ثقافة وفنون

لحن الحياة على وتر الخلود (قصة قصيرة)

جمال الدين علي

نعم.. لا.. لا تذكرت للتو; لقد كنت مدعوا في ذلك الحفل; السيدة الملقبة بالمشير هي التي بادرت و قدمت لي الدعوة; وأنا هنا أمنحها تلك  الرتبة الجمالية و التي في العادة لا يمنحها خيالي المستبد; إلا لذوات الطلة المهيبة الآتيات من بلاد الجن في أعماق البحر; خيالي النزق  يظل يجوب البحار مع السفن ويأتي بالقصص الأسطورية من الموانئ القابعة في ما وراء البحار. صرت مدمنا على العزف وأنا أتخذ من البحر مسرعا للعبث; في الأمسيات أذهب إليه أعزف  بالمزمار; النغمات العبقرية التي أحس وهي تنبعث من دواخلي وكأنها آتية من وادي عبقر; ربما يطرب الموج; وتتمايل من فرط النشوة قوارب الصيد الرابضة بجواري على الشط; وحينما يجن الليل يحملني هواء البحر إلى عوالم يحفها الغموض.
حدث الأمر بالصدفة;  ذلك الغروب الذي جرح خاطر الأفق حتى سالت الدماء وغطت سطح البحر; كنت أستلقى  في مكاني المعتاد على ظهر أحد القوارب المهجورة أودع نهار يوم مضى; أنكش دواخلي أبحث عن ذاتي المفقودة.
سمعت طقطقة خفيفة على جانب القارب; أوقفت العزف رفعت رأسي والتفت نحو مصدر الصوت. ثمة قمر وحوله نجوم أطل على السطح. حدقت في السماء القمر فوقي لم يبارح برجه والنجوم ساطعة تدور في مدارات لا متناهية. فركت عيني وعدت ببصري إلى قمر البحر.  خلته و خيوط النور تنسال تغسل صفحة الموج قد ابتسم لي; فبدأ وجهه براقا  ولامعا: هيا أكمل لماذا توقفت؟ عزفك حلو.
قال القمر بفرح و نوره يتمايل مع الموج. وانهالت الطلبات ثم ما لبث أن تحول الأمر إلى حفل صاخب. قفزت من مكاني على ظهر القارب وانطوى الفاصل بيننا. سحبني التيار وأنا أسبح بعيدا عن الشط. بعد فترة التفتت إلىّ وابتسامة آسرة تلمع على شفتيها.
– أقيم حفلا تنكريا لأصدقائي في القاع.
سكتت برهة: لماذا لا تنضم إلينا وتشاركنا المرح؟
وقبل أن آخذ نفسي جذبت المزمار من يدي وغاصت بي وتبعتها خيوط النور.  كنت أخشى ضياع المزمار الذي وعدت أمي قبل موتها أن أحافظ عليه و أن أعزف به فقط في حضرة أبي البحر. كلماتها وهي تحتضر لا زالت ترن في أذني: أنت لست أبني; أنت ابن البحر; البحر هو أمك وأبوك; لقد أنقذك من الغرق; ظلت أمواجه تهدهدك طوال الليل حتى وضعتك بهدوء على رمال الشط; حينما وجدتك كنت تغط في نوم عميق.
غصنا إلى أعماق سحيقة ثم توقفت مضيفتي فجأة وأشارت إلى كهف زجاجي شديد الإنارة: أنظر لقد وصلنا.
عند البوابة الزجاجية المضيئة وقف حارسان سامقان; تاه بصري وهو يرنو في فضاء هلامي للوصول إلى قمة رأسيهما. فتحا الباب بنفخة خفيفة كوميض ولابد أنهما انحنيا وتكسرا إلى أجراء صغيرة ونحن ندلف للداخل لأنني شعرت بالشرر يتطاير وينطفئ كفقاعات ملونة  تحت قدمي.
المكان غارق في النور; راحت عيناي تحدقان في  الأضواء  المتوهجة بألوان قوس قزح. كل شيء بدا جديدا ولامعا. أنا الكائن الوحيد القديم الجديد هنا. كأن العالم ليس بالعالم وكأن البحر غير البحر; انبثقت من جوفه عوالم  أخرى. عوالم من صنع خيال الجن. بصري صادق واحساسي بالأشياء من حولي يتأرجح بين الحقيقة والمجاز. كاذب من يقول أنني لم أفتتن وأنا أتجول ببصري في المكان بعد أن تركتني مضيفتي لتهتم بشؤنها الخاصة كما ذكرت; بين اليقظة والأحلام أتقلب على طبقات الأماني السندسية. هل  كنت مثل ذبابة شجاعة اقتحمت صالة فندق فخم وراحت تتجول وسط المدعوين كما لو أنها قد دعيت للحفل؟ ولكنني كنت مدعوا بالفعل ولم أكن متطفلا على أحد. ثم ماله الذباب أليس يمتع بحرية الحركة ويعيش الحياة على طريقته وهو بذلك أفضل مني بكثير. نعم هو أفضل مني برغم أنه يحط على موائد الملوك والروساء والأمراء وعلية القوم ثم يطير إلى مدن الفقراء ويصيبها بالمرض; لكن تلك شجاعة وذلك الاقدام يحسبان له وليس عليه.
عادت مضيفتي بعد أن عدلت هندامها. بدت متنكرة على هيئة كونتيسة من القرون الوسطى وهي بتلك التسريحة وذلك الفستان الفضي البراق. أعادت لى مزماري وقدمتني للمدعوين على أنني ابن البحر الضال الذي عاد بعد أن تاه وتخبط في الكون سنوات حتى وصل إلى طرف العالم الذي تسكنه الكائنات التي تسمي نفسها البشر. هتفوا بصوت كائنات كنت أجهلها برغم علمي أنها تعيش على كوكب ما بالقرب مني.  كانوا مبهورين بملابسي التنكرية التي قالوا أنها مبتكرة و مدهشة. وأنا أحدق في صفحة خدها الأملس وتلك الذبابة الجسورة تطن في مخيلتي; تخيلتها حطت فوق ذلك الخد المصقول; وقدمت فاصل  راقص انزلقت من أعلى لأسفل. وقفت على مشارف فمها; فركت أرجلها الخلفية ثم أزاحت ما علق تحت الجناحين وأنزلتهما ثم رفعت أرجلها الأمامية وصفقت بها أعلى رأسها وأنزلتها و انزلقت على جانب حتى كادت تهوي في… لو لا أنها نشتها بكفها; فطارت القبلة السكرى من خيالي وحلت الفكرة. هل تمنيت أن أكون ذبابة؟.
تذكّرت لحن الحياة والخلود وهي تناولني المزمار. الآن سيبدأ المرح; الصخب والجنون الحقيقي. نفخت روحي في فم المزمار; فاشتعلت الأرواح وتطايرت  شررا في الجو. صعدت على خشبة المسرح العائم في الفوضى الملونة; وأنا أترنح من فرط النشوة و بدأت في اطلاق نوبات جنوني. بعد مدة ليست بالقصيرة تناهي إلى سمعي صوت شيء صخم يشق بطن البحر وهو يتوغل في أحشائه لأسفل حتى ارتطم ذلك الشيء بالكهف الزجاجي; وحطمه وتناثرت شظايا النور في كل مكان; أغمضت عيني; وأنا أغرق شعرت بلحن الحياة الخالد يلامس وترا حساسا  بقلبي.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..