادته لم ينجحوا في إغتيال البعث فإذا البعث كما تصفه لما دمروا و إحتلوا العراق أليس كذلك ؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..