مَحمـوْد صَـالِح: فَـوْح النّـدَى بَـعـدَ الرّحيـْل ..

أقربُ إلى القلبِ:
(1)
لم أكن قد تعرّفتُ إلى الرّاحل محمود صالح، إلا حين شاهدته يشارك في تدشين كتابٍ، بشخصه ومعه الراحل حسن أبشر الطيب والراحل السير دونالد هولي. تشارك ثلاثتهم في تحرير كتاب “تأملات في الخرطوم” وذلك في يونيو من عام 2001 وقد صدر في لندن، صمّ بين دفتيه مقالات كتبها كولونياليون بريطانيون في السودان. لم يكن محمود صالح عثمان صالح محض مُموّل، بل كانت له اليدٌ الطولى في التحرير، وفي صياغة المقدمة وأيضا في تقديم التدشين، في قاعة لندنية فخمة، هي قاعة “الكمونولث”، قبالة قصر “سانت جيمس”.
لأسرة الرّاحل عثمان صالح باع ٌ طويلٌ في الأعمال التجارية في السودان، فكان لافتاً أن نرى أحد أفراد هذه الأسرة النبيلة -وإن لم يتجه بعيداً عن التجارة -قد اجتذبته جواذب الأدب، واستهوته هواية الترجمة. لوّنتْ تلك الثنائية شخصيته، فرأيته يُمسك بالاهتمامين، وما خَصَمَ أحدهما من الأخر، قدر خردلة: المال بيد، والقلم باليد الأخرى..
(2)
جمَعتْ صداقاته وعلاقاته الواسعة، أشتاتاً من البشر الذين اقتربوا منه، ومنهم أيضاً من شاركوه اهتماماته في الناحيتين، الاقتصادية والثقافية. أنشأ في عام 1998، مركزاً يخلّد اسم خاله السفير الوزير الرّاحل عبد الكريم ميرغني، فعرفـتْ أم درمان مركز إشعاعٍ ثقافيّ، أسهم بفعاليةٍ في أنشطة التثاقف ودعم النشر، وفي الإبداع في كافة أشكاله. ولوثوق صلته بـ “عبقريّ الرواية العربية” الطيّب صالح، فقد اقترح محمود صالح إنشاء جائزة سنوية للرواية باسمه في عام 2003، وافق عليها الرّاحل الطيّب بتواضعه الجمّ، ورعاها محمود، ورأسَ مجلس أمنائها، حتى تاريخ وفاته في فبراير 2015. تواصل نشاط الجائزة، وبلغت دورتها الثانية عشر في عام 2015.
بعد عام 2006، شجّعه أصدقاؤه لمواصلة ترجماته لعددٍ من الكتب التي وضعها بعضُ الإداريين البريطانيين في حقبة الحكم الثنائي، فقد وضحتْ قدراته الفذّة في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، فأنجز عدداً من الكتب التي تتصل بتاريخ السودان، أهمهما مشاركته مع آخرين، في ترجمة جماع الوثائق البريطانية عن السودان، وأخرج تلك الترجمات الرصينة من مطابع صديقنا المشترك في بيروت، رياض الرّيس. ذلك الاهتمام الأصيل نابع من أصل دراسته في الاقتصاد والسياسة بجامعة “بريستول”، في ستينات القرن الماضي. .
(3)
فيما باشرتُ مهامّي سفيراً للسودان في بيروت أواخر عام 2006، فقد زارني في مكاتب السفارة السودانية في شارع الحمراء بغرض التحية، وكنتُ أعرف أنّ له علاقات استثمارية مع بنك “بيبلوس” أشهر مصارف لبنان. تصوّرتُ أنّهُ قدم إلى بيروت ليتابع اهتماماته الاقتصادية والمالية. كلا، ليس لذلك السبب وحده، إذ سرعان ما تبيّنتُ أنّ ذاك ليس اهتمامه الأول والأخير. جاء إلى مكتبي يحمل عدداً من إصدارات مركز عبد الكريم ميرغني، خرجت طازجة من مطابع بيروت. أهداني المجموعة، وفيها نسخة من ترجمته لكتاب السودان للسير “هارولد ماكمايكل” بعنوان “السودان”، وأيضاً “مُذكرات الشريف حسين” وغيرهما من الكتب ..
هو محمود صالح، لا يفارق الثنائية التي ميّزتْ اهتماماته: استثماراته مع بنك “بيبلوس”، وأيضاً متابعته إخراج ترجماته الرّصينة، وأعمال “مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي” الإبداعية، من مطابع بيروت.
(4)
حينما دعاه السيد “فرانسوا باسيل”، مدير عام بنك “بيبلوس” إلى مأدبة غداء خاصة في مطعمٍ راقٍ في قلب بيروت، طلبني محمود أن أرافقه للجلوس إلى “باسيل”، وهو رقم لامع في دنيا المال في بيروت، ولم أكن قد تعرّفت إليه بعد. قبلت الدعوة مرحباً. كانت جلسة حميمة، جمعتنا معاً إلى الرّجل اللبناني الكبير، الذي حمل مبادرة محمود لأنْ تكون الخرطوم مقراً لنشاطات بنك “بيبلوس” الاقتصادية، في كامل القارة الأفريقية. توثقت علاقتي بعد ذلك مع “باسيل”، فصار صديقاً أعتز بصداقته، وأقدّر محبته للسودان، والتي قادته إليه أيضاً، محبته وتقديره لشخص للرّاحل محمود، صاحب الفضل كله في وجود ذلك الصّرح الشامخ في قلب الخرطوم لبنك “بيبلوس”. .
(5)
كنتُ أقول لمحمود: “إنك في لبنان لسفير للثقافة السودانية، مثلما أنتَ سفيرٌ للاستثمار السوداني في مؤسساته”. لكم أعجبتني ثنائية محمود في دفع اهتماماته بشقيها: الاستثمارية من جهة، والثقافية من الجهة الأخرى، جنباً إلى جنب، توازياً وتوازناً، لا يخصم اهتمامٌ من اهتمامٍ، ولا تقف همّته فيهما عند حدود. كانت بيروت عنده عاصمة للمال كما هي عاصمة غنية بالثقافة والأدب.
وبقدر اتساع مساحة نشاطه الاقتصادي، فإن نشاطه الثقافي قد تمدد واتصل بجامعة “بيرجن” في النرويج، فأهداها مكتبة غنية بكل نفيس عن تاريخ السودان. نعرف ما لجامعة “بيرجن” من علاقات أكاديمية وثيقة بجامعة الخرطوم، منذ سنوات طويلة. ثمة مركز لدراسات السلام كان يديره الأكاديمي النرويجي الصديق “قونار سوربو”، الذي تقاعد عن ذلك المركز قبل نحو عام. ونعرف عن النرويج خصوصية في تناول الشأن السوداني، ولا يخفى للمتابع ذلك الدور المُميّز الذي قامت به “هيلدا جونسون” وزيرة الخارجية النرويجية إبّان المفاوضات التي انتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في “نيفاشا” عام 2005.
حفظ محمود للنرويج، ولجامعتها الفتية، قدراً كبيراً من التقدير والوفاء. .
(6)
في رحيله الفاجع، لم تبكهِ النرويج وحدها، ولا حَزِنَ بنك “بيبلوس” وحده. لا ولا “فرنسوا باسيل”، ولا أصدقاؤه هنا أو هناك. لقد فقدتْ الثقافة راعياً لم تقف يده عن دعمها، ولا تردّد قلمه في المساهمة الفكرية، ترجمةً وابداعا. لإنْ توزّعتْ اهتمامات محمود صالح عثمان صالح بين الاقتصاد والثقافة، فقد ترك بعد رحيله، صرحاً شامخاً هو “مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي”، ورمزاً خلد قيمة الوفاء لصديقه “عبقريّ الرواية العربية”، تمثل في جائزة الطيب صالح للرواية، كما أهدانا إسهاماً فكرياً تشهد عليه ترجماته التي ألقت الضوء على جوانب مُعتمة من تاريخ البلاد. في كلّ ذلك، ذهب نظره الكوزموبوليتاني إلى إنشاء علاقات أكاديمية وثيقة مع الجامعات النرويجية..
وفي الخرطوم، يطل صرح “بيبلوس” وفيه شيء من محمود، أما قلمه الناصع فتراه يبرق في خلوده ..
لا أحتاج أن اقترح مبادرة لتكريم الرّجل بعد رحيله، إذ الظنّ أنّ “مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي” في أم درمان، سيبتدع مبادرة، لن تتوانى أسرة الراحل عن دعمها واستدامتها، في ذكراه العطرة كلّ عام.. رحل ولكن فوح نداه بيننا لا يزال. .
++++++
الخرطوم-أول فبراير 2016
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكرا سعادة السفير جمال الشقلينى فقد اوفيت الرجل حقه ونسال الله ان يتغمده بواسع رحمته ويجعل البركة فى ذريته وان يجعله من المقربين حيث الروح والريحان وان يجزيه خير الجزاء نظير ما قدمته يداه للمحتاجين والضعفاء وما قدمه لوطنه الذى كان بارا به وهو من الذين تفتخر بهم اوطانهم سمتا ووفاء وصدق انتماء وميلا مع الحق ومجانبة للباطل خاصة باطل الانقاذ .

  2. رحم الله الأستاذ محمود صالح عثمان صالح..كان له أيضاً نشاط في العمل الطوعي البيئي من خلال منظمة (SOS Sudan)و هي رصيفة لـِمنظمة (SOS UK)….كان ذلك حتى بداية تسعينيات القرن الماضي… لا أدري شيئاً عن (SOS Sudan) الآن!!

  3. وايضا اوصلتنا هيلدا للانفصال وعاست عواسة شديدة فى الصومال وهذا موضوع اخر وماذا عن حلايب السودانية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..